القاهرة 07 يناير 2020 الساعة 10:45 م
بقلم: طلعت رضوان
طغتْ شهرة (الروائية) على الشاعرة سهير المصادفة بسبب إبداعها الروائي مثل (لهو الأبالسة) و(ميس إيجبت) إلخ. وعندما قرأتُ رواياتها لم أكن قد قرأتُ شعرًا لها، ولكنني أدركتُ أنني أمام مبدعة تكتب الرواية بروح وبأسلوب الشعر.
ديوان (فتاة تــُجرّب حتفها) الصادر عن دار المسار- الشارقة، فى طبعته الأخيرة، يطرح سؤالا عن دلالة العنوان، فكلمة (الحتــْـف) فى اللغة العربية تعنى الموت.. والجمع (حتوف) ومات فلان (حتف أنفه) إذا مات من غير قتل أو ضرب أفضى إلى الموت (مختار الصحاح– المطبعة الأميرية بمصر، عام 1911– ص 138) إذن نحن أمام فتاة تــُجرّب (موتها) وإذا كان الطبيعي أنّ الإنسان لا يقوم بإجراء (تجارب) على موته (باستثناء محاولات الانتحار الفاشلة) نكون إزاء حالة وجودية/ فلسفية لتلك الفتاة التى تقترب من دهاليز الموت.. وهى تنبض بالحياة، لذلك تقول الشاعرة فى قصيدة (سُلم) "للروح سُلم/ غير تلك الجروح/ تصعده/ فإياك أنْ تنساب/ فوق أصابعي كالوقت/ واتــّـق شهبي/ دع فضائي لمنتهاه/ واترك أمطاري/ وأجراسي تدق/ واسحب وراءك/ كل أشكال الحياة" والشاعرة وهى تــُـرتــّـب قصائد الديون اختارتْ أنْ تكون قصيدة (إيزيس) بعد القصيدة السابقة مباشرة..
فإذا كان جدودنا المصريون القدماء ابتكروا (سلمًا) متخيلا لصعود الإنسان إلى عالم الآخرة.. كما ورد فى كتاب (الخروج إلى النهار) الشهير فى ترجمته الخاطئة (كتاب الموتى) فإنّ إيزيس العصرية تعتب على فتاها قائلة ((كيف وزّعتنى على كل النساء؟)) ويستمد الفتى ردّه عليها من أصل الأسطورة فيقول:(ألم تختاري منذ البدء/ لملمة جثتي من على كل الضفاف/ فصرتِ ربّة/ وبقيتُ أنا مجرد شتات.. وهنا (وفق قانون التداعي الحر) تـُحيل الشاعرة القارئ إلى أصل الأسطورة المصرية– التى سَطــّـرتْ منذ آلاف السنين– البُعد الأخلاقي الكامن داخل كيان الأسرة فى مصر القديمة.. حيث وفاء الزوجة (إيستْ= إيزى أو إيزيس وفق النطق اليوناني) لزوجها (أوزير= أوزيريس وفق النطق اليوناني) وكيف أنّ إيستْ جمعتْ أشلاء زوجها، ثم حوّلتْ نفسها إلى طائر احتضن جسد المرحوم فحملتْ منه فى ابنيهما (حور أو حورس وفق النطق اليوناني) ثم حصول حور على حق الجلوس على عرش مصر، بعد نزاع قضائي استمر لعدة سنوات، ثـمّ وفاء الابن (حور) لأمه إيست، ليس ذلك فقط ، فإنّ حور بعد أنْ يسترد عينه بفضل الإله (توت أو جحوتى) يُقـدّم عينه إلى أبيه (أوزير) إلى آخر المعاني الأخلاقية فى الأسطورة التى وظفتها الشاعرة توظيفـــًـا فنيـًـا بلغة الشعر، لتعكس ظاهرة التغيرات التى طرأتْ على الشخصية المصرية..
فإذا كان (أوزير) فى الأسطورة ظلّ وفيـًـا لزوجته (إيستْ) فإنّ إيزيس العصرية كما جسّدتها الشاعرة ترى حبيبها على النقيض، إذْ قالتْ له: كيف وزعتنى على كل النساء.. وهذا يعنى أنّ الشاعرة عندما تستخدم التناص مع التراث، لا تستخدمه وفق آلية التقابل أو التطابق كما يفعل كثيرون، لمجرد الاسقاط السياسي أو الاجتماعي.. وإنما تستخدمه وفق آلية الجدل بين الماضي الذى (كان) والحاضر المتغير.
