القاهرة 11 فبراير 2020 الساعة 09:39 ص
كتب: طلعت رضوان
الإبداع الأدبي، سواء فى القصة أو الرواية أو المسرح، لا يستطيعه إلاّ كاتب يمتلك (مهارة الإبداع) وتقنيات الدراما بواسطة (خلق حالة من التوتر) الذى ينتقل إلى القارئ، الذى يستمر فى القراءة، حتى يعرف مصير شخصيات الرواية.
وإذا كانت بعض الأعمال الروائية تأتى فى مئات الصفحات (وبعضها يستحق مثل أعمال ديستوفسكى وغيره) فإنّ بعضها لا تستحق ويشوبها الترهل والاطناب.
وإذا كانت بعض الأعمال الشهيرة فى الأدب العالمي تمتلئ بالأحداث (مثل أعمال ديكنز وغيره) فإنّ بعض النماذج تعتمد على (حدث واحد وبسيط) وبالرغم من ذلك حقــّـقتْ تلك النماذج شهرة عالمية.. ونالتْ إعجاب وتقدير نقاد الأدب (كما فى رواية العجوز والبحر للروائي الأمريكي أرنست هيمنجواى.. وكما فى رواية الروائي الكولومبي (جابرييل جارسيا ماركيز) فى روايته البديعة (لا أحد يكتب للكولونيل) التى ترجمها المترجم الكبير(صالح علماني) بعنوان (ملتبس) يصعب على القارئ فهم مغزاه هو(ليس لدى الكولونيل من يـُـكاتبه) وبعد أنْ قرأتُ الرواية الصادرة عن دار الفارابي- عام1988، وعرفتُ محتواها، أسعفتني لغة شعبنا المصرى بترجمة العنوان ترجمة دقيقة، فكتبتُ فى الصفحة الأولى البيضاء (ما فيش حد بيكتب للكولونيل) وترجمته من المصرى للعربي فكان (لا أحد يكتب للكولونيل).
الحدث البسيط الذى ارتكز ماركيز عليه، هو أنّ بطل الرواية (كولونيل متقاعد) وينتظر(معاش تقاعده) الذى تأخر لمدة خمسة عشر عاما.. وطوال هذه المدة وهو يعيش على أمل وصول خطاب الموافقة على صرف المعاش.. وهذا الأمل جعله يذهب كل يوم جمعة (موعد وصول السفينة التى عليها البريد) وبعد عودته إلى البيت من الميناء، دون الخطاب المنتظر فإنّ زوجته تستقبله بسخريتها اللاذعة وتقول: لقد انتظرنا بما فيه الكفاية.. ويجب أنْ يكون للإنسان صبر الجاموس مثلك، لينتظر طوال خمس عشرة سنة. فقال لها زوجها: يجب أنْ ننتظر دورنا، إنّ رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
فكــّـر الكولونيل فى معاشه التقاعدي، بعد أنْ أصدر الكونجرس القانون، منذ تسعة عشر عاما.. ومنذ ذلك التاريخ ((بدأتْ المماطلة)) هكذا قال لنفسه.. وهذه المماطلة استمرّتْ ثماني سنوات.. وبعدها احتاج لست سنوات أخرى، حتى تمكــّـن من ضم اسمه إلى (قائمة المحاربين) ولما جاءه خطاب الموافقة على ضم اسمه، احتفظ به، وكل فترة يتأكد من وجوده بين أوراقه القديمة.. وتذكر زملاء فرقته العسكرية الذين كوّنوا (جمعية لقدماء المحاربين) وقال بحسرة: إنّ معظم رفاقى ماتوا وهم ينتظرون البريد.. وأضاف: إنّ ما أطلبه ليس (صدقة) وليس (قضية تقديم إحسان) لقد تمزّقتْ جلودنا لنــُـنقذ الجمهورية.
وكان ماركيز من البراعة عندما بدأ الرواية بتصوير الحالة المعيشية للكولونيل وزوجته، حيث حالة الفقر الشديد والتقشف حتى فى تناول الطعام.. وعندما كان ينظر إلى الساعة المُـعلقة على الحائط.. كان يخاطبها قائلا: لم يبق شيء فى البيت يستحق البيع غيرك.. وكلــّـما سمع تذمر زوجته يقول لها: لا تقلقي فسوف يأتي البريد.
وبالرغم من هذه الأجواء المأساوية، فإنّ ماركيز ببراعته الإبداعية، غلــّـفها بروح السخرية فى معظم صفحات الرواية.. ومن أمثلة ذلك الحوار بين الكولونيل وزوجته، حول الذهاب للكنيسة للصلاة على ابنهما المتوفى، واعتراض الزوجة على الحذاء القديم المهترئ الذى سيضعه زوجها فى قدمه.. وقالت له: هذا الحذاء يستحق الرثاء، ومكانه تلال القمامة، فقال زوجها: هذا الحذاء هو (حذاء الأيتام) فقالت الزوجة: نحن أيتام من ابننا المقتول.. وهكذا مزج ماركيز السخرية بالواقع، فإذا كان اليتيم- كما هو الشائع لدى كل الشعوب- هو الذى فقد أمه أو أباه- فإنّ المرأة هنا عكستْ العــُـرف وخالفته، واعتبرتْ أنها هي وزوجها (ضمن الأيتام) لأنهما فقدا ابنهما الشاب، عندما ضبطه أحد أتباع النظام، يوزع (منشورات سرية) فقتله.
