القاهرة 22 اكتوبر 2019 الساعة 10:33 ص
كتب: طلعت رضوان
كتب كثير من المؤرخين والباحثين عن معتقلات هتلر النازية والتعذيب الوحشى للمعتقلين.. والمعاملة اللاإنسانية داخل المعتقلات.. وركز معظم الباحثين على (قتل اليهود داخل أفران الغاز).. وبالتالى انطبع لدى القراء أنّ الاعتقالات والتوحش النازى شمل اليهود (فقط) أو- فى أقصى تقدير- أنّ الغالبية العظمى من المعتقلين ((كانوا من اليهود)) بينما الهجمة الشرسة شملتْ كل من اختلف مع سياسة هتلر المعادية لأبسط المبادئ الإنسانية، من الليبراليين والماركسيين وأى صوت حر مُـعارض للنازية، بغض النظر عن جنسياتهم أو دياناتهم.
وللأمانة فقد صدرتْ بعض الكتب القليلة، التى تناولتْ حقيقة (تنوع) المُـعتقلين من ديانات وجنسيات مُـختلفة.. وبالتالى نفى مؤلفو هذه الكتب أكذوبة أنّ الاضطهاد النازى شمل اليهود (فقط)..كما جاء فى معظم الكتب التى موّلها وروّج لها عتاة اليهود (من اللوبى الصهيونى).. ولم يقف الأمر عند تأليف الكتب؛ وإنما امتــدّ ليشمل السينما.. كما جاء فى فيلم (قائمة شندلر) إخراج (ستيفن سبيلبرج) المعروف بميوله الصهيونية.. وهو نفس المخرج الذى أخرج فيلم (أمير مصر) للأطفال باستخدام أحدث التقنيات التكنولوجية لأفلام الرسوم المتحركة والذى اعتمد على ما جاء فى التوراة لتشويه الحضارة المصرية.. ومن هنا لضم العداء لمصر بانحيازه لإسرائيل.. والذى تجسّـد فى فيلم (قائمة شندلر) الذى بالغ فيه بما تعرّض له اليهود من اضطهاد وتعذيب فى المعتقلات النازية.
وأعتقد أنّ ما كتبه الأديب الألمانى (برونوأبيتز) فى روايته (عريان بين الذئاب) يـُـعتبر وثيقة دامغة تنفى الادعاءات الصهيونية، حول التركيز على اليهود (وحدهم) الذين تعرّضوا للاضطهاد النازى.. وتأتى المصداقية من أنه كان أحد المعتقلين فى سجون هتلر؛ حيث اعتقلته السلطات النازية، بسبب انخراطه فى صفوف أحد الأحزاب الماركسية.. ودفاعه عن العمال وبعد أنْ قضى عدة سنوات فى المعتقلات القديمة، تقرر نقله- مع آخرين- لبناء معتقل جديد فى (منطقة بوخنفالد) بنظام السُخرة واستمرّ وجوده فى المعتقل ثلاث سنوات، وخرج منه عام 1945 مع آخر من غادره من المعتقلين، أثناء هروب الضباط النازيين من المعتقل، بعد أنْ علموا باقتراب قوات الجيشيْن الأمريكى والسوفيتى.. وبالتالى هزيمة ألمانيا النازية.
وبعد خروج برونو من المعتقل.. وعودته للحياة الطبيعية، شارك فى النشاط الثقافى (رئيس تحرير صحيفة) (ومخرج مسرحى)..وفى عام1950التحق بشركة أفلام (ديفا) لكتابة قصص لبعض الأفلام.. ومن بين تلك القصص كتب قصة (طفل فى المعتقل) وهى قصة حقيقية عاشها فى (معتقل بوخنفالد) وتفرّغ لكتابتها لمدة سنة كاملة.. وفى عام1958نالتْ هذه الرواية جائزة الدولة من حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية وهوالذى أعـدّها للسينما.. وقد لاقى الفيلم ترحيبـًـا من الجمهور والنقاد.
