القاهرة 03 مارس 2020 الساعة 09:26 ص
حاتم عبدالهادى السيد
فى ديوانه : " وريقات من كتاب الشعر"، للشاعر والمترجم حسن حجازى نقف منذ البداية على جوهر الشعر وتساؤلاته الكبرى،يقول :
البحرُ من أمامِكم
والشِعرُ من خلفِكم
فإما الموتُ أو الكتابة
فأينَ تذهبون؟. ( الديوان ص:4).
إنه يحيلنا عبر الإرث التاريخى إلى ذواتنا،حين خاطب موسى بن نصير ،جيش طارق بن زياد ليسير لفتح أسبانيا (الأندلس) فوجدوا المحيط أمامهم ،بينما الأعداء ينتظرون عودتهم وانكساراتهم،فقال طارق قولته المشهورة :
"البحر من أمامكم،والعدو من خلفكم".فإما عبور البحر،وإما الموت والهزيمة،وربما هذا التماثل الاإحالي عند حسن حجازى قد جعله يجهر بتلك المقولة التاريخية الأشهر ،وإن عكس المعادلة التى ظننت أنه سيرددها فيقول : "الشعر من أمامكم ،والبحر من خلفكم"،لكن هذه التخالفية لأفق التوقع – لدىّ -كقارىء- تجعلنى أتسائل :لماذا الشعر من خلفنا ،وليس أمامنا؟ والإجابة لدى الشاعر : لأن الشعر متربّص بنا طوال الوقت ،( لو بطّلنا نكتب نموت )،وقد نجح الشاعر في استفزاز القارىء ،منذ البداية لماهية الكتابة، وأهميتها ، كجهاز التنفس للانسان، فالشعر هو أكسجين الحياة الخالد .
كما ينطلق الديوان من منطلق ميثيولوجى،عبر التعالقات الذهنية، لتماثلات الموروث الفرعونى والاسلامى،مروراً بالأزمنة والعصور،فهو يحيلنا كذلك إلى وصايا "الفلاح الفصيح "،ولكنه يعيد انتاجيتها عبر المعاصرة، فالمصرى القديم في وصاياه لم يلوث النهر ، ولم يكذب،ولم يسرق، وهو هنا يعيد لنا هذه المشهدية التاريخية في ثوب قشيب ،عبر لغة سلسة،ودون معاضلات لغوية،أو الغازية،ترميزية ، فهو يدخل بنا إلى التاريخ مباشرة ،عنوة ، ليحيلنا إلى الشعر ، إلى الحياة ، إلى الوجود ، يقول متمثلاً المصرى القديم، وشخصية "سيدنا موسى"،الحائر الذى يبحث عن بصيص أمل للخلاص من الهلاك، يقول :
ما حرقتُ سفيني/ولا مزقتُ دفاتري/وإنما أرسلتُ قلبي/خلسةً ../لعلي أجد قبساً من حب/أو جذوةٍ من نار/أحرِقُ بها زيفكم ../فأينَ تفرون؟. (الديوان ص :4 ) .
إنه الشاعر المقر بالإخلاص للشعر ، كما يقر بتجارب الآخرين من الشعر قبله ، ينشد المحبة، ويرفض خيانة الطريق، يقف على باب الحب والشعر صادحاً عبر خطابية رقيقة ، يوظفها فنية لخدمة القصيدة ، يقول :
ما خنتُ " ولادة "
وما داهنتُ "جبران"
وما نافقتُ " شوقي"
وما حفظِـتُ حرفاً
من شَعر الأقدمين
إنما سِرتُ
في ركابِ المحبين
أتقلبُ وحدي
على جمرِ الكلماتِ
وعبثاً تسرقني السنون . ( الديوان ص:7 ).
انه إذن الشاعر الفطرى ، الشفاهى ، الرعوى ينطلق من محراب الشعر إلى الذات ليحدثها ، يعيد مكرورية العصور ويتمثلها، ويجلس فى شرفة الذات باحثاً عن الأسئلة الكبرى ، الماهيات ، الحقيقة الأولى : الخلق ، الانسان ، الموت والميلاد ، الفضيلة ، الشعر ، جدوى الحياة ، انه يعيش الحياة شعراً ، ينام ويصحو على صوت القصائد ، يجىء الليل فينام وهو قابض بيد على الشعر والأخرى على وطن يتغياه ، يكتب له الشعر ، ويقبض على جوهره الشهى ، يقول :
تصبحونَ على خير ؟
أم على شِعر؟
فالقابضُ على وطنهِ
كالقابضِ على جمر. ( الديوان ص :10).
