القاهرة 03 ديسمبر 2019 الساعة 09:58 ص
كتب: د. محمد السيد إسماعيل
قراءة فى ديوان "حين كانت الأرض قابلة للحياة" لمحمد غازى النجار
من الظواهر اللافتة التى شاعت مع بدايات شعر التفعيلة ظاهرة تداخل الشعر مع غيره من الأجناس الأدبية والفنية كالسرد والمسرح وفن السينما والفن التشكيلى وقد اتضح ذلك فى ديوان "حين كانت الأرض قابلة للحياة" لمحمد غازى النجار.
لكن قبل رصد هذه الظاهرة ينبغى التوقف أمام عنوان الديوان الذى يوحى بالحنين إلى ماض منفلت من يد الشاعر هذا الماضى الذى كانت الأرض فيه قابلة للحياة بما يوحى أنها أصبحت الآن مكانا للموت لقد أصبحنا أمام ما يسمى بالجحيم الأرضى هذا التقابل بين الماضى والحاضر سيظل فاعلا على مدار الديوان مثله مثل التقابل بين الرقة والعنف، فالشاعر ينهزم حقا أمام الرقة فى الوقت الذى يكون فيه قادرا على مواجهة أقسى ظروف الحياة ويصبح الحب هو مبرر وجوده فى الحياة؛ مما يعد مدخلا إلى عالم التصوف.
وهذا ما نجده فى بعض المواضع فى الديوان حين يتحدث فى "تقاطعات" عن الدرويش واستغراقه فى الذكر وهو يفتح تنورته و" كأنه طبق يطير" لكن هذا لا يمنع الطابع الحسى؛ مما يعنى تداخل الروحى والجسدى كما نلاحظ فى مواضع أخرى تداخل الإنسانى والعناصر الطبيعية حين يقول:
" مااادا ذراعيه فى ياقوت صدره تسبح الطير / توقظ أحلام الميتين / مااادا ذراعيك كأنك البحر فى إحدى لوحات السرياليين".
ويتضح توظيف هذه السطور لبعض تقنيات الفن التشكيلى ويظهر ذلك من تكرار ألف المد فى "مااادا" للإيحاء بالطول إن الشاعر هنا يخاطب البصر كما فى الفن التشكيلى الذى هو بالأساس فن بصرى ولهذا لم يكن غريبا أن يشبه الشاعر الصورة كلها بأنها إحدى لوحات السرياليين وأن تحمل القصيدة عنوان "ترتيل سريالى" وأن يشير إلى اللون من أول سطر حين يقول:
"لها لون الشهوة وسطوة الغريزة"
بل إنه يستوحى بعض اللوحات المعروفة مثل "على عتبة الخلود" لفان جوخ وهى آخر لوحة رسمها قبل أن يطلق النار على نفسه ويتماهى الشاعر مع جوخ حين يقول:
"يحترق النخيل فى صدره / ترتطم الصخور عن نفسه متلبسا قناع فان جوخ ".
ويظهر خيال الشاعر الفانتازى السريالى حين يتحدث عن " رجل بلا رأس " فى قصيدة "بلارأس" التى تتكون من خمسة مقطعات وتبدأ بعبارة " الرجل بلا رأس" لكن كل مقطع منها يقدم هذا الرجل فى صورة مختلفة فمرة يتخذ بعدا سياسيا ومرة بعدا دينيا حين يقول:
" الرجل بلا رأس وربما ذو لحية يتقدم عبر المدينة ".
ويظهر البعد السياسى حين يقول "الرجل الذى بلا رأس يتقدم عبر المدينة ينزع عن الناس رؤوسهم يخبرهم بأنهم بين أيد أمينة" ويأمرهم ألا يروا من الألوان إلا لونا واحدا الذى يقرره هذا الرجل ويقف أبناء الشمس على النقيضمن هذا الرجل وأبناء مدينته الخانعين، أبناء الشمس "يبحثون عن الأصالة فى الأشياء" ولاشك أن الشاعر واحد من أبناء الشمس هؤلاء لهذا جعل الشعر بديلا عن عجزه أو تعويضا له حين يقول:
" لأننى لا أحسن التعبير عن ذاتى أكتب الشعر ...لأننى ممزق مثل شهاب تناثر بين المجرات أكتب الشعر".
والأسلوب هنا أسلوب حجاجى يقوم على ذكر السبب والنتيجة وتظهر فيه سمة التكرار وإيمان الشاعر بضرورة الشعر هو ايمان بقيمة الجمال الذى ينبغى إعادته إلى العالم ومحاولة إصلاح العالم هى رغبة تجمع بين الفيلسوف والشاعر وايمان الشاعر بقيمة الجمال هو نوع من المقاومة مقاومة الغربة التى يحسها دائما فى طريق لا يعرف أوله من آخره ومقاومة الخفافيش التى تقتات دمنا كما يستفيد الشاعر من بعض الأساطير مثل أسطورة إيكاروس الذى واصل طموحه فى الصعود حتى أذابت الشمس شمع جناحيه وسقط فى هوة عميقة، كما يظهر البعد الثقافى فى هذا الديوان حين يشير الشاعر إلى العديد من مصادر الفكر والشعر وأعلامهما.