القاهرة 28 اغسطس 2018 الساعة 11:04 ص
كتب: أحمد رجب شلتوت
حينما أعلنت الأكاديمية السويدية منح جائزة نوبل للآداب للروائي الفرنسي "باتريك موديانو" قالت إن الروائي استحق الجائزة بسبب تمكنه من فن الذاكرة الذي أنتج أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم، وكشف العوالم الخفية للاحتلال. هذا الربط بين الرواية والذاكرة لم يكن غريبا، فالذاكرة تمثل الأداة الأهم في يد الكاتب عموما والروائي بخاصة، فهي تشكل له منبعا للتصورات والأفكار، ومخزنا للصور والأشخاص والأمكنة، ولا يشترط أن ترتبط الذاكرة بالسيرة أو بالتاريخ فهي ترتبط بفعل الكتابة عموما.
مداد الحنين
وعنها يقول الكاتب "سعيد الكفراوي": الذاكرة هي السلاح الأهم في يد الكاتب وشرط تحققها هو كسر الترتيب الزمني السائر عبر الخط المستقيم، أيضا يستلزم تحطيم السياقات التقليدية للغة، تلك السياقات المستقرة بصورة ما داخل الوعي، وانبثاقات الحكايات القديمة، والمتمثلة في أساطير يتم من خلالها تشكيل عالم جمالي جديد وفق أنساق مغايرة, وفي ظني أن دور الذاكرة فى كتابة القصة لا يقتصر على الكاتب فقط بل يخص القارىء أيضا، فهو مشارك بذكرياته التي تلتقي بدرجة ما مع ذكريات الكاتب، الذاكرة للوهلة الأولى محصلة لما جرى فى الماضي، لكن ذلك في الفن غير صحيح، فالذاكرة تعيش حاضرها، تعيش داخل المخيلة برموزها وطقوسها؛ فدور الذاكرة أن تستعيد الماضي بكل جماله وقبحه شريطة أن يحيا الآن وفي المستقبل. وأنا كاتب قصة بذاكرة قديمة، ذاكرة تعيش بعذاب العيش في الأزمنة كافة ومع مرور الزمن والموت وضياع الأشياء ورحيل من أحببتهم يتولد لديّ حنين يساعدني على الكتابة. وهنا أتذكر مقولة للدكتورة سيزا قاسم عن قصصي, فذات مرة قالت: " الكفراوي كاتب قادر على أن يستعيد الماضي، وذاكراته توأم للخيال "، ومرة سألوا الروائي ماركيز: من كتب هذه الروايات؟ فأجابهم: كتبها الحنين. ولم يكن مبالغا أبدا فالكتابة الجيدة دائما مدادها الحنين.
اللوح المحفوظ
أما الكاتب محمود الورداني فيرى أن "الذاكرة هي ما يشكلنا جميعا، سواء كانت ذاكرة الكاتب أو الذاكرة الجمعية التي تحفظنا ونحفظها منذ تفتح وعينا وحتى وقت الرحيل الحتمى, أحسب أن الذاكرة هي اللوح المحفوظ، المسجل عليه مجمل آلام وأحلام البشر، وأحسب كذلك أن نصوصا كثيرة حفلت بالذاكرة واحتفلت بدورها، فثمة احتفال غنى بذاكرة الراوي والشخوص، وأنا منذ وعيت الكتابة أعتمد عليها، ربما لأنها تمنحنى فرصة للتأني والتقاط الأنفاس والغوص والرحيل والرجوع، وربما يرجع ذلك لارتباطها الخاص بالزمن الفني، كما قد يرجع ذلك إلى ارتباطها أيضا بكل الأشياء البعيدة التى أجدني دوما فى حالة حنين لها، إن ما مضى يكتسي بغبار خفيف عبر السنين لكن يبقى شيء منه عالقا، هو الحنين".
