القاهرة 11 يونيو 2019 الساعة 11:26 ص
كتب : د. حسين عبد البصير
في البداية، أتمنى أن يسمح لي كاتبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل باستعارة الجملة الفرعية في اسم كتابه القيم "نجيب محفوظ..صداقة جيلين" الذي كتبه عن عميد الرواية العربية الكاتب الأكبر الأستاذ نجيب محفوظ كعنوان لشهادتي المختصرة عن الكاتب الكبير والصديق العزيز الأستاذ محمد جبريل.
وفي رأيي، يعتبر الكاتب الكبير والصديق العزيز الأستاذ محمد جبريل من كبار كتاب الأدباء في مصر والعالم العربي. وكانت بداية معرفتي بهذا الكاتب الكبير والإنسان الراقي المتميز والأب المعلم والأستاذ في ندوته الأسبوعية الخاصة بجريدة المساء والتي كان يعقدها في مبنى نقابة الصحفيين القديم في شارع عبد الخالق ثروت في وسط القاهرة. وكنت ألتقي فيها مع الأستاذ محمد جبريل أنا وعدد كبير جدًا من الزملاء والزميلات من الأدباء والشعراء الشبان. وكنا نقرأ عليه ما نكتب وكان يوجهنا بوجهة نظره الأدبية الثاقبة ويرعى المجموعة بأبوة كبيرة ويسدد خطواتنا الإبداعية في البدايات بحنو بالغ.
محمد جبريل الفرعوني
ولعل من أحب الأعمال إلى قلبي، بحكم تخصصي في تاريخ وحضارة وآثار مصر الفرعونية، روايته البديعة "اعترافات سيد القرية" والتي نشرت عنها دراسة في مجلة "الثقافة الجديدة" بعد صدورها مباشرة منذ أكثر من عشرين. وكان قد كتبها عن شخصية وزارية ونيابية كانت لها مكانة كبرى في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. وتختلف الرواية التاريخية ذات الإطار الفرعوني عند الأستاذ محمد جبريل عن أنواعها عند كتاب آخرين أمثال الكاتب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ والكاتب الكبير الأستاذ عادل كامل؛ فكلاهما استلهم التاريخ، واستخرج منه الوعي السياسي الذي يشير به إلى الحياة المعاصرة، أي أنهما كانا يكتبان التاريخ من وجهة نظر تاريخية، وربما حاول الأستاذ الكبير نجيب محفوظ معالجة الثيوقراطية في الحكم في رائعته المهم "العاشق في الحقيقة" عن الملك أخناتون، ولكنها كانت ذات حس سياسي صرف، غير أن الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل لم يفعل هذا فحسب بل، انطلق من فضاء أرحب من ذلك الفضاء، ومن خلال المفهوم الميثولوجي بشكل عام شامل، وجاب من خلاله هذه الرواية، التي لم تأخذ حقها بعد، آفاق الحياة الرحبة في مصر القديمة باقتدار بالغ وبفنية عالية وشكل فني بديع وبمضمون مثير. وعمل على تأطير ذلك كله من أكبر كبيرة إلى أدق الوثائق، معيدًا رسم الحياة في مصر الفرعونية وهذا العالم الثري الذي لا يقدر على فعله إلا كاتب قدير مثل الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل. وحقيقة الأمر فقد بدأ الاهتمام بالتراث الفرعوني في هذه الفترة ينمو بشدة. وأتمنى لهذا الوعي والاهتمام بالتراث الفرعوني أن يتزايد ويزدهر. لقد توغل الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل في التراث المصري القديم الفرعوني يخبر دروبه ويسبر قضاياه، وصاغ لنا رائعته تلك والتي تدخل في نطاق ما أسميه "أدب السيرة الذاتية الإنكارية"، أو بـ"أدب الاعتراف الانكاري". وحقيقة الأمر فإن الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل مهموم بالإنسان وقضاياه وينشد العدالة ويهدف إلى تغيير الإنسان من خلال أدبه الراقي.