إنه الشاعر المحب ، الغاضب ،الثائر ، يدعونا لنغضب من أجل تحرر الأوطان ، تحرر القدس ، تحرر الذات من العجز ، الخوف ، الظلم ،لكنه يبحث فى الوجود عن صديق ، عن معين فلا يجد سوى الصمت والبحر يشكو لهما قسوة الأيام ،ومرار السنين ، يقول:" أقلبُ عيني فما من أحدٍ/سوى البحرِ/وصوتِ الموجِ / وانسدادِ الأفق). ( الديوان ص :18) وفى قصيدته: " أهل دمشق أدرى بشعابها" – والتى أهداها للشاعرة المغربية / فاطمة بوهراكة،نراه بلغة تهكمية -يلخّص قضايانا العربية ، همومنا الممتدة من المحيط إلى الخليج ، دموعنا المنسالة،والمنسابة كنهر يتهادى بالوجع الشهى ،المرير بحب الأوطان،والزاعق،والرافض لكل الممارسات غير المسئولة،من قبل أصحاب الرأى ،الاهمال ، العجز العربى ،التشتت ، الخوف،يقول عبر الحوارية الجميلة،"التراجيديا السوداء " : قالت أهل مكة أدرى بشعابها/ قلت :بل أهل دمشق /والناتو وداعش/وسكان العَراءفلا/ تسألي/عن المواويل الليلية/والأغاني الكلثومية/والقدود الحلبية/والموسيقى الصادرة/من بيتِ الحكمة ببغداد/أين توارت/وهي تبكي دمشق؟). (الديوان ص:24).
إنه يناجى مسيرة الشعر التاريخية ، يستدعى الشعراء القدامى، يعيد انتاجية الأحداث ، ومسروديات التاريخ ،فما أشبه اليوم بالبارحة،وما أشبه ثوار النكاح فى التحرير،بصراع الملل والنّحل،عبر العصور العربية المتشدقة باسم الاسلام ،والتى تلبس عباءة المسوح والدين،من أجل كرسى الخلافة،الحكم،الشعارات المزيفة التى رأيناها فى "ثورات الربيع العربى"،يقول : (أَفَاطِمُ مهلاً/فقد سَقطَ المتاع/في جهادِ النكاح/فيمَن أحقُ بالخلافة :/بنو العباس/أو...بنوأمية؟/أومِمَن يمتلكونَ/صكوكَ الغفرانْ؟/ومفاتيحَ الجنَانِ القمرية؟. ( الديوان ص :35) .
ولنا أن نلحظ بساطة التعبير ، وعمقه ،حمولاته الترميزية،وسياقاته التى - عبر التراسل والتعالق،والتضام،والاحالة،والتضمين،تحيلنا إلى عصور ومواقف وشعراء وأماكن وأزمنة متباينة متعالقة ، كأنها تتجدد ، وتعيد ليالينا العربية الحزينة في عصور التخلف والتمذهب والتعصب والحروب ، والصراع على قميص عثمان والخلافة المزعومة .
كما يمكن لنا أن نلحظ تخالفية الشعرية هنا ، فلا هى قصيدة نثر ،أو شعر تفعيلى،ولعله استفاد من عمله فى الترجمة،فبسّط العبارة بقصديّة،أو لعله أراد أن يصل للمعنى من أقرب الطرق،وبتكثيف شديد يحمل مضامينية ،وحمولات،تحاول تقصيد اللغة المائزة لتصل الينا فى شكل خطاب شعرى بسيط لغوياً ، لكنه يتقصّد التكثيف والتراكب،ويحاول خلق قصيدة تنتمى للشعر ،تتباعد عنه،تفر منه،اليه،تساوقه،تتماس معه وكأنهاأسلوبية خلف ظاهر المعنى،أو أنها قصيدة المعنى المباشر،الموشّى بمنمنمات تاريخية،وفسيفساء تراثية ،وبزخارف تحوى المعنى ليصل الينا،دون جهد،ودون مواربة،ودون ألعاب لغوية . وتلك لعمرى اشكالية كبرى،لكنه - ربما - لكونه مترجماً، أراد للكلمة أن تنطلق فى برية وفضاء المعنى ،ون رتوش،وبفطرية تشبه رعوية أولى،للكتابة الشعرية الصافية،الرقيقة ، المتهادية على بحر الشعر ،الذى يسع كل الأشكال،ويحتوى المعانى التى التقطها من طريق المجرّة الكونية الممتدة بالحب،ولعله كان واعياً بالمسألة،فى السؤال عن جدوى الشعر الآن، اذالعالم لا يستمع ، لا ينصت للأهوال الممتدة على محيط الكرة الكونية الزاعقة، يقول :
يا فاطمة :ما جدوى الشِعر في زماننا؟/ما جدوى الكلمات؟! ( الديوان ص:40).
