القاهرة 14 ابريل 2020 الساعة 02:01 م
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
تمثل مجموعة: "مقامات الاحتراق" للمبدعة الأردنية/ سناء الشعلان طور النضج في فن الكتابة القصصية. وعبر تفكيك دوال العنوان نلمح صوفية متبدّاة، عبر المقامات التي تحيلنا إلى حضرة الروح والذات، والتفكّر في الكون والعالم والحياة،عبر فيوضات العشق/الاحتراق/العذاب/الوجع الشهي/الصراخ الذاتي/التأوّه، وطرح الأسئلة، وغير ذلك.
وعبر المقامات: "المتن والهامش"،تحيلنا إلى إحالات واصفة، وتوضيحات متتابعة،ثم تنتقل بنا إلى حياتنا،ذواتنا/مجتمعاتنا/العالم،وكأنها تخاطب الروح الإنسانية من خلال سردها الغنى، المكتنز، الشاهق، الابيجرامي، الاختزالي، التراكبي، وعبر الانزياحات تحيلنا إلى فضاءات وإشاريات لخلف ظاهر النص السردي،وكصوفيّة عاشقة، تعبر بنا حدائق الوجد إلى مقامات العشق،حيث الحبيب/العاشق الذي يعرف تفاصيل خبيئتها،وجغرافيا الجسد وتضاريسه الشائقة،إلا أنه بعد أن يمضى ليلته معها نراه ينسلّ في هدوء،ليذهب بعد ذلك إلى فراش زوجته ،متعطشاً لممارسة الحب أيضاً ،وكأنه مقرر حياتي ،زير نساء كبير ، تقول: "أمضى ليلة في حضن سمرائه الصغيرة، لا يذكر تماماً أين قابلها، لكنه يحفظ جيداً جغرافيا جسدها، شرب منها حتى الثمالة، وانسل من جانبها، ليسدر في فراش زوجته التي طال انتظارها له،التصق بها، وقال بحروف الارتواء الولهى: "أنا عطشان اليك" (المجموعة ص:8).
إنها تتحرق شوقا للقياه، تحترق لذهابه في نفس الوقت عبر لغة الجسد الأيروتيكية المموسقة، تكمل مقاماتها الصغيرة، الابيجرامية، التى تختزل مواقف مجتمعية كثيرة،وتعرض لنا صورا مشاهداتية للتقارن، والتضام، والتقارن على حدّ تعبير "سوزان سونتاج"، وقراءاتها الجديدة.
ومن مقام الشوق، إلى مقام الموت: (موت الأم) إلى مقام الغياب: (حيث الأب الذى يبحث عن ولده الوحيد الغائب، وعندما وجده في صورة أخرى لم تسره، وجدناه يعود من جديد ليبحث عن ابنه الذي وجده، ثم إلى مقام: التمنى، الزهد، الخيانة، التضحية،الحياء، الوفاء، ومقام الحرمان، الغيرة، الشرف، التجربة، الحقائق، الاجتهاد، الصفاء، الاخوّة، مقام الثورة، مقام التوحد. وعبر هذه الإشراقات والسّرد المكثف الابيجرامى للأحداث المتغايرة، المتقاطعة، تقدم لنا /سناء شعلان، الساردة، مواقف مجتمعية وصوراً مشاهداتية لنتقارن، ونتضام معها،ونتوحّد عبر المواقف الإنسانية الكبرى.
ثم نراها تنتقل بنا من صحراء إلىذ سماوات، كصوفيّ عابدة، أو كفراشة في حديقة الجمال الإنساني: من المقامات إلى الأسفار، وكأنها تطرح صوفية جديدة تخصّها،وحدها، عبر المشاهداتية، والوصف السيميائي دون أن تتدخل في مسيرة السرد المتنامي، وفى هذه الأسفار تبتكر الشعلان شكلانية جديدة لمسرد حكاياتها القصصية، فالمقامات كانت موزعة – من قبل – على تسعة عشر مشهداً تغايرياً، والأسفار مثل (سفر الجنون) موزع على عدة أقسام فرعية: الجسد المجنون، قلب مجنون، عنبر رقم (9)، لحظة عقل، ليلة ماطرة تقريبا، خطوة واحدة، مسابقة شعرية، فقدان توازن الحالة المرضية رقم (100)، سفر الجنون، وهى عبر المقامات والأسفار: "رأها تذيّلهما بعبارات ضمنية، إحالية. فالمقامات تنسبها إلى "سمعان الأطرش"،الذي وصفته بأنه: "كان سيعطى.. لو سمع".