كان طبيب القرية الفقير، يتابع حالة الكولونيل وزوجته الصحية.. وبالرغم من أنّ مرض الزوجة أسوأ من زوجها، فإنه يراها بقوة ألف حصان.. وأنه سيموت قبلها.. ولكنه لن يتركها (وحدها) وإنما سيصحبها معه إلى الجحيم.. كما قال للطبيب الذى كان يعطيه الصحف ومعها المنشورات السرية، ليقرأها ويــُـوزعها على أصدقائه.. وعندما دخل الكولونيل محل الخياطة وجد فوق الجيتار المعلق على الحائط لوحة عليها عبارة (ممنوع الكلام فى السياسة) وبالرغم من تلك اللوحة التحذيرية، فإنّ الخياط يفرح بدخول صديقه الكولونيل.. وهو يعطيه المنشور السرى، ليوزّعه على أصدقاء ابنه.. ويــُـذكــّـره بأنّ هذا الدكان كان مأواه، منذ بداية المصير الذى لاحق رفاقه فى الحزب، سواء بقتلهم أو بطردهم من القرية.
وبالرغم من أنّ الابن مات مقتولا بسبب نشاطه السياسي، فإنّ الأم كانت تتمنى لو غنــّـتْ له أغنية يسمعها فى قبره، فقال لها زوجها: إذا كنت ترغبين فى الغناء، غنى فهذا مفيد فى تحسين وظيفة الغدة الصفراء.. وهكذا يبث ماركيز السخرية مع ألم الفواجع الإنسانية.. وعندما هاجمتْ الحمى الكولونيل.. وهو يهذى عن الحرب الأهلية، فإنه أصرّ على أنها لم تكن حمى.. وقال: عندما أشعر بأنني مريض، فأنا أستحق وضعي فى (صندوق قمامة) وتمتد سخريته لدرجة أنه عندما يسمع دقات أجراس الكنيسة، فإنه يقول: إنّ (ملاك الحرب) يــُـنادى المؤمنين للصلاة.. وزوجته- هي الأخرى- تتميــّـز بموهبة السخرية، فعندما كان زوجها يتهمها بالتخريف، كانت تقول: عندما أكون فى حالة جيدة، فإني قادرة على (بعث ميت من قبره)
والكولونيل عندما يقرأ الصحف كان يقول: منذ فــُـرضتْ الرقابة على الصحف، فإنها لا تتحدث إلاّ عن أوروبا، فمن الأفضل أنْ يأتي الأوروبيون إلى هنا، ونذهب نحن إلى أوروبا.. وتستمر السخرية لدرجة أنْ قال: وهكذا سيعرف كل منا ما الذى يجرى فى بلده. فقال له الطبيب: إنّ أميركا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين، هى رجل له شارب يحمل جيتارًا ومسدسًـا.. ولكنهم لا يفهمون مشاكلنا.
وعندما كان الكولونيل يـتحـدّث بصوت مرتفع سألته زوجته: مع من كنت تتحدث؟ قال: ليس مع أحد.. كنتُ أفكر بأننا كنا على حق، أنا ورفاقي فى الجيش عندما قلنا للقائد فى اجتماع (ماكوندو) بأنْ لا يستسلم، فهذا هو السبب فى ضياع الجميع، ثم أضاف: إنني سأعتنى بنفسي لأكون صالحـًـا للبيع.. وأقترح (بيعى) لمصنع يصنع المزامير ليسعد الأطفال.
ترك ابن الكولونيل أثرًا وذكرى للوالديْن، حيث كان يهوى لعبة (صراع الديوك) فدرّب ديكــًـا على هذه اللعبة.. وذلك بهدف الدخول به فى المسابقات الشهيرة فى بعض دول أميركا الجنوبية.. وفى مشهد ساخر اجتمع أصدقاء الابن المقتول، وأحضروا الكثير من الذرة للديك.. ولكن الديك- كما قالت أم المرحوم- أصرّ على أنْ نــُـشاركه طعامه.. وفى المساء أصرّتْ على خروج الأولاد المشاغبين من دارها، لأنهم أحضروا (دجاجة هرمة ليجامعها الديك).