ومثل القصيد السيمفوني الذى ينتقل بالمستمع من حركة إلى حركة، يأخذنا الديوان من قصيدة إلى أخرى بهدف تعميق معنى الجدل بين الحياة والموت فتقول فى قصيدة (حياة): ((لتلك الفتاة أنْ تـُجرّب حزنها/ فى صرة كبريائها/ وتحفر ظلا/ على رصيف ليلها/ ثـمّ تـصعد إلى الحياة)) ولأنّ الشاعرة شطبتْ من مفردات قاموسها اللغوي كل الكلمات والمعاني المباشرة، لتترك للقارئ حرية (فهم) ما يريد، لذلك فإنّ (حركة) الصعود فى البيت الأخير من القصيدة، ليس له غير دلالة أكيدة.. وهى أنّ الفتاة- قبل ذلك الصعود إلى الحياة- مثلها مثل الأموات.
والانتصار للحياة يأخذ شكلا آخر فى قصيدة (سَحْـل) حيث الفتاة التى تنظر إلى اللاشيء.. ومع ذلك يقتلها ((ذو اللحية البيضاء)) فى هذه القصيدة القصيرة جدًا (كأغلب قصائد الديوان) إدانة بالغة الأهمية عن تغلغل الأصولية الدينية التى لا يعترف أصحابها بحق الاختلاف.. وبحب الحياة بكل مباهجها.. ويرون أنّ البشر(فى أى مجتمع إنساني) يجب أنْ تنطبق عليهم قاعدة (تطابق المثلثات) فى الهندسة.. وأنهم وحدهم الذين يملكون الصواب المطلق وغيرهم فى (ضلال مطلق) وكانت الشاعرة موفقة تمامًا عندما جسّدتْ المُـفارقة (بلغة الشعر) بين القاتل (ذو اللحية البيضاء) وبين الفتاة التى تمتلك عينيْن بريئتيْن يُخايلهما ((عرش الشمس))
وقصيدة (زيارة القتلى) كتبتها الشاعرة على لسان قاتل يندهش من أنّ نصف الذين قتلهم يراهم فى أحلامه ((زارعين على عروات ستراتهم أرقام ترتيبهم فى جنتي)) وتكون المُفارقة فى ختام القصيدة.. فإذا كان (القتلى) يتوهّمون وينتظرون (جنة القاتل) فإنّ القاتل يتساءل ((من أين لي بباب أغلقه على هذا الجحيم؟)) هذه القصيدة القصيرة جدًا صياغة شعرية لمأساة البشر عبر التاريخ.. حيث تلك العلاقة الشائكة بين الضحية والجلاد.. ولماذا يتوهّم الضحايا أنّ جلادهم هو مُـنقذهم وأنّ الخير لن يأتي إلاّ على يديه؟ أسئلة فلسفية كثيرة تطرحها قصيدة سهير المصادفة بشاعرية أخاذة.. وبكلمات قصيرة.
وتأتى قصيدة (جرح العندليب) كلحن مُـكمّـل ومُعمّق لما سبق.. فالطائر المُغرد والمُحلق فى فضاءات الحرية ((جناحاه مترهلان)) ويعيش على الأرض (حياة الأوز آمنــًـا) ورغم ذلك يحن ((لدنيا الهوى/ ودفء البنادق)) فى أربع كلمات صاغتْ الشاعرة التعارض الحاد بين الحب والقتل.. هذه القصيدة تؤكد على موهبة الإيجاز والكثافة الشاعرية.. ورأيتُ أنْ أنقلها بالكامل للقارئ علــّـه يشاركني الرأى.. قالت ((غريبٌ أمر هذا العندليب/ جناحاه مترهلان/ وفى الصدر جرح/ فلماذا يحن/ بعدما عاش على الأرض/ حياة الأوز.. آمنــًـا/ لدنيا الهوى/ ودفء البنادق)) فهذا العندليب المترهل هو كل إنسان قانع بالذل.. ويعيش وهم إمكانية الجمع بين نقيضيْن..