الحضور المفاجىء
ويربط الروائي ابراهيم عبد المجيد بين بدايات أعماله والذاكرة فيقول: الذاكرة هي البداية دائما، لكن ما يهمني هو حضورها المفاجىء أثناء الكتابة، فثمة مشاهد قديمة لم تكن في بالي عند بدء الكتابة لكنها تطفر فجأة، وكثيرا ما يأخذ العمل مسارا مغايرا بسبب هذا الحضور المفاجئ، كثيرا ما اكتشف ذلك فأعيد ترتيب أوراقي، وأحيانا أكتشفه بعد الفراغ من الكتابة، والغريب أن الذاكرة أحيانا ما تتعامل مع أشخاص وأحداث أبني عليها القصة، تتعامل معها بطريقة مقلوبة، فقد تأخذ الشخص أو الحدث وتضعهما في مكان وزمان غير زمانها ومكانها، ودائما ما تحتفظ لي الذاكرة بالأسى والحزن مما قرأت أو شاهدت ولا تحتفظ للأسف بالفرح.
المادة الخام للفن
ويقول الكاتب والناقد "حسين عيد": تلعب الذاكرة دورا أساسيا فى القصة الحديثة، تحاول القصة فيه أن تقترب من حركة الذاكرة نفسها، وتعمل بوسائل عمل الذاكرة، فتستخدم التداعى والمونولوج وغيرهما، كما تلجأ القصة إلى إحداث تداخل بين الأزمنة والأمكنة مستفيدة من تقنيات السينما, وعموما فالكتابة في مختلف العصور كتابة من الذاكرة حتى الكتابة الآنية منها, بمعنى أن الكاتب حينما يكتب أحداثا معاصرة فإنه يستعين بذاكرته في نفس الوقت، وكما يقال فلكل كاتب عالمه الخاص أو المنطقة التي يرتاح للكتابة فيها، والذاكرة تعمل فى تلك المنطقة المشكلة لعالم الكاتب، فهي التي تمنحه المادة الخام لفنه.
المعجزة المدهشة
وترى الكاتبة انتصار عبد المنعم أن دور الذاكرة في الإبداع يرتبط بمراوغاتها فتقول: الذاكرة، تلك المعجزة المدهشة، التي تمحو ما تشاء، وتثبت ما تشاء، وتعظم من أمر صغير، وتجعل الجبل الشاهق في حجم حبة من الفستق الحلبي, إن أرادت في الوقت الذي تشاء أيضا, تلك المدهشة فريدة التكوين، العصية على الفهم، تمثل أداة هامة لنوع غير معتاد من الكتابة. فإذا كان المخيخ هو من يتحكم في حركة الذاكرة، فالأديب على الورق يأخذ دور المخيخ والجهاز العصبي معا، ويلعب بالذاكرة، يراوغها وهي المراوغة، يكتب لها ما ينبغي أن تخزن بصورة دائمة، فيكون غير قابل للمحو، ويكتب لها ما يجب أن تنسى, وما بين النسيان والتذكر، هناك منطقة مراوغة كالأرجوحة، ينسج عليها الكاتب حكايته، فتبدو في النهاية حكاية حرة لا تتقيد بزمان أو مكان معين، وغير مطالبة بتقديم تفسيرات أو تبريرات لكل حدث أو موقف.
وتضيف: ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها، فقبل التفكير في كتابة عمل أدبي يأخذ من أحوال الذاكرة مادة له، ينبغي على الكاتب أن يقرأ كثيرا في علم النفس، وعن أنواع الذاكرة، وفقدان الذاكرة الكلي والجزئي، وآلية عمل الجهاز العصبي, وعليه أن يهضم كل هذه المعلومات، ليكون منها المشهد الخلفي لأحداث عمله الإبداعي، فهو ليس مطالبا بكتابة بحث علمي عن الذاكرة، ولكنه سيكتب عملا من اختراعه بمعطيات متشعبة لا حدود لها.. وهذا ما فعلته في روايتي الأخيرة "كبرياء الموج", فالذاكرة في "كبرياء الموج" هي البطل الرئيسي، تتحكم في الساردة، وتملي عليها ما تكتب، وما تترك، تجعلها تتجول في الماضي، وتنتقي منه ما تشاء لتحكي بلا ترتيب، وتقفز على سنوات أخرى، وأحداث عديدة، من غير قيد أو شرط، فالتبرير موجود بتواجد اللاصقة الطبية على معصمها التي تشير إلى حالة فقدان الذاكرة التي تصيب الساردة رويدا رويدا حتى النهاية.. وما بين فترات النسيان، والوعي، جاءت أحدث الرواية وكأنها محاولة للقبض على ذات توارت خلف أستار ماض لا تستطيع استرجاعه، وحاضر لا تقوى على تحمله، ومستقبل لن تشهده.