وتمتاز رواية "اعترافات سيد القرية" بثراء المفهوم، وجودة الشكل وجدته، وحساسية اللغة وتفجرها الدائم بالثراء البناء وبروعة "اللفظ الذي يغري بالمعنى"، كما قال الكاتب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، واللفظ هنا متعدد الدلالات والقراءات. إن لكل شعب مفتاح الشخصية، ومفتاح شخصية الشعب المصري التدين، وليس التدين فحسب بل التدين العميق. وتقوم الرواية على مشهدين، الأول مشهد الوفاة، والثاني مشهد المحاكمة. وتبدأ الرواية بمشهد الوفاة كما يلي :"لقد مات المواطن زاو مخو، سيد قرية ونيس القريبة من مدينة "إثيت ثاوي". انطلقت من بيته صرخة، أعقبها بكاء ونشيج، وأقدام مهرولة من –وإلى– داخل البيت. طافت النسوة حول القرية، يبكين، ويندبن، ويرحين الشعور، ويعرين الأثداء، ويلطمن الرءوس بالأيدي، ويصبغن الوجوه بطمي النيل.. فعرف أهل القرية أن زاو مخو قد مات".
وتأتي تجربة الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل المهمة معنية بالانطلاق من مفهوم ميثولوجي كمحاولة جادة على طريق البحث عن شكل روائي جديد في الأدب العربي. ومن هذا المنطق بدأ الكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل في نسج خيوط روايته وفهم ما أقدم عليه من أعمال تتعلق بالتراث المصري القديم.
محمد جبريل مؤرخ مدينة الإسكندرية
وتمثل مدينة الإسكندرية بتاريخ الحاشد وعوالمها السرية والشعبية محور عدد كبير من أعمال كاتبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل. وتدور أحداث أعماله الأدبية في غالبيتها في منطقة بحري تحديدًا. ويتناول الكاتب القدير الشخصيات السكندرية الشعبية بعمق كبير في أحياء مدينة الإسكندرية المختلفة مما جعل منه مؤرخ مدينة الإسكندرية الجميلة بامتياز، ومدينة الإسكندرية هنا هي المدينة بكل ثرائها الأخاذ وجمالها الفريد وتاريخها العظيم. ولعل أهمها رباعيته الكبيرة عن المدينة والتي أُطلق عليها "رباعية بحري" نسبًة إلى ذلك الحي العريق في مدينة الإسكندرية والذي يضم منطقة الأنفوشي وقصر ثقافتها الشهير والتي أنجبت عددًا من رموز الثقافة المصرية مثل وزير ثقافة مصر الأسبق الفنان المبدع الأستاذ فاروق حسني والذي بدأ حياته العملية مديرًا لقصر ثقافة الأنفوشي، وكذلك عاش بها الشاعر الكبير الأستاذ سيد حجاب، والذي يعد واحدًا من أهم شعراء العامية المصرية والذي صاغ وجدان المصريين بأشعاره الجميلة. وتتكون هذه الرباعية من روايات أربع. وتتخذ من أولياء الإسكندرية في منطقة بحري عناوين لأجزائها الأربعة التالية: "أبو العباس" و"ياقوت العرش" و"البوصيري" و"علي تمراز". وجاءت الرباعية من وجهة نظر كاتب مصري. وتقدم لنا العالم السري لشخصيات عديدة مثل علي الراكشي، وشخصية أنسية، وحمادة بك، وغيرهم. واقترب عدد فصول الرباعية من 150 فصلاً روائيًا. وهذه الرباعية هي الرباعية المصرية عن مدينة الإسكندرية العريقة، وتماثل رباعية الإسكندرية المكونة من الأعمال التالية :جوستين وبلتازار وماونت أوليف وكليا للكاتب الروائي والشاعر وكاتب أدب الرحلات البريطاني الشهير لورانس درايل ورواية ميرامار البازغة للعم الأكبر نجيب محفوظ.
وانقطع التواصل بيني وبين الكاتب الكبير بسبب سفري للدراسة للولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الدكتوراه في تاريخ وآثار مصر الفرعونية والشرق الأدنى القديم. وحين عدت علمت بمرضه. فحزنت لذلك حزنًا شديدًا. ودعوت له من كل قلبي بأن يسترد صحته وعافيته. وسعدت بالتواصل معه أخيرًا. وجاءني صوته عبر الهاتف. ففرحت جدًا. وسعيد بشدة باهتمامه بمصر الفرعونية ثانيًة والتي يعد عنها عملاً جديدًا أتمنى أن يخرج إلى النور قريبًا.
وفي النهاية، أدعو الله سبحانه وتعالي أن يمن بالشفاء العاجل على كاتبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل حتى نستمتع بأدبه العظيم وإنسانيته المفرطة. وتحية حب وتقدير للكاتب الكبير الأستاذ محمد جبريل.