انه اذن الشعر الشذرى عبر الابيجراما التى تحاول ارسال الاشارات الكبرى ، عبر الرسائل المكثفة التى تلخص قضايانا الكبرى العربية والاسلامية ،عبر رسائل شاعرة ، قصة شاعرة، كبسولة ، يقول :
جنيف 2 .. وسيكوس بيكو
من دارفور ..لكردستان
من عربستان ..لكردفان
مزادٌ كبيرٌ
لبيعِ الأوطان . الديوان ص : 41).
ولننظر إلى هذه الرسائل الموجهة ،للحاكم الجديد، يحذره بأدب ، يلفت انتباهه ،إلى عظمة الشعوب التى لن تسكت على ظلم ، بل ستسعى للثورة والتحرر فى أى وقت، اذ الشعوب حرة ، وقد اختص مصر كرمزية تجسدت فى ميدان التحرير ، وكأنه يربط الثورة المصريةبالمواقف النضالية الكبرى للشعب المصرى ، يقول :
قالوا :"جَوِع كلبكْ يتبعك/فإن لم تُطعمهُ ينهشك"/قلتُ : عفوا !/فالشعوبُ ليست كالقطيع/تُؤمرفتُطيع/فاحذر أيها القادمُ الجديد/ففي مصرَ شعبٌ عنيد (الديوان ص:49).
انها قصائد المعنى ، الشعر الهامس الرامز الذى يطرح التساؤلات بعيداً عن قالب الشعر الذى عهدناه ، فهنا كلام منثور ،شعر مغلّف بنثر، قصيدة شاعرة بامتياز ،تتهادى وتحاول أن تجد طريقاً بين ضفاف الشعر ،وبحره الهائج ، لذا نراه يسأل فى رفق، وببراءة مدهشة : هل يدخل الفقراء الجنة ؟!. وكأنه يلخص المعادل الانسانى لمابعديات الحياة ، يقول :
هل يدخل الفقراء الجنة؟
ربما ..
هذا إن كانوا سعداء
على وجهِ الأرض!
إذاً دعنا ننظرُ للسماء
في رجاء
نتضرعُ بالدعاء .. بالبكاء
علنا نجد السلوى
ونلتمسُ العزاء. ( الديوان ص :77 ) .
كما نلحظ استخدام الشاعر لتقنية الكتابة البصرية ، التشكيلية عبر هندسة الشكل الهرمى ، فقد ضبط متلبساً أخيراً بكتابة قصيدة عاطفية يبكى فيها غربة الذات وهو داخل الوطن ، غربة الروحرغم توإلى المحن ،غربتنا ، وهيامنا الدائم فى حب الوطن،الهرم الأكبر،مصر الخالدة،أم الدنيا،التى تلبستنا،فكتبنا فى حب العروس الكبرى "مصر"، أجمل معانى الحب،فى حضرة مولانا الشعر .
ضُبطَ
ضُبطَ متلبساً
ضُبطَ متلبساً بالشروع
ضُبطَ متلبساً بالشروع فى الكتابة
ضُبطَ متلبساً بالشروع فى الكتابة لقصيدة
وفى النهاية : يبقى ديوان "وريقات من كتاب الشعر "،تعبيراً نابضاً بالحب الكبير الذى يحمله الشاعر للوطن، وللعالم،فهو مشغول بالوطن وكتابة الشعر إلى مالا نهاية،وقد عبر عن ذلك – قدر ما يطيق – فخرجت الكلمات بفطرية مطبوعة، تتلمس روح الشعر،علّه يجود – يوماً -على قلمه الفضىّبقلائد الذهب الشعرية،لكنهرغم كل ذلك رأيناه قد أفلت من براثن الشكل ،ليهرب فى سرمدية العالم ، وحيداً يحمل ناى الوطن ، يغنى له عبر الحقول والجبال والسهوب ، وعبر المعاصرة والأصالة ، يصدح بالعشق وفيوضاته ، كصوفى حالم بدفء الشعر وتنهيداته ، يغزل له من عسجد روحه الفطرية الجميلة قصيدة الحياة ،عبر الوجع الشهى ،الزاعق ، فى بريّة العالم والكون والحياة .