القاهرة 09 اكتوبر 2018 الساعة 11:48 ص
د. صلاح فاروق العايدى
يخدم الشعر مواقف كثيرة. وأصحاب تاريخ الأدب يزعمون أن هذه المواقف تتميّز إلى أغراض، منها الفخر والحماسة والهجاء والمدح والغزل ..، إلخ تلك الأغراض التى يرونها ينفصل بعضها عن بعض؛ وكأن الشاعر حين يقول شيئا فى موقف من هذه المواقف يعزل نفسه عما عداه من معانى أو أغراض. والحقيقة أن هذه المواقف لا تنفصل، ولحظة القول الشعرى تجمع كل هذه الأغراض فى بنيتها العميقة. والحقيقة أيضا أنه مهما كانت طبيعة الموقف أو الغرض الباعث على القول الشعرى فإن واحدا من هذه المواقف على الأقل يبقى أساسيا فى كل قول، مهما اختلف ظاهره عن باطنه. أعنى بذلك ما يمكن أن نسميه موقف المدافعة أو المقاومة، سواء اختلط هذا الموقف بحماسة ظاهرة أو مناسبة محددة تنسب القول فيما يرون إلى شعر الحماسة، أو لم يختلط بشئ من ذلك، وبقى عند حدود الفخر الشخصى أو التعبير عن البرم بالحياة والأحياء.
فالشعر فى وظائفه العميقة يعمل على التعبير عن الحياة الباطنية للشاعر, وقد يختلط هذا التعبير بما نسميه الحزن، وقد يختلط بالفرح, وقد يكون ظاهره داعيا إلى تحقيق فضيلة، أو داعيا إلى الانصراف عن اللهو, وقد نرى فى ذلك كله لونا من الشكوى، على نحو ما أثبت عنترة فى بيته اللافت؛ البيت الذى يحلو للشّراح أن ينسبوه إلى وصف الفرس حين قال:
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى .. ولكان لو علم الكلام مكلّمى(1)
بينما يشير البيت فى بنيته الخفية إلى برم بالحياة وبالأحياء، ويأسا من نوالهم، ويأسا مقابلا من أن يستطيع التعبير عن ذلك فى كلمة واضحة صريحة.
وموقف عنترة فى ذلك لا يختلف عن موقف غيره من الشعراء فى كل عصر، فهو موقف الرجل الذى يريد أن يحتفظ بكرامته، فى الوقت الذى يجد نفسه ملزما بالمشاركة فى أحداث مجتمعه. وربما هذا يفسّر موقف عنترة نفسه فى الالتزام بالدفاع عن قومه رغم إنكارهم له وإنكاره لمواقفهم منه.، فهذا كله فى حقيقته دفاع عن النفس ضد ما تلقاه من عنت المجتمع.
تاريخ الشعر إذن يقوم على مدافعة الشعراء ضد ما يرونه مقيّدا لأنفسهم، كما يقوم على مدافعة كل ما يهدد المجتمع بالخطر، سواء أكان الخطر خارجيا ممثّلا فى استعمار أو نحوه، أو كان داخليا ممثّلا فى تهديد قيم المجتمع الإيجابية. ولعل هذا يفسّر حرص شعراء الإحياء فى تاريخنا المعاصر على الإشادة بكل عمل إيجابى يقوم به الناس. ومنه كما نذكر أيضا قول حافظ إبراهيم المشهور فى الإشادة بإنشاء مدرسة للبنات فى بور سعيد:
الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيّب الأعراقِ(2)
غير أن هذا القول الذى لا يرون فيه إلا المناسبة، يبدأ بأبيات لافتة، تشف عن الحزن، كما تشف عن الأمل؛ إذ يقول(3):
كم ذا يكابد عاشقٌ ويلاقى .. فى حبّ مصر كثيرة العشّاقِ
إنى لأحمل فى هواكِ صبابةً .. يا مصر قد خرجت عن الأطواقِ
لهفى عليكِ متى أراكِ طليقةً .. يحمى كريم حماكِ شعبٌ راقى
فهل يحتاج حب الوطن إلى مناسبة حتى يعبر الشاعر عنه؟ أم أن المناسبة كانت سببا فى إخراج طاقة المدافعة بحثا عن أمل ؟
وهذا يدعونا إلى التفكير فى موقف شعرائنا المحدثين؛ خاصة فى مطلع ريادتهم للحداثة العربية, لقد أعلن هؤلاء الشعراء مرارا وتكرارا أن تجربتهم الشعرية تقوم على انفتاح الأفق الإنسانى، وأن ما كان يدعوه أصحاب نظرية الأدب أغراضا لم يعد له محلا فى هذه التجربة, ولهذا اختلف شكل بناء القصيدة لديهم عما كان سائدا قبلهم, ومع ذلك فهذه التجربة الإنسانية لم تتخلّف عن المشاركة فى أحداث المجتمع.