نحن ما نتذكره
و أخيرا تقول الروائية منصورة عز الدين: الذاكرة عندي حاضرة حتى في الأحلام، فما يهمني بالدرجة الأولى محاولة فهم هذا الواقع وإشهار حيرتي المعرفية في وجه عالم إشكالي بالغ التعقيد. في كتابتي لا أقدم إجابات بقدر ما أطرح أسئلة، أنحاز للشك القلِق وأرفض اليقين المطمئن, الحلم عندي وسيلة لفهم العالم، لتفكيكه وإعادة تركيبه المرة تلو الأخرى, هو أيضاً مرآة تنعكس عليها النفس البشرية بما تحمله من تناقضات وجوانب مظلمة, هو لغة اللاوعي ومترجمه, إضافة إلى أن مزج الحلم بالواقع والوقوف في المسافة المخاتلة بينهما يمنح فهماً أفضل لكليهما. منذ البداية أتململ من الكتابة الواقعية الصرفة، ومن التعبير فقط عمّا تراه العين وتلمسه اليد، يغويني أكثر القبض عبر الكلمات على ما لا يُرَى وما لا يُمسَك، على ما نحدس به في أحلام تكسر رتابة الواقع وتعيد اختراعه من جديد ممزوجاً بالفانتازيا. بالنسبة للذكريات، فالذاكرة وآلية عملها، انشغال أساسي عندي؛ نحن ما نتذكره من حياتنا، ولا يمكن فهم الحاضر دون الرجوع للماضي. في "وراء الفردوس" لم تحضر الذاكرة فقط عبر الذكريات التي تستعيدها البطلة سلمى رشيد، بل استعارت الرواية بنيتها وعمارتها من طريقة عمل الذاكرة، في قفزها من زمن لآخر ومن لحظة لأخرى, فهل الكتابة من هذا المنطلق عندي، تبدأ من منطقة "النوستالجيا"؟.. أجيب : لا هي أبعد ما تكون عن ذلك, النوستالجيا توقع الكاتب في فخاخ كثيرة، قد توهمه مثلاً أن الماضي الذي يتناوله عصراً ذهبياً، فتعطل نظرته النقدية إليه, أحب تناول عوالمي بشكل مركب يتجاور فيه الجيد مع السيئ، المثالي مع الكارثي، وأن تتباين الشخصيات في منطلقاتها ويحمل كل منها خطابه الخاص, الرواية من وجهة نظري هي الفن الأكثر تركيباً، وهذا يجعلها تتجاوز كاتبها ذاته بأفكاره وقناعاته، لتقدم لقارئها عالماً موازياً للعالم الذي نعيش فيه، أو تخترع حتى عالماً غرائبياً لا يربطه بعالمنا إلاّ القليل، مبتعدةً عن فكرة أن الرواية هي مجرد محاكاة للواقع، مخلصةً فقط للخيال الجامح وحرية الاختراع والابتكار.
وتضيف منصورة : في روايتي "متاهة مريم" كانت خيانة الذاكرة جزءاً أساسياً من شخصية مريم, كانت تسترجع كل حياتها كشذرات فقط غير واثقة بأي شيء خاصة مع ضياع كل شيء من ذاكرتها، وهذا في الرواية معادل لفكرة إمحاء الوجود نفسه, أنا جميع ذكرياتي و"مريم" مشكلتها مع الذاكرة وفكرة القرينة التي سرقت ذكرياتها, بينما في "وراء الفردوس" جاء سؤال الذاكرة بشكل مختلف، وكانت فكرتي أن جزءاً كبيراً من أعطاب الروح وليدة الماضي, كل المشاكل حدثت نتيجة أخطاء شديدة في الماضي, في المشهد الافتتاحي في الرواية تقوم سلمى بحرق صندوق تركه لها والدها وكأنه تراث الماضي حتى تبدأ حياة جديدة لكن الجزء المسكوت عنه هو أن أعطاب الماضي تظهر في حاضر بليد ليس به إنجاز ما, يعني لو كان الحاضر قويا لكان في الإمكان تجاوز الماضي بأخطائه ونكباته وآلامه. الماضي يزيد ويتضاعف لو كان الحاضر بليدا وليس به شيء مفرح.