القاهرة 12 مارس 2019 الساعة 11:09 ص
كتب : د.محمد السيد إسماعيل
فى تراثنا الشعرى القديم كان البلاغيون الكبار يقدمون الشاعر الذى يجيد أكثر من غرض شعرى على الشاعر الذى لايجيد سوى غرض شعرى واحد, والشاعرالعراقى حيدر التميمى من النوع الأول الذى يجيد الكتابة فى أكثر من غرض شعرى؛ فهو شاعر أصيل يمتلك لغته ويجيد بناء الصورة الشعرية, كما يمتلك إيقاع البحور الشعرية وأوزانها المختلفة ويجيد توظيفها, وقد أهلته هذه الأدوات أن يكتب فى أغراض عديدة؛ كالشعر الدينى, والشعر العاطفى, وشعر الرثاء, والشعر الذى يدور حول المدن, وما يتخلل ذلك من وصف سواء للأماكن أو للشخصيات.
وطبقا لعقيدتنا الدينية فإن هناك أياما وأماكن مقدسة يشيد المسلم بها ومن ذلك شهر رجب وشعبان ورمضان وهذا مانجده فى قصيدة " ياجوهر الأقداس " حيث يتحدث الشاعر – فى البداية – عن شهر شعبان, وذلك حين يشبهه مرة بأنه " بلسم ", ومرة بأن جوانبه فاضت بكل فضيلة ومرة بأنه يحمل نفحات الجنان, ومرة بأنه يعبق بالطيب أو الرائحة الزكية المباركة, ومرة بأنه تاج على هام الزمان؛ وهى تشبيهات وأوصاف تعد تمهيدا لما يقصد إليه الشاعر وهو التوجه إلى مولاه بالشكوى من الظالمين ونشدانه أن يملأ أديم الأرض عدلا, وأن يكفكف أدمع المظلومين .
وتيمة الظلم والظالمين تستدعى الحديث عن الحسين رضى الله عنه باعتباره رمزا للشهداء الذى واجه ظلم بنى أمية وجبروتهم, ويظهر ذلك بجلاء فى قصيدته اللافتة " قطب الوجود " وذلك حين يقول :
" حسين للوجود خلقت قطبا / بك اختصرت معانى الدين دربا – بك الأكوان علتها استبانت / جمعت قداسها نطفا وصلبا "
ومن الواضح أن الشاعر – هنا – يستعمل ضمير المخاطب فى توجهه إلى الحسين رضوان الله عليه, لكنه ينتقل فى أبيات لاحقة فى القصيدة نفسها إلى ضمير الغائب وذلك حين يقول:
" تواترت النصال عليه طعنا / كقطر الغيم لاينفك صبا "
والانتقال من ضمير إلى ضمير آخر يسمى فى البلاغة العربية بأسلوب الالتفات, وهو لا يخلو من الدلالة فضمير المخاطب يستحضر الحسين رضى الله عنه أمام الشاعر كأنه يراه بعينيه مما يؤكد حضوره فى وجدان الشاعر, أما ضمير الغائب الذى يتحدث عن مأساة الحسين فكأن الشاعر يحاول تغييب هذا المشهد الشنيع عن ذاكرته لما يحمله من آلام رهيبة حين تواترت النصال عليه كأنها قطر الغيم .
