القاهرة 10 سبتمبر 2019 الساعة 12:41 م
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
إنها العراق ، جمهورية البرتقال الحزين –، جمهورية الأدب والابداع ، وقلعة التاريخ والحضارة، كما وصفها الشاعر الكبير / إبراهيم الخياّط – رحمه الله -، والذى لقى مصرعه في حادث أليم، بعد معارك مستمرة خاضها من أجل العراق، والعرب، ضد الصهاينة، وأعداء السلام والحرية، فكان رجل المقاومة العربية القومية الذى لقى حتفه بعد أيام من دفاعه عن قضايانا العربية الكبرى.
إنه المبدع العربى الكبير إبراهيم الخياط ابن العراق، والعرب قاطبة، الذى فاجأنا جميعاً برحيله الغريب المفجع، فقد كان رحمه المولى عز وجل أميناً عاماً لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، ورجل الفكر والسياسة والابداع الذى تخرج في مدرسته كثير من المثقفين العراقيين ، وفى الوطن العربى.
ويبدو أن جمهورية البرتقال – كما تنبأ –هى التى صرعته ،حين أعلن – عبر ديوانه الأول - "جمهورية البرتقال " : " انه قاب قتلين ، أو أدنى " – حسب التضمين القرآنى– " وقد تحققت نبوءة الشاعر حين قال :
إنه / قاب قتلين أو أدنى
/ فحقّ عليها لقول،
بعد انتهت أحلامه ،
وصار يبكي / بعد الحزن الأربعين
على رجيف ناياته.. حتى صار يعلم
أن البحر صغير ( ديوان جمهورية البرتقال :ص 11 ) .
إنه الشاعر الذى صرعته القضية ، العجز العربى ، الخنوع ، الصمت ، الخسارات والانكسارات في جسد الوطن الجريح .
وشاعرنا إبراهيم خياط، هو صوت الضمير الإنسانى الحر ، جيفارا العرب ، الذى يظهر من جديد ، ليحقق التحرر ، ويستنهض الأمل في تحرر الشعوب ، والذات ، والمجتمعات التى تشرذمت بفعل التفكك والمؤامرات التى أرادت تقسيم الدول العربية إلى دويلات لصالح الصهاينة والإمبريالية العربية ، لذا لا غرو أن يستنطق ذلك في أشعاره فيصدح بالمرار كطائر مهيض الجناح يبكى على أمة تنزف :
عشرون عاما وأنا أبكي
عشرون عاما وأنا أغزل رئة ثالثة
فالأولى للقطران / والثانية للشهيق /
وهذي الشفيفة للبارود الجميل . ( الديوان :ص 35).
إنه الشاعر الذى بكى دجلة والفرات ، بكى صور الدمار والحرب الأمريكية الغاشمة التى أسقطت الهيبة والزعامة العربية في شخص الرئيس/ صدام حسين ، والتى مثلت إهانة لكل عربى ، يقول :
صرتَ جثة تسعى
حين زلزلت الطائرات اللاهبات قاع دجلة،
صرتَ جثة تسعى حين داهمك الجوع القاتم
حتى نسيتَ أن هويتك تجهر بانتمائك لأرومة النفط
صرت جثة تسعى بين الصدى والصلوات
بين ريح النفايات ورياح البساتين المهجورة . ( الديوان ص : 149) .
إنه يستلهم الحضارة العراقية السومرية التى علمت العالم ، ودنسها همج الغرب في سجون أبوغريب ، وعبر هدم المعابد والتراث الروحى والتاريخى العراقى الرصين.
انها الحروب التى تصنع التاريخ ، وتلهم الشعراء قصائد المقاومة ، وتبرز الرجال الأبطال الذين يقدمون الروح رخيصة من أجل رفعة الأوطان ، يقول :
ساحت بحر بين زنبقة دمي / وإذ ينام الوطن / كان سريري الموحش ملقيا / أبكي عليه/ نثيثاَ/ من سماوات عيوني المستريبة / وأقص للملاءات ملاحم الدم الناصع . (الديوان ص :49 ) .
إنه الشاعر الذى يقدم النص المفتوح / الحداثى ، فيمزج بين التفعيلة والنثر، ليقدم المعنى على الموسيقا ، وليرفع من شأن القضية وكأنه أراد أن يقول : هذا ليس مجال موسيقى وغناء ، بل مجال حزن وانكسار ، وحينها تنكسر القصيدة متواشجة مع بكاء القلم ، وصوت الناى بقلبه الحزين ، يقول :
أكاتبكِ الآن، وأنا على مرمى قتبرة من الموت. ومنكِ على مرمى حلم ملثّم. أكاتبكِ وأنا أطل – بما تبقى من رأسي – على هرم الرؤوس اليانعة. أكاتبكِ وأنا أعاقر حزني وأراني طاعنا في كآبتي … إلخ( من قصيدة :وكانت معركة ، الديوان : ص 115).
إنه في هذا الديوان، يخاطبنا –الآن- بعد موته ، ويقدم الدليل جلياً على قتله ، فهو مقتول لا محالة ، شهيد داخل شرنقة القصيدة / الحقيقة / البرهان / واليقين الدال على الخيانة الكبرى .
