القاهرة 08 مايو 2018 الساعة 11:38 ص
كتب ـ أحمد مصطفى الغـر
نُصوص أغانيها تعبقُ بأريج الذاكرة، ومع كلماتها تتهادى نكبات القلب، وعبر ألحانها تُطرب الآذان، إنها أغاني جارة القمر "فيروز"، كثيرٌ ما يصعب تدارك معاني وتراكيب الكلمات فيها، وقلة من يكابدون وجع التقصي، تأسرنا الألحان المصحوبة بصوتٍ شجي، وهذا يكفي، بل يزيد!، فالإبداع الفيروزي يحوي سحراً مبثوثاً في تفاعل درجات الكلام وتلاقيها، محدثاً روافدَ من الشجن المختلف في أغنية واحدة، فهى الظاهرة النصية الأروع في النصف الثاني من القرن المنصرم، وسيظلُّ السؤال كلما وجدت فنجان قهوة، أين ما ينقصني؟، بالطبع إنه صوت فيروز، أغنية واحدة لها كفيلة بأن تُلبّي نداء الشوق وتلامس حنيناً في داخلي، صوتها يدغدغ الوسن الذي يخالط جفوني وأنا أعاند ساعة الذهاب إلى النوم، وعندما يتكثّف الغيم في ليلٍ شديد الظلمة، أدرك أن جارة القمر وحدها ـ هى ـ القادرة على إخراجنا من ظلمته الموحشة.
الحنجرة الفيروزية شامخة كعظمة القمم، من حينٍ لآخر تتوجه إلى جمهور بلد عربي، تلامس من شغاف قلبه قضاياه الكبرى، وتلامس وتر همومه الوطنية، وترفع من روحه، غنت لوطنها لبنان إلى جانب سوريا ومصر وعمان والكويت والعراق والسعودية وغيرهم من الدول العربية، لا تكتمل الصباحات من دون صوتها الملائكي، الذي كان ـ ومازال ـ ملازماً لكل المحطات الإذاعية، أو افتتاحيات البث اليومي للقنوات التلفزيونية، خاصةً عندما كانت تعمل لساعات محدودة قبل أن تدخل عصر البث المتواصل، بصوتها القمري الهامس تداعب فينا ذكريات وحنين ومشاهد ولحظات عيش، وبألحان أغانيها كانت تخلبنا كضوء شمس صباحات ريفية، يطلع في هدوء، وفي المساء يسحرنا حزنه الشفاف لحظة الغروب، وفي لحظات البرد كانت الألحان تدب بالدفء داخل بيوتنا الطيبة المُحاطة ببياض الروح. يُروى أن المطرب الراحل "عبد العزيز محمود" مرّ على بيروت، وعرض على فيروز العمل فى السينما، فاعتذرت قائلة: "بعدين، لما أكبر"، ومن المفارقات أيضا أن نجم الشاشة المصرية الأول فى ذاك الزمان "أنور وجدي" جاء إلى بيروت بحثاً عن فيروز، لكن الصبية الخجولة كانت منشغلة بدروسها، وبالتالي لم تتح لها فرصة لقاء النجم ذائع الصيت حينها!
فيروز امتدادٌ نحو البعيد فينا، من الأخوين رحباني إلى زياد وما بينهما، وبالرغم من الفارق في أنماط الأغاني وأنواعها الموسيقية، مازالت تخلبنا كلمات أرزة لبنان، بعذوبة الصوت ورَوعة الأداء، أحاول الإختباء وراء أغانيها التي أثارت فيّ تحدي البقاء في حدود الطفولة، كي لا أغادرها، (وإذا هني كبرو نحنا بقينا صغار.. وسألونا وين كنتو وليش ما كبرتو أنتو .. منقلن نسينا، واللي نادى الناس تيكبروا الناس راح ونسي ينادينا). صوت الحياة وعصفورة الوجود وخارطة الصباحات المسالمة، ظلت دائما وجهة الأذواق المختلفة، استطاعت بذكاء مدهش تحويل مفهوم الحب في الأغنية العربية من حب الآخر إلى حب الوجود فيه، تشعر بهدوء البال وراحة الأعصاب وهى تشدو (سألوني الناس عنك يا حبيبي.. كتبوا المكاتيب وأخذها الهوا)، بصوت دافئ قادر على صنع النشوة التى لا تنتهى ، شجى ومغرد، به عذوبة وبكارة ونضارة. أغانيها ليست أكثر من كلمات ولحن يكسو هذه الكلمات، لكن صوتها ينقل الكلمات واللحن بنغم خاص إلى آذاني، فهو نبعٌ صاف ملىء بالإحساس، (اعطني الناي وغني فالغناء سر الوجود، وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود).
لم تكتف فيروز بالعربية لتشدو بها، فكانت لها تجارب غنائية في الفرنسية والإنجليزية، هذا إلى جانب بعض التراتيل الدينية باللغة اليونانية، فالطموح الفني لها لا يحده حدود، آلان وبعد أن تجاوزت الثمانين، مازالت أغانيها تقف على أبواب قلوبنا تتراءى، تحمل غناءاً للحياة وموسيقى للروح بمثابة مصافحة، فذات مقابلة سأل المذيع موسيقار الأجيال الفنان الكبير الراحل (محمد عبدالوهاب)، عن أصوات أشهر المطربين والمطربات العرب، فتحدث عبدالوهاب عن خصائص وأهمية صوت أم كلثوم ثم عبدالحليم وفريد الأطرش ووردة وغيرهم، ثم صمت، فظهرت الدهشة على المذيع، الذي سأل عبدالوهاب باستهجان، محاولاً دفعه لاستدراك خطأ قد لا يكون متقصداً، فقال: "لم تتحدث عن صوت فيروز؟"، فرد عليه عبدالوهاب بالقول: "أنت سألتني عن أصوات البشر، ولم تسألني عن أصوات الملائكة".