ترجم الرواية الماركسى الشهير د. فخرى لبيب.. وصدرتْ عن دار الثقافة الجديدة عام1978..وذكرظروف وصول الرواية إليه.. وهو معتقل فى فترة الستينيات. وظروف ترجمتها.. وتهريب الورق والقلم.. ودور الزملاء فى حماية كل فصل بعد ترجمته وكيف خرجتْ الرواية من المعتقل عام1961.. وظلــّـتْ (معتقلة) فى الأدراج إلى أنْ تـمّ الإفراج عنها بعد17سنة من ترجمتها.
اتخذ المُـبدع واقعة حقيقية هى دخول طفل عمره ثلاث سنوات إلى المعتقل داخل حقيبة كان يحملها مواطن بولندى، من الذين تـمّ اعتقالهم فى بولندا.. وترحيلهم إلى ألمانيا.. وبشكل روائى بديع يتعرّف القارئ على (تنظيم القيادة الدولية للمعتقل) وهو تنظيم يـُـدار بسرية تامة.. وله قائد لا يعرفه أحد من المعتقلين باستثناء زميليْن اثنيْن (فقط).. وقد أسند ضباط النازى للمعتقلين مهمة الإشراف على (نظافة المعتقل ومتابعة سير العمل فى بناء الزنازين وطهى الطعام إلخ).. هذه المهام جعلتْ المعتقلين يتعرّفون على كل صغيرة وكبيرة داخل المعتقل.. وبذلك أصدر قائد المعتقلين تعليماته بتصنيع الأسلحة التى سيقاومون بها الجنود النازيين، عند إعلان التمرد العام.. وهذا القائد أوكل لمساعده بعض الأمور البسيطة دون الرجوع إليه.
كان من بين هذه الأمور دخول الطفل إلى المعتقل.. ولما سأله مساعد القائد عن أسباب وضع الطفل داخل حقيبة ولماذا تجشـّم حمله من بولندا إلى ألمانيا.. وخطورة ذلك عليه؟ وسأله: هل أنت أبوه؟ فقال: لا، لقد تـمّ اغتيال والده فى غرف الغاز فى (معتقل أوشتفير) وكان الطفل عمره ثلاثة شهور.. وأضاف أنّ جنود النازى قتلوا كل الأطفال.. ولكن هذا الطفل كان دائم الاختباء منهم. تأثر(هوفل) مساعد قائد المعتقلين بحالة الطفل.. وتوجس من رد فعل المعتقلين، الذين (قد) يرفضون وجود الطفل؛ لأنه لو اكتشف الجستابو أمره، ستكون كارثة تنزل على كل المعتقلين.. ومع ذلك فإنّ هوفل حسم الأمر، وقال للبولندى الذى جاء بالطفل: اطمئن الطفل سيبقى معنا.
فعل ذلك بالرغم من الأخبار التى وردتْ للمعتقل بقتل سبعة آلاف ضابط وجندى سوفيتى رميـًـا بالرصاص من ظهورهم.. ومع تطور الأحداث، إذا بكل المعتقلين يتعاطفون مع الطفل، وبخاصة بعد أنْ شاهدوه داخل الحقيبة.. وقد تدثر بخرق بالية، وكان ينكمش فى نفسه ويرتعب من الذعر كلما حاول أحد المعتقلين مداعبته.. ولكن عندما يسمع صوت الرجل البولندى (يانكوفسكى) الذى حمله من بولندا، يشعر بالاطمئنان.. وتنفرج أساريره.. وفى (معتقل التعذيب والموت) كان على المعتقلين حماية الطفل، فأخذه (مسئول الأمانات) لرعايته ووضعه فى مكان لا يخطر على ذهن ضباط النازى.. ولكن عندما تسرّب خبرالطفل إلى ضباط النازى، الذين شعروا بالإهانة لأنّ المعتقلين استغفلوهم، فكان لابد من العثورعلى الطفل، وأنّ العثور عليه سيكشف الرموز الكبيرة فى (التنظيم الدولى للمعتقلين).. وعندما تأكــّـد المعتقلون من هدف ضباط المعتقل.. كان عليهم البحث عن مكان لا يخطر على ذهن الضباط.. واقترح مسئول عنبر الأمراض المُـعدية، أنه أنسب مكان لاختباء الطفل؛ لأنّ الضباط (كلهم) يخشون من دخول هذا القسم.
