القاهرة 28 مايو 2019 الساعة 02:16 م
الشاعر المغربى عبد الحميد شوقي: كدت أفقد حياتى فى أول يوم صيام
كتب: صلاح صيام
كنت في السابعة عشرة من عمري عندما صُمت لأول مرة. كان يوما من أيام شهر شديد الحرارة، حيث كان اليوم يطول جدا ولا يؤذن للمغرب إلا عند الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة. طوال النهار وأنا أقف طويلا أمام الخابية التي كانت تحفظ برودة الماء، وأضع وجهي على طينها البارد، وأصارع لكي لا أستجيب للعطش الشديد. أذكر أنه في اليوم السابق، كنت قد تراهنت مع ابن عمي الذي كان لا يكبرني إلا قليلا، أن نقاوم الحر الشديد، وأن نصبر حتى يأتي وقت الفطور، لكنني لم أستطع أن أصمد طويلا، فشربت الماء عند منتصف النهار، وخسرت رهاني مع ابن عمي، ولذلك عزمت في اليوم التالى أن أرقى إلى مقام "الرجال"، وأن أنسى جوعي وعطشي حتى يؤذن للمغرب. عانيت كثيرا كثيرا، وفي كل مرة، كنت أرمي نظرة تجاه ابن عمي لأجده صامدا، وهو ينظر إلي بكثير من التحدي، وربما بكثير من السخرية من ضعفي ونحافة جسمي التي لا تسمح لي بالصمود. صمدت وكل العائلة تراقبني وأنا أتلمس برودة طين الخابية بوجهي، فأغفو مرة، ثم أصحو، ولا يتقدم الوقت إلا بطيئا. كان عذابا حقيقيا، وأمي ترميني بنظرات شفقة خائفة علي من عواقب الصوم لأول مرة. وعندما سمعت أذان المغرب من مكبر مئذنة المسجد المجاور لحينا، ملأت "غُرّاف" الماء الأبيض وشربت منه دفعة واحدة. ما جرى كان موتا حقيقيا، تحكي لي أمي. اسود وجهي، وارتعشت شفتاي، وغبت عن الوعي ما يزيد عن عشر دقائق، وعندما صحوت، وجدت صعوبة كبيرة في التنفس وفي الوقوف على رجلي. كانت بطني ملتصقة تماما بظهري، وكنت عاجزا على فتح فجوة تنفس بينهما. كسبت رهاني مع ابن عمي، وكسبت دموع أمي الخائفة، وكسبت دخولي إلى مقام "الرجال"، لكني كدت أخسر حياتي تماما، ولذلك اكتفيت بصوم يوم واحد، وانتظرت سنتين بعد ذلك لأصوم شهرا كاملا لم يكن يخلو من عذاب حقيقي.
من بين ليالي رمضان الساحرة، أذكر كيف عشت مع إخوتي وأصدقائي ليلة القدر. طوال الليل ونحن نذهب مرة لصلاة التراويح في المسجد، ونذهب بعدها إلى المقهى، ونتجول بكل فخر في الشارع الوحيد الذي يستحق التسمية في البلدة الصغيرة. كنا عازمين تماما أن نقاوم النعاس، وأن نصبر حتى ينزل "سيدنا قدر" من السماء لكي يستجيب لأمانينا. كنا نعتقد أن "سيدنا قدر" فارس حقيقي يمتطي حصانا أبيض ويمتشق سيفا مذهبا، ويسافر ملايين السنوات الضوئية لكي ينقشع في لحظة مارقة من خلال الغيوم بوميض خاطف، وعلينا أن نكون متواجدين في اللحظة المارقة، وأن نبلور أمنيتنا بشكل واضح لكي يسمعها "سيدنا قدر"، ويستجيب لها. كانت أمانينا بسيطة جدا؛ من يتمنى النجاح في الامتحان، من يتمنى نقودا لدخول " السويرتي" (كرنفال الغناء والرقص وألعاب الحظ)، ومن يتمنى أن تشفى أمه المريضة بمعجزة ربانية، ومن يتمنى أن يلطف "سيدنا قدر" قلبَ تلميذة في القسم. وعندما نصحو في الغد باحثين عن تحقيق أمانينا، كان الكبار يقولون لنا: لم تكونوا في اللحظة الخاطفة الخاطفة التي انشقت فيها السماء عن "سيدنا قدر"، فنقتنع بالجواب ونرجئه بصبر وراقي إلى السنة القادمة.
كنت أرقب بفرح شديد كيف تتحول أمي من تجهم منتصف النهار القائظ، إلى وداعة ونشاط لا يكل، وهي تهيئ وجبة الفطور. ورغم أن مائدتنا كانت بسيطة جدا آنذاك، عندما تعود بي الذاكرة إلى الماضي، فإني كنت أجد فيها شيئا سحريا وغير ملموس؛ كنت أقرأ وجه أمي الوديع ورشاقة حركاتها وهي في المطبخ تعجن خبزا غير معتاد، خبزا رهيفا ورقيقا جدا ومدهونا بزيت بلدية، كنا نسميه "ملْوي". تضع مقلاة فوق النار وتصب فوقها عجينا أبيض، وتنتظر حتى يحمر، وفي نفس الوقت كانت تراقب قدرا فوق النار تعد فيه "حريرتنا" التي كانت أشبه بحساء مقدس لا يغيب عن مائدتنا طول شهر رمضان. تراقب احمرار الملوي، وتراقب استواء الحريرة فوق النار، ثم تخلط طحينا بالماء، وتخضه مرات ومرات حتى يصبح مائعا، لكي تضيفه إلى الحساء لكي يصبح حريرةحقيقة، ولا تنسى أن تضع بيضا في آنية مليئة بالماء لكي تسلقه. وعندما أدخل المطبخ وأكثر من توزيع نظراتي هنا وهناك، تضحك أمي، وتمازحني: "اطمئن أيها القط، والدك لم ينس إحضارها..ّ". إنها الكعك المحلى الذي يباع في محلات خاصة، ويشهد ازدحاما كبيرا، وعلى المستهلك أن يحضر قبل الساعة الثالثة عصرا لكي يضمن نصيبه من الكعك المحلى الذي يسميه المغاربة "الشبّاكية"، وهي عبارة عن عجين خاص يطبخ في آنية كبيرة مليئة بعسل مصنوع من فتات السكر.
كنا نقلد المدن العريقة المشهورة بتقاليدها في صنع الشباكية واستهلاكها، والمائدة التي تخلو من "الشباكية" تعتبر مائدة فلاحين أو فقراء. وبعد وجبة الفطور، ننتظر حتى الساعة الثالثة صباحا، في أوقات الصيف، لكي نصحو على صوت النفّار (المسحراتي)، وصوت أمي وهي تضع الماء فوق النار وتكسر قالب السكر وتعد للسحور ملاوي مغمسة في عسل حقيقي وزبدة بلدية، ونسارع لكي لا يدركنا "المؤذن الأخير"، فلا أصحو إلا وقد أصبحنا على يوم آخر.