وتأتى قصيدة (فارس) لتكون أشبه بالديالوج مع القصيدة السابقة فتقول كلماتها (كنْ مرة واحدة فارسًا/ وتعلــّـم أنْ تبحث عنى/ عند ضعف القناصين/ جرّب مثلا/ أنْ تموت كمدًا فى مكانك.. وأنْ تحزن/ ولومن أجل شجرة صامدة) هنا الإيحاء أبلغ من الإفصاح.. فالشاعرة تــُـقيم حوارًا جدليًا (بلغة الشعر) بين العندليب المترهل.. والفارس (المنشود) (كنْ مرة واحدة فارسًا) أي الإنسان النبيل القادر على تأمل (الصمود) ولو فى شجرة، لأنّ تأمل صمود الأشجار.. هو فعل الإنسان الحر القادر على مقاومة كل أشكال الانكسار.
وفي قصيدة (تمثال الكاتب المصرى) بدأتها هكذا ((شجرٌ إذا ما زار قلبي صباحًا أخضر/ تحوّل إلى جميع ألوان المحبة)) ولكن قرب نهاية القصيدة نجد أنّ المناجل ((تــُـصر على ترتيب أخطائي/ على عتبات الآه وعلىّ أنْ أمشى/ وأنْ أختار مفتاحًا لبحر من البحار/ السماء ملتصقة برأسي/ جنتي أصنعها على هواي/ وأنصال سيوف لامعة/ تجبرني على الجلوس القرفصاء)) هنا لا تستلهم الشاعرة التراث المصرى القديم فقط.. وإنما تتماهى معه.. فهي تصنع جنتها على هواها، بالضبط كما جاء فى البرديات المصرية القديمة عن وصف حقول اليارو (أى الجنة) وأشهر هذه البرديات كتاب (الخروج إلى النهار) ففي هذه البردية الموجودة فى المتحف البريطاني برقم 10470 وتحمل اسم صاحبها المرحوم (آنى) الذى حكمتْ المحكمة برئاسة الإله أوزير بدخوله حقول اليارو.. وتــُـصوّر البردية المرحوم.. وهو يُمارس ما كان يُمارسه فى حياته على الأرض، أي الاشتغال بالزراعة.. ونراه وهو يقود زوج من الثيران أثناء دراس القمح ومنظر الجــُـرن الذى يوضع فيه القمح إلخ (أنظر ترجمة عالم المصريات محسن لطفى السيد الذى حرص على وضع النص الهيروغليفى مع ترجمته إلى اللغتيْن العربية والإنجليزية- مطابع روز اليوسف عام 2004ص 492) أما النصال اللامعة فى القصيدة.. وما تبعها من الجلوس القرفصاء.. فهو جدل الحاضر مع الماضي.. وكان تمثال الكاتب المصرى أحد رموز الحضارة المصرية التى أطلق عليها علماء المصريات ((حضارة الكتابة)) (انظر الحياة اليومية للآلهة الفرعونية- تأليف ديمترى ميكس، كريستين فافارميكس– ترجمة فاطمة عبد الله محمود، هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الألف كتاب الثاني– عام2000 ص15) و ((أول حضارة إنسانية عظيمة معروفة)) (أنظر فرنسوا دوما- حضارة مصر الفرعونية، المجلس الأعلى للثقافة- عام98 ص541)
فإنّ الشاعرة ترى أنّ الجلوس القرفصاء (حاليًا) جاء نتيجة إجبار من السيوف اللامعة.. فهل تقصد سيوف الأصوليين المعادين للحضارة المصرية؟ سؤال طرحته علىّ كلمات القصيدة مع مجمل أعمال سهير المصادفة الشعرية والروائية.. ولعلّ مناجاتها الأسيانة فى قصيدة (اعتراف) أنْ تكون دليلا على ما أذهب إليه.. فهى متيمة بالوطن و((حواريه الضيقة.. وخفة ظل زحمته فى الظهيرة)) ولكنها (رغم كل ذلك) تنحصر أمنياتها فى ((فكوا من على روحي سلاسل جهلكم.. سأعترف بأنى راكعة أمام شمسه القاسية.. وعتبات جداته الحكيمات ونسائه المُـتعبات.. وسماجة فتيانه العابرين.. أنا وآلهة فارمونى بلا رحمة على صدره الصلد العنيد)) فإذا كانت الشاعرة فى بداية القصيدة متيمة بالوطن.. ولا تـــُـزعجها حواريه الضيقة إلخ.. فإنّ ما يقتل روحها سلاسل الجهل، لذلك تخـتـتم القصيدة (وهى فى حالة وله) بأنْ ترتمى على صدر هذا الوطن رغم كل شيء..