وقد كان من حسن حظّهم أو من أقدارنا أن مجتمعاتنا العربية فى مطلع تلك الحداثة ارتبطت بسلسلة من التحوّلات الاجتماعية؛ هدفها التحرّر من كل قيود الماضى الداعية إلى التخلّف، وظاهرها سلسلسلة من الثورات السياسية على الاستعمار وأعوانه -كما كان يقال- إضافة إلى سلسلة أخرى من الحروب المباشرة وغير المباشرة مع ذلك المستعمر، ربما بدأت بالثورة العربية 1936 ، لكنها وقفت عند محطات أساسية، بدأت بنكبة 1948، ومرت بحروب 1956، و1967، حتى وقفت عند 1973 ، وما تبعها من تحوّلات سياسية واجتماعية أخرى ، فيها ما يوجع القلب ويذكره التاريخ، وفيها ما أوجع القلب وكدنا ننساه بسبب تلاحق الأحداث فى المساق نفسه، دون نهاية واضحة لتلك السلسلة الموجعة,.
ومن المؤكد فى هذا الباب أن رواد الحداثة العربية رأوا أن من واجبهم المشاركة بقصائدهم فى ثورة المجتمع وأحداثه الجسام(4) . كان ذلك فى صورة قصائد مفردة، نشرتها صحف ذلك الزمان، أو ضمّتها مجموعات الشعر المختلفة لشعرائه، حتى اتخذت هذه المشاركة عنوانا لافتا فى الكتاب التذكارى الذى نشرته وزارة المعارف المصرية بمناسبة أحداث بورسعيد 1956، تحت عنوان: الشعر فى المعركة. وهو الكتاب الذى جمع بين دفتيه قصائد لنزار قبانى وبدر شاكر السياب وعبدالمنعم عواد يوسف ومحمود حسن إسماعيل، وآخرين قد لا تسعف الذاكرة على استحضارهم. لكن المعنى حاضر وواضح: الشعر أداة أساسية من أدوات المعركة، أو بالأحرى أداة أساسية من أدوات تثوير المجتمع.
وهذا يفسّر تركيز عدد لافت من القصائد الأولى لحداثة القصيدة العربية على دور الكلمة وتأكيد وظيفتها فى تحقيق ما يسعى إليه الشعر والشعراء من حريّة ونهضة. وقد نذكر هنا عددا كبيرا من تلك القصائد التى وقفت على دور الكلمة، ومجّدت تأثيرها فى نفوس الناس, وهو التأثير الذى يدور حول فكرة المدافعة؛ مدافعة اليأس والاحتفاظ بالأمل والتطلّع إلى غد أفضل. وكلمات صلاح عبدالصبور فى " أقول لكم " دالة على ذلك دون حاجة إلى مزيد تفصيل، حيث قال فى ختام المقطع الرابع الذى يعنونه بـ " الكلمات "(5) :
أقول لكم:
بأن الفعل والقول جناحان عليّانِ
وأن القلب إن غمغمْ
وأن الحلق إن همهمْ
وأن الريح إن نقلتْ
فقد فعلتْ، فقد فعلَتْ!!