وفى قصتها: "هدية الإله" تؤكد هذه التجديدية الشكلانية، الإحالية، فتضيف إلى العنوان جملة: "قراءة في مخطوطة سفر العاشقين"، ثم تردف لنا في التذييل: (تحقيق فضيلة العلامة إنسان بن إنسان بن إنسان أطال الله بقاءه) وكأنها تتخلى عن شخصية الراوى العليم لتحيلنا –عبر المفارقة الدالة- إلى تهويمات وإحالات تخص "إنسان بن إنسان"، وكأنها تحكى قصة الإنسانية، إلا أنها بلغة تمايزية / وبإشارية دالة وجدناها تقدم التغايرية عبر سرد راق مهذب، تقول عن المرأة إنها كائن عجيب،خلقها الإله في لحظة تجل. وتظل تسرد لنا ماهية المرأة فتقول، كفيلسوفة عارفة بخبايا الذات، بخبيئة الأسرار: "إن الاله قد خلقها في لحظة تجل ورضا، وعلى أنه جعلها خلاصة إبداعه، وشبيه كل مخلوقاته، فأخذ من البحر هديره، ومن السماء كرمها، ومن الأرض حنانها، ومن الشجر حنينها، ومن الشمس وهجها، ومن الوحوش غضبتها.. ومن الزهور أريجها، ومن الماء عذوبته، ومزجها جميعا، ونفث فيها من روحه، فكانت المرأة. وأهداها للرجل الأول، الذي لا تذكر الأسطورة شيئا عنه سوى أنه كان كثير التذمّر، ولا يقدّر هدايا الاله، ويعيش وحدة خرافية" (المجموعة ص:60).
ومع إنصافها للمرأة، ووصف جوهر خلقها، نراها تقرّ بأن الاله أهداها للرجل منذ بدء التكوين، وتصف ذكوريته بأنه كثير التذمر، فهو كائن وحيد يعيش وحدة خرافية، إلى أن جاءته المرأة، فاكتمل نصف التفاحة الرائعة.
ومع هذه النظرة المحايثة للرجل، وذلك السرد الخطابي، نراها تؤكد تقريرية مقصودة،وربما كان هذا سمت بعض مسرودات القصص لديها،لكنها–فيما يبدو وأحسب- أنها تفعل ذلك بوعى،وقصديّة،أو لربما تريد تأكيد حقيقة ما، وهذا لعمري قد يخرج السرد عن مسيرته المتنامية، عبر هارمونية اللغة السلسلة المنهمرة من شلال فيزيقى،فيزيائي، غاية في السموق والروعة كذلك.
ولكننا عبر - تيار الوعى –، يمكن أن نلمح إدهاشية قصديّة الحقيقة التقريرية التي تتغيّاها ،فكانت المفارقة،والإزاحة في إبداء وجهة نظرها،نظر الراوي/ الساردة،عبر لغة شاعرة ،والا لما عاد الرجل ليطلب من الاله أن يأخذ هديّته،بعد أن نغّصت عليه حياته،وكأنها تستعيد قصة الخلق الأولى،حيث : "آدم وحواء"، وخروجه من الجنة بسبب المرأة. لكنها هنا تسرد ذاتها المهراقة على بوابات العالم التخييلية التى أحالتنا إليها، عبر المثيولوجيا، فجاءت الرموز الرياضية ( مخطوطةح / ب1)، ثم تلتها بأخرى تالية، والتي ذيلتها بعبارة: "تستكمل هذه المخطوطة ما سقط من المخطوطة الأولى. ( المجموعة ص63).
إنها تحيلنا إلى التشكيل البصري، القصص التفاعلية،المشهدّية التي تستدعى هوامش، وتذييلات وشروحا وانزياحات، وتضمينا وتناصا يعبّر عن الذات المأزومة، عبر الشخوص، ليصبح الهامش متناً، ويصبح المتن هامشاً، وكأنها تصنع عالمها/عالمنا عبر كاميرا الذات لديها، وعبر موضوعة المرأة، ومواضعات الرجل، وتموضعات السرد المكتنز، المحمّل بطاقات وحمولات دلالية، وجمالية، لإبراز جماليات الأنثى عبر سرد يسير بدينامية/ ميكانيكية، وعبر هارمونى ينتضم مسيرة الحكايات، وعبر البساطة / العقلانية/ التقريرية/ والموضوعات الحالمة أيضاً. كما تستخدم الكاتبة التقنيات الجديدة لشكلانية القصة القصيرة جداً، إلى جانب الابيجرام التي تتابع كمتوالية سردية مونقة، تالية شعرية إشراقية، وإن بدا السرد كلاسيكياً، إلا أنه يحمل روح النصيّة، عبر بلاغة الواقعي، الحياتي، العقلاني، والنفسي كذلك.
إنها سناء الشعلان، ابنة الأردن،التي حملت جغرافيا المكان والذات، وأحالتنا الى التاريخ، عبر الزمان والمكان واللغة، إلى سرديتها الشاهقة، وعبر التفاصيل الصغيرة لسرد محايث، رقيق، حالم، ومهيب لمسيرة الأنثى، التى تصوّر الحياة وتتعايش معها، تطبطب عليها، تصفها، تتدخل في تفاصيلها، تغايرها، تناظرها، تتسق معها، تندغم داخلها، وكأنها تقدم لنا تنويعات على إيقاعات السرد الإنساني، كما نراها طوال الوقت شهق للحب.. تتشهاه، تتغياه، تستنطق وجوده، تنشده عبر الكون والمجتمع، والعالم والحياة.