نفس المعنى يتردّد فى قصيدة (قميص أزرق) فقالت ((أنْ يضيق القل ب/ على قميص أزرق/ بلون نيل محايد/ يلعب دور قـوّاد/ ليست هى بحال من الأحوال/ نهاية الحياة)) فكلمة (محايد) التى وصفتْ بها النيل.. هى المفتاح لفهم رمز النيل كشريان لحياة شعبنا.. وصمته (= صمتنا نحن) ليس عن تلوثه فقط.. وإنما عن استغلاله فى أعمال غير مشروعة.. وهى ما أوحت به فى تعبير((يلعب دور قـوّاد)) ولعلّ موقف الشاعرة الرافض للمتغيرات الاجتماعية والثقافية التى أثــّـرتْ بالسلب على شعبنا.. هو ما دفعها لأنْ تكتب فى قصيدتها المعنونة (قصيدة): ((سأكتب يومًا ما قصيدة/ يتفق على جمالها الأصدقاء/ والناس قاطبة/ ينثرون على عينيها الأغاني/ ينهشون استدارة صدرها/ فى الزوايا المظلمة/ فاتحين جلدها الوردي/ ليقفوا على سرها)) وتكون المفاجأة (الفاجعة) فى البيتيْن الأخيريْن حيث ((ولن يتركوها/ إلاّ وهى جثة هامدة))
وإذا كان عنوان الديوان هو (فتاة تــُجرب حتفها) فإنّ الشاعرة كانت موفقة وهى تــُـرتبْ القصائد، إذْ جعلتْ قصيدة (حكمة الفتى) آخر قصائد الديوان وفيها نقرأ ((الشفقة لا تجوز على/ فراشات تحترق/ لم نحتس نحن ذروة اشتعالها/ الفتيات مثل النجوم/ معلقات بحفنة دموع/ ولكل واحدة منهنّ/ لونُ حتفها المحتوم)) هكذا ربطتْ الشاعرة بين عنوان الديوان.. وآخر قصيدة كتأكيد لما هو منثور فى كل القصائد عن تلك العلاقة الجدلية (الأزلية) بين الحياة والموت.. وبلغة الشعر وبأقل الكلمات.
الوصف واللغة الشاعرية المُـفارقة:
فى قصيدة (صمت) تقول الشاعرة ((بالقطع بعد الصمت صمت/ وسنوات من النسيان/ بالقطع من كفيك/ سوف ينبتُ نخل وميزان)) فالميزان هنا رمز للعدالة يتجاور مع النخل رمز الزراعة التى هي مبتدأ الحضارة.. وهو ما يدل على وعى الشاعرة العميق بمفردات الحضارة المصرية، حيث أبدع جدودنا إلهة للعدالة (ماعت) وإلهــًـا للشمس (رع) وإلهــًـا للنيل (حابى) وإلهــًـا للحبوب (نبرى) وإلهة للحصاد (رنوتيت) وتكون المفارقة فى ختام القصيدة حيث ((وتصب علينا الشمس رغوة نورها/ فنبكى)) فإذا كانت الشمس تــُـسقط الضياء والحرارة.. فضياؤها هنا (رغوة نور) بما للرغوة من دلالات الفقاقيع فكان من الطبيعي أنْ يكون البكاء.. وفى قصيدة (لحن) يقول المايسترو إنّ الأنامل لا تكفى لعزف هذا اللحن.. فتكون النهاية ((ومات على خاصرة اللحن/ مُشيّعًا بصوت السنابل))
وفى قصيدة (نحو الغسق) فتاة (تلوك بعض الحشائش/ من منتزه القلب الورع) وهى تــُـشبه ((مقعدًا فارغًا فى حديقة موحشة)) وتكون المُـفارقة فى الختام حيث ((من قال أنها تــُـعانى من وحدة)) وقصيدة (آخر المقطع) تبدأ هكذا ((آخر هذا المقطع سينتحر المُغنى) فهل انتحر؟ تأتى النهاية مُـفارقة للبداية، إذْ أنّ المُغنى ((سيودع فضاء اللحن/ كما يليق بفارس/ يدخل قرص الشمس/ بمهماز فضي/ ليضمن لهذا المشهد البقاء)) وفى قصيدة (اليوم) جهّزتْ الشاعرة سفنها للإبحار.. واختلستْ وردة ذابلة خبّأتها فى قميصها.. ورغم أنّ اليوم صحو تأتى المفارقة ((وكم يصلح أنْ يكون طعامًا/ لوحوش كاسرة))