كيف تغلــّـب المعتقلون على هذه المشكلة؟
تـمّ تفريغ أحد البراميل وتحويطه من الداخل بالقطن المعقم، مع تخريمه لعمل فتحات للتهوية.. ومن الخارج وضعوا بعض قطع الشاش المُـلوث للتمويه.. وبدأ اهتمام المعتقلين بضرورة توفير اللبن والسكر للطفل وبالفعل نجحوا فى ذلك بمعرفة الزملاء المسئولين عن إعداد الطعام للضباط النازيين.. ومشروباتهم.. (ومع ملاحظة أننى أختصر التفاصيل المُـهمة والشيقة، التى برع المُـبدع فى تجسيدها.. وتدور حول الصراع النفسى داخل صدور المعتقلين.. وهم يـُـنفــّـذون بعض المطالب من أجل الطفل.. وهم يعلمون عاقبة اكتشاف أمرهم بمعرفة ضباط الجستابو).
وفى وصفه لعنبر الأمراض المُـعدية، ذكر المبدع أنه كان فى الأصل (إسطبل خيول).. وتستقبل الداخل رائحة كريهة.. وكان الذين يعانون سكرات الموت، يرقدون على أرضيته، على زكائب من القش.. وكان سحب الجثة إلى الخارج من فوق الأرض، أقل تعقيدًا من سحبها إلى أسفل من الأسرة الخشبية، ذات الطوابق الثلاثة والقائمة على طول الحائط.. وأضاف- من خلال خبرته طوال سنوات اعتقاله- أنه لا مكان للتفكير بأسلوب عقلانى فى هذا المكان، لأنّ المشاعر الإنسانية مُـنعدمة.
خمّـن ضباط الجستابو داخل المعتقل أنّ (هوفل) هو الرجل الثانى بعد قائد تنظيم المعتقلين.. و(ياكونسكى- الرجل البولندى الذى جاء بالطفل) أنّ هذيْن الشخصيْن هما اللذان وراء اختفاء الطفل، فكانت النتيجة أنْ صد الأمر بتحويلهما لعنبر التأديب للحصول منهما على اعتراف بمكان الطفل.. وأسماء قادة التنظيم السرى للمعتقلين. ولكنهما رفضا البوح لا بمكان الطفل ولا بأسماء قادة المُـعتقلين، وذلك بالرغم من تعرضهما لأبشع أنواع التعذيب.. وكان من بين الأساليب التى كانت شائعة فى المعتقلات النازية، تعرية الإنسان وينام على بطنه فوق أسياخ من الحديد الصلب (على شكل شنابر متفرقة ومسنونة)..وبعد ذلك يتم شد ذراعىْ المُـعتقل وتقييد معصميه، كى لا يستطيع الحركة.. ويتبع ذلك الضرب بالسياط ذات الدبابيس.. وعلى هذا الوضع يتناوب ضباط الجستابو مهمة التعذيب.. وكلما شـدّد الضباط وتمادوا فى التعذيب، تماسك المُـعتقلان.. ولكن الروائى المُـتفهم لخصائص وسمات الطبيعة البشرية- كما وصفها علماء النفس- لم يستسلم لغواية (تضخيم) الدور البطولى للمعتقليْن.. ولذلك أظهرهما- فى أكثر من مشهد- وهما فى حالة ضعف نفسى وعقلى، لدرجة البكاء.. وأنهما أصبحا لا يحتملان التعذيب.. وبناءً على ذلك قال (هوفل) لزميله: إننى سأعترف بما أعرف.. وأنا لن أحتمل المزيد من التعذيب، فيرد عليه زميله بضرورة التماسك، وأنّ هذا الوضع لن يدوم.. وببراعة إبداعية من الروائى يكتشف القارئ، أنّ الزميل الذى أظهر التماسك.. ونصح زميله بالشجاعة؛ لأنّ الاعتراف سيترتب عليه القبض على زعماء التنظيم السرى.. وبالتالى تقويض التنظيم، فإذا بهذا الزميل ينهار ويبكى.. ويقول إنه سيعترف ولم يعد يحتمل التعذيب.