كتائب فوق طوق الحصر مسرجة على الأفراس طوّافةْ
وطوق لجامها الكلماتْ
وما يمكن أن نفهمه من هذه الكلمات بوضوح أن الشعر يجمع فى إهابه كل شيء، وأن كلمات الشاعر فى كل وقت وفى كل مناسبة هى أداة أساسية من أدوات نقل المجتمع إلى المستقبل، مثلما هى أداة أساسية لحفظ عقل الشاعر وقلبه من التشتّت والخزلان. ولذلك ربما جاءت بعض هذه الكلمات حادة فى تعبيرها عن الموقف الأساسى للشعر والشعراء، مثلما هو الحال فى مفتتح كلمات سبارتكوس الأخيرة لأمل دنقل, وهى الكلمات التى جرّت عليه وعلى الشعر الحديث كله تهما، ليس هذا مقام استعادتها. يكفى أنه قال(6):
المجد للشيطان .. معبود الرياح
منْ قال "لا" فى وجه من قال "نعم"
من علّم الإنسان تمزيق العدم
منْ قال "لا" فلم يمت؛
وظلّ روحا أبديّة الألم!
والمعنى الذى يبقى من هذه الحدة لا تمجيد الشيطان كما يزعم الشرّاح المدرسيّون، وإنما موقف الثورة على كل تقليد يقيّد العقل، ويمنع الإنسان من الخطو إلى الأمام, وهو الموقف الذى أحب أن أسميه " المدافعة " ، فهى عندى أعمق من الثورة التى قد ترتبط بموقف عارض أو مناسبة زمنية زائلة, أما المدافعة فهى موقف مستمر، يموت الشاعر إن فقده.
فإذا توحّد موقف الشاعر ومجتمعه؛ أى إذا كانت المناسبة التى تجمعهما تدعو صراحة إلى المدافعة، فإن الشعر يتخذ منها عنوانا مباشرا لتجربته, وقد نخطئ إذا أصررنا على أن لا نرى فى هذا التوحّد الجامع سوى موقف الحماسة أو موقف النهوض المباشر للمشاركة فى معركة دائرة. فالمعارك تنتهى، أما المدافعة عن إنسانية الإنسان فتبقى قائمة فى تلك الكلمات التى كانت أداة من أدوات المعركة، ثم ارتفعت على مناسباتها لتبقى عنوانا لكل شرف وتمسّك بالأمل ضد اليأس, ولولا هذا الفهم ربما لا نستطيع الشعور بعمق التحدى القار فى باطن كلمات محمود درويش الخالدة(7):
سجّل !
أنا عربى
ورقم بطاقتى خمسون ألفْ
وأطفالى ثمانيةٌ
وتاسعهم سيأتى بعد صيفْ!
فهل تغضبْ ؟
فهل نستطيع الزعم أن هذه الكلمات موجّهة فحسب للمحتل الذى اغتصب أرضنا وشرّد أهلنا فى غفلة من التاريخ ومنا ؟ أم أن التحدى فيها مستمر لكل مغتصب، ولكل صاحب دعوة لليأس، يعوق بدعوته حقنا فى الحياة ؟ ومن ثم ، مضى الزمن بهذه الكلمات الحادة المباشرة، وربما مضت مناسبتها، لكنها سوف تبقى أيقونة يستدعيها الناس فى كل موطن للضعف, فهى تذكّرهم أن حق الحياة مكفول، وأن المغتصب مهما استطال فى ملكه فسوف تدول دولته وتعود الحقوق لأصحابها.
وهذا اليقين فى حق الحياة وعودة الحقوق لأصحابها هو الذى يفسّر كلمات صلاح عبدالصبور التى يوجّهها كما يقول عنوان القصيدة ــ إلى جندى غاضب(8) :
سأقتلك
من قبل أن تقتلنى سأقتلك
من قبل أن تغوص فى دمى
أغوص فى دمك
وليس بيننا سوى السلاح
وليحكم السلاح بيننا
وسياق القصيدة يقتضى أن نلاحظ أن الجندى المقصود يُفترض فيه أنه أحد الأعداء، ويؤيّد هذا اقتران القصيدة بأحداث 1956 ، رغم أنها لم تفصح عن ذلك. ومع ذلك يبقى تجهيل ذلك الجندى دالا أيضا، فهو كل جندى يشكّل وجوده خطرا على النفس وعلى المجتمع، فى كل عصر وفى كل مناسبة, والعجيب أن المواجهة تحمل فى ظاهرها قدرا من عدم التكافؤ، فذلك جندى يحمل السلاح، ومهمّته المرخّصة له هى القتل, أما هذا فهو شاعر لا يملك إلا الكلمات؛ ومع هذا فالمواجهة، أو فلنقل، إن موقف المدافعة الكامن فى طبيعة الشعر ارتفع بالشاعر وحوّله إلى جندى عند الضرورة.