وهو فوق كل ذلك شاعر العروبة ، والقومية العربية التى غامت رؤاها وتبددت ملامحها فعبث بها شياطين الظلام في ربوع العالم الذى يتشدق بالحرية ، يقول :
تحت الكراسي العربية/ اكتفت القديسة العذراء/ بالتريّض في شرنقتها المنسوجة/ من حرير النكبات/ وصمغ الاكتئاب/ فتبيت – كل نكبة – / ملولة/ – كإمائهم إياها – تنتظر من يخون إمبرياليته / ويطارحها النسيب الساخن / في شتاء المذابح . ( من قصيدة “زينب”، الديوان : ص 61).
ونراه مصراً على أن تكون العروبة – كما تنبأ –هى مشيعته الأولى ، العراق ، مدينته التى شبهها بالثكلى الطروب ، فكان الجوّاب الذى يطوف حول أرجائها ، وهو المشتت بين المدن وفى عواصم العالم ، يشتم رائحتها ، ويستشرف أن تشيعه حتى مثواه الأخير ، يقول :
فطالما شيعتني هذه الثكلى الطروب / التي أسميتها مدينتي وسمّتني جوّابها المُقيم / (…) / ولم رأى قفا هودجي / ما شبكت عشري على راسي أمام راهب النهر لأن يديّ / أمس / قريرتين نامتا في سهرة الأرض الحرام / (…) / وفيك لطواف / كنت آتيها من البارود / المُرهب بوشيج يقين – ص 127 و128 ) .
حتى النهاية نراه قد تنبأ بها – دون أن نعى – وكأنها نبوءة شاعر كان ينادى شاعراً آخر فيقول : " فإنك إن تكلمت مت .. وإن سكتت مت .. فقلها ومت " ، فقد قالها ، ومات ، وصرعته آلة الخيانة والعجز والصمت والركوع والانكسار الحزين ، الذى يشبه البرتقال في أواخر فصل الخريف ، فكان بهاء النهاية ، واستشهاده المهيب/ المحيّر ، يقول :
إنهم يعرفون البداية/ هاهنا كانت طلولي/ وغرانيق الرواية/ دم الائلة ملء قميصي/ وبهاء النهاية/ – وأنت من أنتظر / لنرقص في سلة الحشائش / نغفر للبكارة العجيبة/ ونلوث الراية/ إنهم يعرفون البداية/ كلهم داسوا الورود واتهموك وأد الطبيعة/ وألبسوك جناية/ فترنّح / أحبيبي ترنّح/ ودعهم يهيمون بانثيالات/ رقصتك الأولى / فها هنّ نسوة الدمع/ تعسكرن / بأثوا بالعدو/ قطّعن حنظلة القلوب / برتقالة هي خارطة العين .. (حُداء الغرانيق، الديوان :ص 27).
إنه شاعر البرتقال والياسمين الحزين ، شاعر العروبة الذى يبكى في العراق فيتسمّع صراخه من في مصر والشام ، شاعر العروبة والحب والعدل والحرية ، أهرق دموعه ثخينة على جراحنا العربية ، وأهريق دمه الطاهر على أسفلت الطريق ، شهيداً يعانقه الياسمين ونطوق قبره بالعطر :
بعد ما خلت منّي نار الياسمين/ ونامت غربتي الكريمة/ – في مهاجع البخور – / تحلم به لأتى على الشعراء حينٌ؟ / وها أنت ذا بخذلانك تيّاه . (قصيدة “تفعيلة الخذلان”، الديوان :ص 139).
وفى النهاية : لا نجد أجمل مما قاله المبدع الكبير /“فاضل ثامر” عن الراحل الشهيد : (إبراهيم الخياط شاعر يمتلك صوتا مميزا بين أقرانه؛ شاعر يذكرني بالسياب وبسعدي يوسف، فهو يمتلك ناصية اللغة ويجعلها تتصدر التجربة الشعرية . ولغته تراثية أنيقة قلما يقترب منها شاعر مُحدث؛ ربما فعل ذلك السياب؛ لغة قد تكون “جواهرية” في نصاعتها وإشراقها . هو شاعر مهموم بالحياة؛ مهموم بالقضية، مسكون بحب الوطن، بحب الأرض، ولذا تجده دائما يقيم هذه الحوارية بينه وبين المستقبل، بينه وبين الآخر، بينه وبين الإنسان فيتدفق شعر قلما تجده بين مجايليه من الشعراء. إنه تجربة شعرية خاصة بحاجة إلى معاينة) .
إنه فعلاً ، صاحب تجربة خاصة ، لأنه صاحب قضية ، صاحب رسالة سمقت بشموخ باذخ في حب الوطن والعروبة والاسلام .
رحل الشهيد / إبراهيم الخياط لكن كلماته وشعاره الذى كان يرفعه لم يرحل : إذا عرفت أكثر فاحذر الأهوال ، لكنه مات مثل قليلين، دفاعاً عن الأوطان ، وحق لنا أن نستعير شموخ الشعر الذى قيل في الزعيم / جمال عبدالناصر ، لننثره وروداً وياسميناً حول قبر ابراهيم خياط :
قتلناك يا آخر الأنبياء
وليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياء .
ستظل روحك ، وكلماتك ، وأشعارك ، رتقاً في ثوب أعداء الظلام ، ولينير الله عز وجل قبرك الطاهر الذى تعطر بالشهادة على رصيف الحياة ،وفى الكون والعالم الممتد.