هذه المشاهد صوّرها المبدع فى عدة فصول شيقة.. وتجعل القارئ يلهث- كما حدث معى- لمعرفة مصيرهذيْن المعتقليْن، اللذيْن دار الصراع النفسى داخلهما حول إما: (حماية الطفل وحماية قادة التنظيم السرى) أو الاعتراف كسبيل وحيد للتخلص من التعديب.. وبالرغم هذا إذا بهما يتماسكان حتى الصفحة الأخيرة من الرواية.
ولكن السؤال هو: كيف فعل الروائى ذلك؟
أظهر المبدع دور التنظيم السرى فى متابعة أخبار الزميلين المعتقليْن، بواسطة بعض الزملاء القريبين- بحكم عملهم- من عنبرالتأديب.. وإرسال الرسائل الرمزية (بدون كلام) عن ضرورة التماسك.. وأنّ الدافع لهذا التماسك هو الأخبار المؤكدة عن قرب وصول الجيش الأمريكى وجيوش الحلفاء ضد النازية، وبخاصة قد ساد شعار المعتقلين: بعد أسبوعيْن سنكون أحرارًا أو أمواتا.. وهو الشعار الذى وصل إلى الزميليْن المعتقليْن بأسلوب (شفرة العيون وتعبيرات الوجه).. ومع ملاحظة أنّ حرص قادة التنظيم السرى على حياة (هوفل) بمراعاة أنه كان ((هو المعلم العسكرى لفرق المقاومة ضد ضباط وجنود النازى)) عندما تحين لحظة التمرد العام.
وبالرغم من أنّ التنظيم السرى مؤمّـن بأساليب تمويه محكمة، فإنّ قائد التنظيم قال لزملائه: إنّ التنظيم مكوّن من بشر.. وصحيح أنّ لديهم عزيمة.. ويتحدون الأخطار، قإنّ هناك قوانين تسود زنازين التعذيب.. وهناك يكون الإنسان بمفرده، ومن ذا الذى يعرف إذا كان سيظل صلبـًـا تحت التعذيب. فقال له أحد الزملاء: لقد أقسمنا بقسم: أنْ نموت ولا نخون، ثـمّ تراجع وأضاف: ولكن بين القسم وتنفيذه توجد عدة مراحل للطبيعة الإنسانية، حيث يفكر الإنسان مع بشاعة التعذيب عن مصيره: هل سينجو؟ هل سيعود لأولاده وزوجته؟ وإذا مات من التعذيب فما مصيرهم؟
فى الصفحات الأخيرة من الرواية يتصاعد التوتر الدرامى، ويدور الصراع بين طرفيْن: الطرف الأول ضباط الجستابو الذين يأمرون الطرف الثانى (مسئول المعتقل وهو أحد المعتقلين) وعليه أنْ يـُـطيع أوامر الضباط الصادرة بتجهيز المعتقلين لترك المعتقل إلى معتقل آخر.. وسبب الصراع بين الطرفيْن أنّ جيوش قوات الحلفاء، أعداء النازية اقتحمتْ برلين، وأنّ جيش هتلر قد انهزم.. وتبعـًـا لذلك دار الصراع بين الطرفيْن: الضباط كل خمس دقائق يـصرخون فى الميكروفون لتجميع المعتقلين، وركوب سيارات الترحيل، بينما المعتقلون صدرتْ إليهم تعليمات (قادة المقاومة) بالاستعداد لبدء التمرد العام، وإخراج الأسلحة والقنابل المخبوءة، للرد على جنود النازى فى حالة التصدى لهم.. وهذا الصراع استغرق الصفحات (من464- 494) وتــُـعتبر الصفحات الأخيرة ذروة التوتر الدرامى، حيث إنّ ضباط الجستابو عندما تأكــّـدوا من هزيمة جيشهم، بدأوا يهربون من المعتقل، فصاح المعتقلون: أحرار، أحرار.. ومزّقوا راية الصليب المعقوف.. وعلقوا مكانها قطعة من نسيج أبيض. وتجمّـعوا حول الطفل.. ومواطنه البولندى يحمله للرحيل إلى بولندا.. والكل يسعى للفوز بقبلة وحضن يحملان عبق الطفولة.