ولهذا أيضا فلا يمكن أن ننكر التهاب كلمات الشعراء فى مثل هذه المناسبات، وكأنما نفوسهم مستعدة أبدا للالتهاب فى أول بادرة للعدوان على حرية العقل وحق النفس فى الحياة, وهذه كلمات أمل دنقل شاهدة على هذا الموقف فى إنكاره المباشر لإمكانية المصالحة مع العدو الذى تلوّثت يداه بدم إخوانه، حتى لو لوّح ذلك العدوّ ببريق الذهب، وموّه قوله بشعارات الحب والسلام. أو كما قال فى قصيدته الأشهر" لاتصالح "(9) :
لا تصالح على الدم .. حتى بدم!
لا تصالح ولو قيل رأس برأس
أكل الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثكلك؟
سيقولون :
جئناك كى تحق الدم ..
جئناك . كن ــــ يا أمير ـــ الحكم
سقولون :
ها نحن أبناء عم
قل لهم:
إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرسِ السيف فى جبهة الصحراءِ
إلى أن يجيب العدم
إننى كنت لك
فارسا،
وأخا،
وأباً
وملِكْ !
ورغم ما يشاع عن هذه القصيدة تحديدا من حيث مباشرتها وبعدها عن الموقف الجمالى للشعر الحديث؛ أى من حيث هو موقف إنسانى يتعالى على المواقف السياسية المباشرة، إلا أننا لا نستطيع إنكار ما حققته هذه القصيدة من نجاح بين أوساط المثقفين ومحبى الشعر بوصفها تعبيرا عن لسان الجماعة فى موقفها من الحدث السياسى, كما لا يمكن أن ننكر عمليّات التحوّل البلاغى والدلالى فى تركيبها اللغوى، بما يجعلها فى نهاية الأمر تعبيرا إنسانيا بلسان الفرد / الشاعر عن موقف المدافعة الذى أراه فى هذا الشعر؛ فخطاب القصيدة فى نهايته، يقدم نفسه بوصفه معارضة ظاهرة على السطح الجمالى لبنائها، ضد السلطة, لكنه الخطاب الذى يراه الشاعر فى ضميره ضرورة لبقاء الجماعة, ومن ثم فهو يدعم وجودها ويعزّز سلطتها من حيث يعارضها.
ومن ثم، فحديثنا عن لا تصالح يستحضر تاريخا طويلا من المشاركة الجمالية للشعر فى الأحداث الاجتماعية والسياسية التى مرّت بها أمتنا, وأظهر هذه المشاركات يتجلّى فى مواقف الحرب المباشرة، حين تضطر أمتنا لخوضها دفاعا عن وجودها. ومن ثم، فقد تتخذ هذه المشاركة صورة الحماسة التحريضية، أو الإشادة بالصمود والتصدى والفرح بالنصر.
ولا ريب أن 1973 كانت من أبرز المناسبات التى شارك فيها الشعر بصوته تعبيرا عن الفرح بالنصر، وإشادة بصمود جنودنا وأمتنا فى المعركة, ولولا أن هذه الدراسة تقصر همّها على الفصيح من الشعر لتذكّرنا ضرورة عددا غير قليل من القصائد/ الأغانى غير الفصيحة, يكفينا منها من باب الاعتراف بالأثر الجمالى لصاحبها ومنشدها " يا بيوت السويس " التى تربّينا على كلماتها، شاعرين بالقوة وامتلاك الإرادة فى الاستمساك بالصمود حتى تحقّق النصر.
