القاهرة 25 ديسمبر 2018 الساعة 02:35 م
كتبت : د. فايزة حلمـى - مستشار نفسى وتربوي
الصَمْت المُسَاء فَهْمه (الخرس الانتقائى):
هو نوع من الاضطراب يؤدي للقلق, وغالبا ما تظهر أعراضه في سن الرابعة، وكان أفضل نموذج نستطيع من خلاله معرفة أبعاده هي حالة الطفل ماجد, حيث كان معروفا أن ماجد هو الطفل الذي لا يتحدث في المدرسة, فى حين كان يمكنه أن يتكلم بوضوح في المنزل، لكنه كان أخرس تماما في المدرسة, على الرغم من أنه يطيع تعليمات المعلمين، والملاحظ أنه لا يجيب على أية أسئلة لفظيا, في المجتمع المدرسي, حيث يتوقع البالغين إجابات سريعة من الأطفال, وتم تصنيف ماجد ( كابوس المدرسين) وكان زملاؤه يلقبونه (بالغبى), والأكبر سنا كانوا يصنفونه أيضا (بالغريب).
وعلى الرغم من كل الاتهامات له بأنه عنيد, وأن صمته نوع من التحدى, ظل ماجد كاتم للصوت تماما فى المدرسة, فى البداية كان يوصف بأنه خجول جدا, ولكن كلما توالت الشهور, قاد الناس تفكيرهم بطريقة أخرى, لا يمكن لأحد معرفة كيف كان من الممكن لماجد أن يتكلم لأفراد أسرته ببلاغة تامة, حين يأخذوه من المدرسة ولا يتحدث لأحد آخر.
ولم يكن ماجد فى عزلة, يمكن تشبيه ذلك بحالة فتاة أخرى تدعى مايا, وقد ولدت قبل ماجد بعدة سنوات, وفي عمر الثماني سنوات، قالت أنها تعرضت للاغتصاب مرارا وتكرارا من قِبل صديق والدتها, وحين تم العثور عليه تم توجيه تهمة الإساءة الجنسية له, وقد وُجِد قتيلاً بعد ذلك, وقد لامت الفتاة نفسها وشعرت بالذنب لمقتله, حتى أنها لم تستطع التحدث تماما, لمدة خمسة سنوات بعد الحادث, ؟!! نعم ظلت مايا صامته نتيجة الصدمة التى مرت بها, ولا يدعو للدهشة أن كلا من ماجد ومايا يبدأ بحرف الميم , ليس لهذا علاقة بالأمر, ولكن فقط كلاهما تعرض للصمت, أو الخرس الانتقائى نتيجة التعرض لصدمة, وللأسف قد يعتقد البعض أن هذا التصرف نوع من التحدى أو العند.
التفسير العلمي:
الخرس الانتقائى هو نوع من القلق يصيب الطفل الذى يتحدث بشكل طبيعى ويصبح أبكم فى المواقف الاجتماعية , وغالبا ما يبدأ قبل الخامسة, ويصبح الخرس الانتقائى واضحا حين يذهب الطفل للمدرسة, ويوصف الأطفال الذين يعانون من الخرس الانتقائى فى البداية بالخجل الشديد, لكنهم يتحدثون بشكل طبيعى لأفراد الأسرة والأصدقاء المقربين, ولا يتحدثون وينغلقون مع أى أحد آخر, على الرغم من أن ذلك هو السائد فى الأطفال الذين يميل والديهم للقلق بصفة دائمة, أي أن العامل الوراثي يكون له صلة, كما أن هناك عوامل أخرى قد تؤدى إلى ذلك, مثل ( ضعف التكامل الحسى), أي صعوبات معالجة المعلومات الحسية, إضطرابات اللغة, والصدمات النفسية (مثل مايا), كل ذلك يؤدى إلى القلق والذي بدوره يؤدى إلى صمت الأطفال فى المواقف التى يُتوَقّع منهم الحديث.
تشخيص الخرس الانتقائى:
فى البلاد المعروف والمعترف فيها بالخرس الانتقائى, غالبا ما يتم تشخيصه بواسطة مختصي الصحة العقلية للطفل, الذين يتّبعون إجراءات محددة للتشخيص, وتشمل الملاحظات:
- لا يتكلم الطفل فى مناسبات وأماكن معينة (كالمدرسة) .
- يمكن للطفل أن يتكلم بشكل طبيعى فى أماكن أخرى (غالبا المنزل).
- عدم قدرتهم على التحدث.. يتداخل مع قدرتهم على العمل.
- استمرار عدم قدرة الطفل على عدم الكلام لمدة ستة أشهر على الأقل.
- عدم قدرة الطفل على الكلام , لا تؤدى إلى إضطراب سلوكي أو عقلي آخر.
أعراض الخرس الإنتقائي:
من الجدير بالذكر أن الأطفال الذين يعانون من خرس انتقائي يشعرون بالاحباط وبالخجل من حالتهم, وكأنهم يدورون فى حلقة مفرغة تجعل المشكلة أسوأ, لذلك نعتهم بأن ذلك نوع من العند أو التحدي لا يؤدي إلّا إلى تفاقم مخاوفهم, ويمكن للمرء أن يتصور فقط أفكار ماجد عندما يساء فهمه من المدرسين والتلاميذ, وتم تشخيصه في وقت لاحق بأن لديه قلق مرتبط بمشاكل لغوية, لقد كان يتحدث بلغته الأصلية فى المنزل, لكنه وجد صعوبة فى التحدث باللغة الإنجليزية التى كانت سائدة فى المدرسة.
