القاهرة 04 يونيو 2019 الساعة 11:32 ص
كتب: د. حسين عبد البصير- مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
عشق المصريون الحياة وقدسوها بشكل كبير, ولم ينافسهم في ذلك شعب من شعوب العالم القديم, واحتفلوا بالأعياد, وخصصوا لكل ظاهرة منها عيدًا خاصًا بها في حياتهم الأولى، بل وفي العالم الآخر. ونظرًا لكثرة الأعياد التي شاهدها، قال عنهم أبو التاريخ هيرودوت إن المصريين القدماء اخترعوا الأعياد, فقد اهتم المصريون القدماء بالاحتفالات والأعياد اهتمامًا كبيرًا, وكانوا من أوائل شعوب العالم احتفالاً بها, وكانت الأعياد كثيرة جدًا في مصر الفرعونية, وكانت هناك أعياد ترتبط بالتقويم الفلكي والتقويم القمري وعالم السماء والآلهة, وكانت هناك أعياد أخرى دنيوية وكانت تضم الأعياد الوطنية والمحلية والموسمية والسياسية والدينية والجنائزية وغيرها.
واستخدم المصري القديم كلمة "حب"وتعني"عيدًا"، وكلمة"حب نفر"وتعني"عيدًا سعيدًا", كما كانت الأعياد تُسجل عادةً داخل المعابد المصرية في صالات الاحتفالات، أو تكتب على ورق البردي, وكانت توضع في مكتبة المعبد "بر عنخ" مثل قوائم الأعياد المسجلة في المعابد الملكية من عصر الدولة الحديثة.
وفي عصر الدولة القديمة، كان الاحتفال بالعيد يتخذ مظهرًا دينيًا بحتًا؛ فكانت مظاهر الاحتفال تبدأ بذبح الذبائح وتقديمها كقرابين للإله وتوزيعها علي الفقراء, وكان البعض منها يتم تقديمه إلى كهنة معبد الإله لتوزيعها أيضًا, وكان سعف النخيل من النباتات المميزة للأعياد، خاصة رأس السنة حيث كان سعف النخيل الأخضر يرمز إلي بداية العام لكونه يعبر عن الحياة المتجددة؛ لأنه كان يخرج من قلب الشجرة؛ فكانوا يتبركون به ويصنعون ضفائر الزينة ويعلقونها علي أبواب المنازل ويوزعون ثماره الجافة كصدقة على أرواح موتاهم, وكانوا يصنعون منه أنواعًا مختلفة من التمائم والمعلقات التي كان يحملها الناس في العيد على صدورهم وحول أعناقهم، كرمز لتجديد الحياة ولحفظهم من العين الشريرة.
ومن أقدم العادات والتقاليد التي ظهرت مع الاحتفال بالأعياد، خاصة عيد رأس السنة، صناعة الكعك والفطائر, وانتقلت بدورها من عيد رأس السنة لتكون سمة من سمات الأعياد التي كان لكل منها نوع خاص به, ومع بداية ظهورها في الأعياد، كانت الفطائرتُزين بالنقوش والتعاويذ الدينية, وقد اتخذ عيد رأس السنة في عصر الدولة الحديثة طابعًا دنيويًا, وخرج من بين الأعياد الدينية العديدة ليتحول إلي عيد شعبي له أفراحه وبهجته الخاصة, وكانت طريقة احتفال المصريين به تبدأ بعمل الكعك في الأعياد.
ويعد الكعك في الأعياد من العادات المصرية الأصيلة ومن ميراث الأجداد؛ فارتبطت الأعياد في مصر بعمل الفطائر والكعك، بل وتعتبر من أهم السمات إلى الآن, وترجع هذه العادة المصرية إلى العصور الفرعونية, وسُميت بالقرص؛ لأنها كانت مرتبطة فى العقيدة بقرص الشمس الذي كان من مظاهر الكون المقدسة؛ ولذا أخذ الكعك الشكل المستدير الكامل. وكان يتم تزيين الكعك بخطوط مستقيمة مثل أشعة الشمس الذهبية, ومن هنا جاءت فلسفة تمثيل الكعك في شكل القرص المستدير.
وكان يتم صناعة الكعك وتقديمه إلى المعابد وآلهتها وكهنة المعابد الجنائزية وعقيدة الملك المتوفى الذين كانوا مسؤولين عن إحياء عقيدة الملوك أصحابالمقابر الملكية, وهناك مناظر في مقبرة الوزير رخميرع، في الأقصر منعصر الأسرة الثامنة عشرة وغيرها من مقابر تصور مناظر صناعة الكعك, وكان يتم إحضار عسل النحل الصافي، ويُضاف إليه السمن، ويُوضعان على النار، ثم يُضاف إليهم الدقيق، وتُقلب هذه المواد على النار حتى تتحول إلى عجينة يمكن تشكيلها بأي شكل، ثم بعد ذلك يتم الحشو بالعجوة, وبعد الانتهاء يتم التزيين ببعض الفواكه, وهناك مناظر سجلت بعض القرابين التي كانت تحتوى على الخبز والقرص والكعك, وهناك مناظر عديدة تصور الاحتفال بالكعك, وكان يتم تشكيل الكعك على هيئة أشكال هندسية أو حيوانات أو زهور, وكانوا يحشونه بالتمر المجفف "العجوة"، ثم يرص على ألواح من الأردواز، ويُخبز.
ولم يقتصر الأمر في صناعة كعك قدماء المصريين في الأعياد فقط، بل كان هناك نوع مخصص كقرابين يتم تقديمها للموتى عند زيارة الأقارب للمقابر، وكان يُشكل على هيئة تميمة "عقدة إيزيس"؛ لذا كان يتم توزيع القرص والكعك على روح المتوفى.
لقد ظهر الكعك منذ أكثر من 5 آلاف عام, وتفنن الخبازون في تصنيعه بأشكال متنوعة مثل المخروطي واللولبي والمستطيل والمستدير, وكان يتم نقش الكعك بما يقرب من 100 نقشة بأشكال مختلفة, وشهدت صناعته تطورًا كبيرًا على مر العصور
.لقد كانت صناعة كعك في الأعياد والمناسبات عادة قديمة أبدعها المصريون القدماء، وسُموه بـ'القرص" وارتبطت هذه العادة بالاحتفالات والأفراح عند الفراعنة, وامتدت هذه الصناعة من عصر الأسرات الفرعونية عبر مصر القبطية والإسلامية وصولاً إلى مصر في القرن الـحادي والعشرين.