أما فى الشعر الفصيح، فإن صلاح عبدالصبور يعود مرّة أخرى بقصيدتيه "إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء" و "إلى أول مقاتل قبّل تراب سيناء" , وكلتاهما جاءتا متتابعتين فى آخر قصائده من ديوانه الأخير" الإبحار فى الذاكرة" . وكلتاهما تشيدان بنصر أكتوبر العظيم , يقول فى إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء(10):
تملّيناك ، حين أهلّ فوق الشاشة البيضاءِ ،
وجهك يلثم العلما
وترفعه يداك ،
لكى يحلّق فى مدار الشمسِ ،
حرّ الوجه مقتحما
ولكن كان هذا الوجه يظهر ، ثم يستخفى
ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينينْ
ولم تعلن لنا الشاشة نعتا لك أو اسما
ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟
وأنت فى لحظتك العظمى
تحوّلت إلى معنى ، كمعنى الحبّ، معنى الخيرِ، معنى النورِ،
معنى القدرة الأسمى
والقصيدة بداهة لا تعنى فحسب الإشادة بذلك الجندىّ " المجهول "، وإنما تعنى وتعمل على تثبيت لحظة التحدى التى أمكن فيها تحقيق العبور وتأكيده بالإصرار على رفع العلم؛ لذلك فإن مقاطع القصيدة التى تلى هذا المفتتح الذى يثبّت لحظة العبور، كلها يأتى فى إطار وصورة الاستفهام الذى يؤطّر لحظة التوتر، بما فيها من فرح بالنصر، وحزن على الشهداء ، وربما حسرة على أن لم يكن الشاعر وسواه من عامة الشعب مشاركين فى تحقيق هذا النصر:
تراكَ،
وأنت فى ساح الخلود، وبين ظل الله والأملاك
تراكَ، وأنت تصنع آيةً، وتخطّ تاريخاً
تراكَ، وأنت أقرب ما تكونُ
إلى مدار الشمس والأفلاك
تراكَ ذكرتنى،
وذكرت أمثالى من الفانين والبسطاءْ؟
ومع ذلك، فهذا المفرد الغائب، ناب عن المجموع. وإنابته تمثّلت فى جمع كل تاريخ الأمة ورموزها، لتكون حاضرة وماثلة أمام عين الجماعة فى ختام القصيدة:
هنيهات من التحديقِ
حالت صورة الأشياء فى العينين
وأضحى ظلّك المرسوم منبهما
رأيتك جزع جميزة على ترعة
رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة
رأيتك حائطا من جانب القلعة
رأيتك دفقة من ماء نهر النيل
وقد وقفتَ على قدمينْ
لترفع فى المدى علما
يحلّق فى مدار الشمسِن
حرّ الوجه مبتسما
فإذا كانت مشاركات الشعر من هذا النوع تبدو وقد أخذت منها المناسبة بقدر من حيويّتها فأحالها إلى البرود، فإن ألوانا أخرى من المشاركات تبقى فاعلة ومحتفظة بحيويّتها؛ إذ لا تكتفى بالإشادة، فتضيف إلى حزنها وفرحها وعيا قادرا على استشفاف المستقبل، ليبقى الوعى نفسه هو الأمل الذى تحيَ به النفوس، والحقّ الذى ينبغى أن تعمل الجماعة على حفظه. وهذا مادلّت عليه قصائد حلمى سالم فى تحيّات الحجر الكريم, وهو واحد من دواوينه اللافتة فى موضوعها وفى طريقة بنائها؛ خاصة مع ارتباطه بثورة الحجارة فى تسعينيّات القرن الماضى. فيقول ــ مثالا ــ فى الجامعة الأمريكية(11):
كان الضباط يحيطون المسرح مدّرعينَ:
الأسلحة مجهّزةٌ بزنادٍ يتأهّبُ
لكنّ الأفئدة موزّعةٌ بين القامع والمقموعْ
فغسيل الأدمغة المحتلّة مسموحٌ،
لكن غرام الأرض المحتلّة ممنوعْ
أحرقت الأيدى الغضّة علم التلموديّينَ،
فنبتَتْ معرفةٌ طازجةٌ:
ثمة ناسٌ فى الصبحيّة تُقتلُ
ثمّة ناسٌ فى الظهر تُكبّلُ
ثمة ناس فى الليل تجوع
أحرقت الأيدى الغضّة علم الشرطىّ الكونىّ
( وكان يرفرف فى سارية المسرحِ،
ويرفرف فى قمصان المحترقين برعب الطفلِ
المصروعْ )
فاندلع الكشفُ:
الراعى صنو الذئبِ،
وحارس حقل التين هو اللصّ،
وفوق الراية جثمانٌ مصروعْ
والمقطع الذى أوردته من القصيدة، وكما نرى ، يتناول مشهد إحراق العلمين: الصهيونى والأمريكى، ويربط هذا الإحراق بما تولّد عنه فى النفوس ــ وكما يقول الشاعر ــ من معرفة طازجة، أو بالأحرى، وعىٌّ جديد فى النفوس، يكشف زيف الخطاب المعلن للمحتل ولراعيه، فلا سلام يردعهم، ولا رغبة فى تحقيق حلم الحرية يدفعهم، وكل ما يهتمون به هو اغتصاب الأرض وقتل أصحابها أو نفيهم وتشريدهم، والجثّة المرفوعة على الأعناق ـــ وهى جثث كثيرة ـــ للشهداء الذين سقطوا فى مواجهة الحجارة دالة على ذلك.