وفى تضافر السخرية مع تزمتْ القساوسة، فإنّ الكولونيل ذهب إلى راعى الكنيسة.. وطلب منه قرضـًـا، مقابل خاتم الزواج.. ولكن القسيس صدمه بالرفض، بحجة إنّ المُـتاجرة (بالأغراض المقدسة خطيئة) وعندما ذكر لزوجته ما حدث قالت ساخرة: عشرون سنة ونحن ننتظر عصافير المعاش، التى وعدوك بها بعد كل انتخابات، واختتمتْ سخريتها بطعم المرارة فقالت بغضب: لقد طفح كيلى من الصبر.. ولما ردّ الزوج عليها: لقد قمنا بواجبنا، أفحمته بقولها: إنهم كسبوا ألف بيزو(العملة الوطنية) شهريـًـا من مجلس النواب، طوال عشرين سنة.. وواحد منهم (دون ساباس) فإنّ بيته المكوّن من طابقيْن، لا يتسع لأمواله.. وقد أتى للقرية كبائع أدوية.. ويــُـعلق أفعى حول عنقه، فقال زوجها: ولكنه على وشك أنْ يموت بداء السكرى، فردّتْ عليه: وأنت تموت جوعـًـا، فحاول الزوج طمأنتها، فقال وهو يبتسم: سبق أنْ قلتُ لك إنّ الرب لن يتخلى عن غنمه.. وتذكري أنّ الربّ عضو فى حزبنا.
فقالت له وهى تــُـحرّك السبحة على أصابعها: توقف عن سخافاتك.. ولا تسخر من المُـقـدّسات. لقد كان لك الحق فى الحصول على منصب لائق.. ولكنهم كانوا يمزقون جلدك فى الانتخابات.. ولك الحق أيضًـا فى الحصول على معاشك التقاعدي، كمحارب قديم، بعد أنْ حشرتَ أنفك فى الحرب الأهلية.. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعـًـا حياتهم المأمونة، بينما أنت وحيد تمامًـا.. وتموت جوعـًـا.
ولأنّ الكولونيل يمر بضائقة مالية.. ويـُـعلق الأمل على وصول معاشه التقاعدي، لذلك رأى أنْ يستفيد من الديك الذى تركه ابنه المقتول.. ويدخل به مسابقة (صراع الديوك) على أمل أنْ يفوز الديك.. ويكسب منه بعض المال.. وعندما تذمّـرتْ زوجته من المال الضائع (فى سبيل توفير الطعام للديك) قال لها: إنّ أصدقاء ابننا الراحل يــُـوفرون الغذاء للديك.. ولكن جاره الانتهازي (دون ساباس) الذى طمع فى شراء الديك ليدخل به المسابقة، حاول إقناع الكولونيل ليبيع الديك، بحجة أنه لا يصلح للمسابقة، بعد أنْ أصابه الهزال.. وعرض عليه مبلغ تسعمائة بيزو.. وعندما تردّد الكولونيل فى الموافقة.. وقال إنه علم من بعض رفاقه أنّ المعاش على وشك الوصول، فإنّ جاره الطامع فى شراء الديك قال له: الشيء الوحيد الذى سيصل إليك (بكل تأكيد) هو الموت أيها الكولونيل.. وعندما ذهب الكولونيل إلى بيته.. ووقف يشاهد الديك.. ويراه بكامل حيويته، فإنّ الديك أطلق صوتــًـا حلقيـًـا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء، فإنّ الكولونيل شعر بأنه (شريك فى جريمة المصارعة) أوفى جريمة بيعه.. وقال للديك- كأنما يُخاطب صديقــًـا- إنّ الحياة قاسية أيها الرفيق.
فى الصفحات الأخيرة اختتم الأديب المبدع روايته، بأنْ مزج بين مشهد الصراع الدموي بين الديكيْن المتسابقيْن.. وما حدث للكولونيل فى صباح نفس اليوم، عندما ذهب إلى الميناء فى انتظار السفينة، التى عليها البريد.. وانصرف وهو يقول لنفسه: ها هو أسبوع آخر دون وصول الرسالة المـُـنتظرة.. وبالتالي تجـدّد الصراع النفسي داخله: هل يبيع الديك؟ أم يتمسك به؟ وفاءً لذكرى ابنه المقتول.. والذى كان يسعى لتحقيق وطن أفضل.. وبالتالي حياة أفضل.. وفى المنزل رأى الكولونيل زوجته تــُـجهد نفسها كي لا تبكى.. وقد أفزعه هذا الشعور خاصة أنه يعرف شخصية امرأته وطبيعتها القاسية.. والتى ضاعفتها قسوة سنوات انتظار المعاش.. والبريد الذى لا يصل.. ولا أحد يكتب للكولونيل.. ولما حاول تهدئتها لتكف عن البكاء بقوله: علينا بالصبر، قالت من بين دموعها: نصبر خمسة عشر عامًـا أخرى؟ فماذا نأكل؟ لم يعرف بماذا يرد عليها، وفجأة قال: نأكل فضلات البهائم.
وهكذا بالرغم من هذا الحدث البسيط (وصول خطاب المعاش) استطاع ماركيز بفضل مهارته الإبداعية، أنْ يكتب تلك الرواية- التى أراها- خالدة فى تاريخ الإبداع العالمي.. والتى قال عنها ماركيز فى حديث صحفي بمجلة (بوهيميا الكوبية) إنها أفضل رواياتي.. وكان علىّ أنْ أكتب (مائة عام من العزلة) لكى يقرأ الناس روايتي عن الكولونيل، المنتظر وصول معاشه..(وأنّ هذه الرواية لم تنل الشهرة كغيرها من أعمالي).