أما القصائد الغزلية فهى كثيرة منها قصيدة تحمل عنوان " نفاثة العقد " ويبدو من العنوان توظيف المعجم الدينى حيث يبدأ بقوله :
" سهام لحظك أم نفاثة العقد / فقد سلبن صفاء العيش من خلدى "
وتشبيه لحظ الحبيب بالسهام يستند إلى تراث شعرى طويل ينسج منه الشاعر صوره الشعرية الخاصة به حين يقول :
" قد شفنى سحر عينيها وما علمت / فيه الأسى والأسا للنفس والجسد " ويلعب الجناس بين الأسى بمعنى الحزن والأسا بمعنى الدواء دوره فى تصوير هاتين العينين اللتين تحملان الداء والدواء معا, ثم تتوالى الصفات الحسية للقد المياس حين يقول:
" فينثنى قدها المياس من هيف / تمشى الهوينى كمن يمشى على برد " وهى صورة تحمل ذوقا عصريا جميلا يختلف عن قول النابغة واصفا مشية حبيبته بأنها " تمشى الهوينى كما يمشى الوجى الوحل ", ثم يجمع شاعرنا بين الشمس والليل فى تصوير وجنة حبيبته وشعرها حين يقول:
" ياناسجا من لعاب الشمس وجنته / والليل عسعس فى مضفورها الجعد " وإن كنت أحبذ أن يقول " شعاع الشمس " بدلا من لعاب الشمس, ثم يتوجه بالخطاب الى ذلك الحبيب طالبا منه أن يمن على قلبه الصب الذى ذاب فى عشقه قائلا:
" أمنن على قلب صب ذاب من كلف / فالنأى لم يبق من صبر ومن جلد – يودع النجم عينى لا تودعه /كأنه قد ثوى فيها من السهد "
فلم يعد لعين الشاعر سوى حبيبته التى لايرى سواها " فالعين ما جعلت إلا لرؤيته / إن غاب عنها ابتلاها الشوق بالرمد " وكأنه الصبابة قد كتبت عليه ولايستطيع منها مهربا " هل خط فى لوحة الأعمار ذا قدرى / نار الصبابة من مهدى إلى لحدى ".
وموضوع الشيب موضوع رئيسى فى تراثنا الشعرى نجده فى أبيات من قبيل " عيرتنى بالشيب وهو وقار / ليتها عيرت بما هو عار – إن تكن ذابت الذوائب منى / فالليالى تنيرها الأقمار " أو " لا تعجبى يا سلم من رجل / ضحك المشيب برأسه فبكى ", أما شاعرنا حيدر التميمى فيعبر عما فعل به المشيب حين يقول:
" برق الشيب برأسى وجهر / فوهى جأش فؤادى واقشعر – وذوى شرخ شبابى بعدما / غار نبع الوجد فيه فاحتضر "
والشاعر لايتحسر على ما أصابه من شيب بقدر ما يتحسر على جفاء الغيد له حتى فى أحلام الكرى حين يقول:
" وجفتنى الغيد حتى فى الكرى / كغزال لاح ليثا فنفر "
ثم يتوقف عند غيداء محددة هى حبيبته التى شاركته سمر الليالى " نكست عهد الصبا وانصرمت / وتناست أنس ليلى والسهر "
والطريف أن يشبه الشاعر الشيب بالصبح فى مقابل تشبيه سواد الشعر بالليل وأن هذا الشيب قد جعل طائر الصبابة يجفوه وذلك فى قصيدته " أسفر الصبح " التى تعد من القصائد الجميلة فى الديوان حين يقول:
" أسفر الصبح فاستباح العذارا / كيف أسلو وقد سلتنى العذارى – وذوى رونق الشباب نضورا / بعد أن غاض فى السنين وغارا "
ولاشك أن ذهاب رونق الشباب يعد سببا فى ذهاب نار الصبابة, كما جعله عاجزا عن مطارحة الهوى مع من تنازعه بلحظها " نازعتنى بلحظها قلت إيها / ليس فى القوس منزع كى يبارى ", وفى قصيدة أخرى يتوجه الشاعر بالحديث إلى لائمه فى الهوى :" يالائمى إيها فقلبك لم يزل / قفراء عن داعى الصبابة أحجما – لو شاء قلبك لاهتدى برسوله / شوقا وآمن فى هواه وأسلما "
وفى قصيدة " آهات شعبى " ينتقل إلى الشعر الوطنى السياسى حين يصور عذابات قومه على يد ساسته حين يقول:
" مزق الشعب من الصبر رداه / بعد بأس ضج فى الكون صداه – ساسة قد لبسوا الإفك ثيابا / كا حزب شاء لونا فاكتساه – ساقهم ذا قدر أعمى علينا / أم قضاء ليس ينفك بلاه "
ولا يخلو الديوان ما أبيات شعرية تدور حول الحكمة التى تقدم فى إيجاز بليغ, وتلخص تجربة حياة كاملة حين يقول تحت عنوان " سجايا المرء " :
" سجايا المرء من أدب تصار / محال تشترى أو تستعار – كنبت يستقى من أى نبع / وتزهو فيه أزهار زهار " .