القاهرة 19 فبراير 2019 الساعة 11:11 ص
د.محمد السيدإسماعيل
يلفتنا عنوان هذا الديوان إلى دلالة مزدوجة فالطوق – كما هو غالب على معناه – يعنى القيد وحصار الذات على نحو ما نجد مثلا فى "الطوق والإسورة " ليحيى الطاهر عبد الله وهكذا تتحول المسافة فى رؤية الشاعرة إلى قيد يحول بين رغبات الذات وحالات تقلقها ومع ذلك تظل هناك احتمالات لمعنى آخر عندما يتحول هذا الطوق إلى طوق نجاة وبالتالى تتحول المسافة إلى اختيار واع تجتازه الذات –بكدحها وإبداعها – وصولا إلى حالات تحقها وتظل هذه الدلالة المزدوجة فى العنوان سارية على مدار الديوان فهناك انكسارات على مستويات متعددة لكن هناك فى الوقت نفسه استشرافا لحالات مغايرة تحقق فيها الذات كينونتها الوجودية والمسافة لا تعنى فحسب دلالتها المكانية بل تتحول إلى رمز جامع لكل عوامل السلب فيغدو الزمن مثلا ذا فاعلية مضادة لفاعلية الإنسان .
كما يغدوالموت ومايقع فى دائرته الدلالية تيمة متكررة بصور عديدة ففى قصيدة " سديم " نلاحظ هيمنة الموت والحصار " القسوة فعل همجى يقتل فى قلبى الإبحار / وأنا غادرت لكى أنهار بعيدا عن كل الأسوار / لكن الموت استمهلنى يستفتى فى الأقدار" ( " تطوقنى المسافة " عبير زكى ص 37دار جهاد للنشر والتوزيع 2016) وسوف نلاحظ هذا التدرج اللافت من القسوة إلى الأسوار.
وأخيرا الموت فى مقابل الرغبة فى الإبحار والمغادرة بعيدا عن الأسوار لكن الموت يترصد تلك الخطا ويلاحقها لكن هذا الموت ليس قدرا مقبضا بل عالما يحمل أسراره المدهشة تقول " ألبس ألوان الموت المدهشة الأسرار بغير خيار " فالإنسان لايختار موته كما لايختار ميلاده وفى مستوى آخر يبدو الاغتراب درجة من درجات الموت وعدم الشعور بالانتماء حين يتحول المكان إلى منفى " لا أنتمى / لا شىء فى المنفى يهم لمأتمى " وبقية القصيدة تعد تعليلا وتفصيلا لهذا الشعور بالنفى.
وهذا ماتوضحه الشاعرة بقولها " فى داخلى تلهو مساحات من الحزن المعتق / تستبيح خزائنى وتظل تقتحم الفراغات المتاحة فى دمى وأنا أفتش عن بصيص النور يأسر مهجتى ويرق لى " تنتهى السطور بهذه الحالة الاستشرافية ولا أمل فى بصيص النور مما يعيدنا مرة أخرى إلى الدلالة المزدوجة التى أشرنا إليها فى عنوان الديوان فهناك دائما الشىء وضده : الحزن والفرح – الظلمة والنور – الموت والحياة – القيد والتحرر وهى كلها عناصر متصارعة متفاعلة تمنح القصائد ملمحا دراميا فلا شىء يستقر ولاشىء ينتهى حيث " وقت من وقت يتولد ..لايفنى قط ولا ينفد " ولهذا يأتى التسليم لقانون الوقت الذى هو ناموس الحياة فالوقت " الآمر والسيد ".
وفى قصيدة " الهروب من المطرقة " تترسخ تيمة الاغتراب حتى أن مصابيح الشارع تتحول إلى مطارق أو طلقات وتصبح الذات هدفا لكل هذا " مطرقة هى كل مصابيح شوارعنا / تقصد رأسى وتدق الدقة إثر الدقة أتناسى الطرقة تلو الطرقة / أتجاهل أن الطلقة بعد الطلقة تأكل قلبى " فهل هو الخوف من انكشاف الذات ورؤية عجزها وبهذا يصبح الليل فى رؤيتها " بغير مصابيح مدينتنا أكثر ودا ".
إن ماسبق يؤكد أن دلالات رموز الرية الشعرية ليست ثابتة بل تتبدل من قصيدة إلى أخرى فالنور الذى كان مقابلا للحزن فى نموذج سابق أصبح هنا مضادا للذات وكما تتأمل الشاعرة العالم من حولها تتأمل ذاتها من خلال " المرآة " حين تصبح الغرفة كلها مرايا تحاصر الذات وحديثنا عن الذات لايعنى أننا إزاء هموم شخصانية بل إن هناك تداخلا بين الخاص والعام :" لا لست وحدى فالمدينة مفعمة / بروائح الموت البغيض وبالجروح مدممة ".
وفى مقابل حصار الذات والمدينة توظف الشاعرة مجموعة من التيمات التى تحاول من خلالها الخروج من هذا المأزق الوجودى ومن ذلك تيمة السفر الذى قد يعنى الانتقال من حالة إلى أخرى وهناك تيمة انتظار الآخر ومناشدته ومحاولة التوحد معه وهناك محاولات الارتقاء الروحى ومغالبة الجسدانية وبجانب ما أشرت إليه من نزعة درامية يمكن أن نلاحظ أيضا فى بعض القصائد تأثرا بتقنيات السينما ورسم الصورة الحركية من خلا شيوع الفعل المضارع وتوظيف اللون لتأكيد بعض الدلالات الشعرية هذه رؤية عامة لبعض ملامح هذا الديوان للشاعرة عبير زكى التى أرجو لها المزيد من الإبداع والتألق .