وأيّا يكن السبب الذى دفع الشاعر إلى تناول هذا المشهد، وتخصيص أكثر قصائد هذا الديوان لوقائع وأحداث الحجارة وثورتها، فقد قرن هذا التناول بالوعىّ الذى تكشفه الأحداث، وبالحقيقة التى ينبغى لنا تذكّرها فى كل حين, وأضاف إلى وعيه السخرية المرّة من الغفلة التى دفعتنا إلى قبول المحتل والاطمئنان إلى زيفه وتلفيقه زمنا طويلا.
وبالتالى، لم تعد مشاركة الشعر قاصرة على الإشادة بالنصر أو الحث على التضحية كما كان الحال فى مواقف الحماسة التقليدية، ولم تعد كذلك مجرد تسجيل للمواقف التاريخية البارزة فى حياتنا ـــ وإن يكن التسجيل فى ذاته ضروريا ومهما لوعى الأجيال فى المستقبل ـــ وإنما أضحت المشاركة الشعرية مساءلة حدية مستمرة لمواقف الإنسان كله، تسعد بالنصر، وتسجّل مفاخره، وتعرب عن حزنها لفقد الشهداء، كما ترفع الأمل فوق ذلك كله: أن يكون المستقبل أفضل، وأن تكون الحرية والكرامة عنوانا للإنسان، وأن يكون العقل هو الحد بين الحماقة والجنون، وبعد ذلك كله وقبله أيضا، أن تكون المقاومة أو المدافعة ، أو الصمود والتصدّى حبلا متينا، يتمسّك به الإنسان فى مواجهة أخطار الحياة، ويربطه على خصره ــ إن لزم الأمر ــ ليحتمل آلام الفقد والحرمان، دون أن يفقد الأمل، أو يشعر بالتعب أو يشكو المرارة.
إحالات:
1ـ الزوزنى: شرح المعلقات السبع، ط مكتبة المعارف، الأولى المجددة، بيروت ــ لبنان 2004، ص 93
2ـ ديوان حافظ إبراهيم، ط ذاكرة الكتابة 28، ج2 ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2002 ، ص 282
3ـ السابق ، ص 279
4ـ راجع بتفصيل عزالدين إسماعيل : الشعر فى إطار العصر الثورى، الدار المصرية للتأليف والترجمة، سبتمبر 1969
5ـ صلاح عبدالصبور: الأعمال الكاملة ( حياتى فى الشعرــ الدواوين الشعرية )،ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993، ص 341ــ 342
6ـ أمل دنقل: الأعمال الشعرية، ط مدبولى، القاهرة ، بدون ، ص 147
7ـ المختار من شعر محمود درويش، ط مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001 ، ص 12
8ـ الأعمال الكاملة، سابق، ص 273
9ـ الأعمال الشعرية، سابق، ص 396ــ 397
10ـ الأعمال الكاملة، سابق، ص 581ــ 582
11ـ حلمى سالم : الأعمال الكاملة ، ج 3 ، ط الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الأعمال الكاملة، القاهرة 2014 ، ص 486 ــ 487 والجدير ذكره أن الديوان صدر للمرة الأولى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أيضا 2003