ومن المهم أن نعرف أنه بالرغم من أن الخرس الانتقائي سائد بين الأطفال, إلّا أن بعض المراهقين لديهم الحالة, وهم الذين يعانون من ضغوط إضطرابات ما بعد الصدمة.
ويجب أن ننتبه إلى الكلام غير المُعْلن, خاصة حين يتعلق الأمر بالأطفال, ويجب أن ننظر خلف الإهانة, ونفكر ما الذى يجعل الأطفال صامتين فى بعض المواقف, لأن كل إنسان يستطيع التواصل, كل ما علينا اختيار الوسط المناسب لمساعدة مهارات الاستماع.
كيف يتم التعامل مع الخرس الانتقائى بشكل طبيعى؟
يجب أن يتم تشخيص ومعالجة الخرس الانتقائى بأسرع ما يمكن, وغالبا علاج مثل هذه الحالات تكون بالعلاج السلوكى, والعلاج السلوكي المعرفى, والعلاج باللعب, كالآتي:
-العلاج السلوكي: هو نهج من العلاج النفسي يهدف إلى تعزيز السلوكيات المرغوبة والقضاء على السلوكيات غير المرغوب فيها. ولا يقوم بدراسة ماضي الأطفال، أو القلق نفسه أو أفكارهم. وبدلا من ذلك يركز على القضاء على الصعوبة بطريقة عملية. وعادة ما يتم هذا النهج خطوة بخطوة, مع إعطاء تقنيات شخصية وتدريبات تساعدهم على التغلب على مخاوفهم.
-العلاج السلوكي المعرفي: يعمل عن طريق المساعدة وحديث الأشخاص حول كيف يفكرون عن أنفسهم والعالم وغيرهم من الناس، وكيفية تصورهم لهذه الأمور التي تؤثر فى الأفكار والمشاعر.
-العلاج باللعب: يستخدم عادة مع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ( ثلاثة إلى 11) عام, ويوفر وسيلة لهم للتعبير عن تجاربهم ومشاعرهم من خلال إرشاد ذاتي، وهي عملية طبيعية، تؤدي إلى الشفاء الذاتي, وفي كثير من الأحيان تتم معرفة تجارب الأطفال والمعرفة من خلال اللعب، ويصبح وسيلة مهمة بالنسبة لهم, وهي معرفة واستعراض أنفسهم والآخرين.
-تلاشى المثيرات: وهي وسيلة أخرى, يتم من خلالها إحضار المريض إلى بيئة مُسيطر عليها من شخص, التواصل معه مُستطاع وسهل, وتدريجياً يتم تقديم شخص آخر,وهكذا.
-التواصل غير المباشر: هو نهج آخر, وهذا يعمل عن طريق تشجيع الطفل على التواصل عبر وسائل غير مباشرة, مثل البريد الإلكتروني والرسائل الفورية (إما النص، الصوت، أو الفيديو)، الدردشة على شبكة الإنترنت أو صوت أو فيديو التسجيلات, ويمكن أن يستمر الطفل في بناء علاقات بهذه الطريقة حتى نشعر بأنه مستعد لمحاولة المزيد من التواصل المباشر.
-التشكيل: هو أسلوب آخر يتم من خلاله تشجيع الطفل على أن يتفاعل مع الموقف أولا, قبل أن ندفعه لإصدار صوته, من خلال الهمس أولا ثم كلمة أو كلمتين بالتدريج.
-العلاج الأسري: يمكن أن يكون من المفيد أيضا, وجود أقارب وأصدقاء الأطفال المصابين بالخرس الانتقائي, ويمكن أن تكون هذه الطريقة لها تأثير كبير على نجاح العلاج لهذا الاضطراب, ويحتاج الطفل الحب والدعم والصبر وكذلك التشجيع اللفظي والعاطفي, وينبغي أن نركز الاهتمام على جعل الطفل يشعر بالراحة والثقة في الأوساط الاجتماعية.
وهذه العلاجات يكون الهدف منها الحد من القلق الذي يمنع الطفل من التحدث فى بعض المواقف, دون التركيز على التحدث فى حد ذاته, ويدعّم الطفل لاتخاذ خطوة خطوة, للاقتراب من تخفيف مخاوفهم, والتفاعل بشكل طبيعى فى المدرسة.
وتقول كلوديا واليس (2016) المتخصصة فى دراسة المخ, فى كتابها ( كـَسْر الصمت..كيف قَهَرَت الخرس الانتقائى): أن إحدى الفتيات تم تشخيص حالتها بأنها " خرس انتقائي", وهو اضطراب القلق الذي يصيب الأطفال الصغار, فيجعلهم فى حالة صمت فى المواقف العصيبة, وهذه الفتاة لم تقل سوى كلمة واحدة منذ الروضة وحتى أصبحت فى السادسة عشرة من عمرها, وبفحص سنين صمتها القـَلِق , والعلاجات التى لم تساعد فى علاجها طوال هذا المدى الزمني, بسبب التشخيص الخاطىء, وبالتالي اتّخاذ الطريق الخطأ فى المعالجة, واستطاعت معالجتها الجديدة بإستخدام أساسيات علاجية سليمة أن تكسر لها فى نهاية المطاف "سجن الصمت", والآن بعد (16) عام, تقوم بنشر فيديو حول الخرس الانتقائى والقلق الإجتماعي لنشر الوعي به وبكيفية علاجه.