وفى قصيدة (المرايا) فتاة تسير((على حنق المرايا/ وتزرع فوق ذراع الحبيب/ سِوَارًا من طين/ ظلها ولظاها)) فالطين الذى يُخصب الأرض.. صنعتْ الفتاة منه سِوارًا حول معصمها.. ولكنه سيكون الظل (كرمز للحماية والاحتماء) وفى نفس الوقت سيكون اللظى (كرمز للهجير والتصحر) وفى قصيدة (عازف البيانو) جمعتْ صياغتها بين توظيف الأسطرة.. وإدانة تراث العبودية.. وإدانة إقصاء الآخر المختلف بلغة الفن الآسرة.. وكنتُ أقرأها وكأنني أستمع إلى قصيد سيمفونى.. حيث تقول كلماتها ((أكان لابد/ لكى أجدك/ أنْ تقصّ زوجاتُ الغول/ من شعرى بلادًا كثيرة/ أنْ يسألني كلُ بوابِ مدينةٍ أجتازها/ عن ولع الروح/ فى الجسد الشاهق/ وعن أحلى أسيرة/ أنْ يلهو الأطفال فى شوارع قلبي/ بأحذية غليظة/ وأنتَ هنا/ طوال الوقت/ تعزف بأصابعي/ أغنية طويلة)) وبالتوازي مع إدانتها لكل أشكال الأحادية الفكرية المدمرة لأى مجتمع بشرى..
دافعتْ (بلغة الشعر) عن التعددية التى هي أساس أي تحضر فكتبتْ فى قصيدة (اختلاف على صوت فيروز): ((على الأرغول نموت تارة/ إنـّا اختلاف عائم وغارق لامحالة)) والمفارقة الشعرية هنا تكمن فى الجدل بين أطراف الصراع الحضاري حول قضية حق (الاختلاف) فمن هو الذي سيتمكن من السباحة ومن الذى سيغرق؟ هكذا صاغتْ الشاعرة تلك القضية المصيرية بست كلمات ((إنــّـا اختلاف عائم وغارق لامحالة)) أى إما النجاة أو الغرق.. واللغة المُـفارقة نجدها (كذلك) فى قصيدة (نجاة الصغيرة) حيث الفتاة ((تحنُ إلى نبضة فى الوريد/ تسير على هواها/ لتكتب شعرًا لا تــُـغنيه نجاة الصغيرة/ ولا تهتف به فى خدورهنّ/ الصبايا)) ولكن فى البيتيْن الأخيريْن تكمن المُـفارقة، فهذه الفتاة التى تكتب الشعر((ترسم على كل ثغر جميل/ كارثة مدوية وآية))
وعلى نفس المتوالية تــُـشعرنا الشاعرة بالمفارقة فى قصيدة (نحو الغسق) حيث ((تصعد الفتاة نحو الغسق/ تــُـنير رغبة مُتقنة/ على حافة دمعة مورقة/ تلوك بعض الحشائش/ من منتزه القلب الورع)) وتأتى المُـفارقة فى ختام القصيدة حيث ((من قال إذن/ أنّ الفتاة التى/ تــُـشبه مقعدًا فارغًا/ فى حديقة موحشة/ تعانى/ من وحدة)) وهكذا فى كل قصائد الديوان، لغة شاعرية مفارقة للمألوف.. ولكنها تعكس تراجيديا الحياة فى جدلها مع الموت.. فنكون إزاء معانى فلسفية بلغة الشعر.. وبكلمات قليلة يكتبها البعض فى عدة صفحات، بينما فى هذا الديوان فى نصف صفحة.