القاهرة 24 ابريل 2018 الساعة 10:35 ص
جيلان صلاح الدين
بتأمل فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينج، ميزوري" يبدو صورة لحدوتة عن أم تريد الثأر لمقتل واغتصاب ابنتها الذي قُيد ضد مجهول، فيلم درامي من العيار الثقيل، في صميم الجنوب الأمريكي بلكنة أبنائه الثقيلة، وتيمات الانتقام الغالبة على أعماله، لكنه في مضمونه فيلم سياسي يحمل من الغضب كما يحمل في طياته رسائل عن الغفران؛ ملدريد البطلة الضد التي تطالب مجموعة مهزومة من الأشرار (على غرار أفلام الكاوبوي الشهيرة) بالثأر لمقتل ابنتها على يد مجهولين واكتشاف القاتل الحقيقي. ولكن بالتدقيق، ما قصة الفيلم إلا تعبير مضمن عن غضب الناس تجاه الحكومة والشرطة، وتحديهم للسلطة كمثال ورمز، حتى وهم يعرفون بعجز هذه السلطة وانعدام قدرتها على تحقيق العدالة في الأمور المستعصية بينما نجد أفرادها شديدي القسوة مع المهمشين وأبناء الأقليات، محاولةً منهم ربما للتنفيس عن عجزهم في إتقان عملهم بما ينبغي، وربما إفراغاً لعنصرية دفينة، لم تمحها سنوات التحرر من عبودية الرجل الأبيض للأسود؛ ومن هنا يتنامى لدى عامة الشعب الشعور بالغضب والثورة تجاه السلطة ويتحولون إلى أعداء صريحين لها دون أن ينتووا ذلك.
ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينج، ميزوري: ذكاء التحريض وقدرة العنف على التسامح
فرنسز ماكدورمند تضطلع هنا بدور الأم المكلومة ملدريد والتي لا تترك لنا فرصة كبيرة للتعاطف معها، فهي كما وصفها القزم الذي أحبها وحاول التودد إليها ما هي إلا مخربة تحرق أقسام البوليس، لا تبتسم أبداً، وليس لديها شيئاً طيباً لتقوله عن أي أحد. في حين أن عدوها يبدو مثيراً للشفقة، رئيس قسم الشرطة ويلبي العجوز والذي يعيش آخر أيامه مع سرطان البنكرياس، ولديه أطفال صغار يعاني كل يوم بينما يتخيل أنه سيتركهم من بعده. قد يكون الخصم الوحيد الجدير بالكراهية وتعاطف المشاهدون مع ملدريد ضده هو ديكسون الشرطي العنصري الذي يقوم بتعذيب المتهمين السود ويضطهدهم ويلقي بدعابات فجة ضد المثليين الذين يكرههم، ولكن حتى مع هذه الشخصية الكريهة، فإن ويلبي يكتشف فيه لمحات لا يعرفها ديكسون عن نفسه، تظهره بصورة أكثر إنسانية، مما يجعل التعاطف مع ملدريد العجوز أكثر صعوبة، ويترك المشاهد في حيرة من أمره؛ مالذي يريده الفيلم منه بالضبط؟
الفيلم على انتصاره للقصة والأبطال المهزومين محرض للغاية؛ فالنيران التي أشعلتها ملدريد في قسم الشرطة هي التي أطفأت نيران الحقد في قلب ديكسون، بعد أن احترق وجهه، ووقف وجهاً لوجه مع أحد ضحايا عنفه غير المروض، والموجه للمجتمع بأكمله. تغلف الفيلم صيغة سياسية أناركية شديدة الذكاء والتمويه في آنِ واحد؛ إنها تطلب من المشاهدين الثورة؛ فثورة ملدريد هي التي دفعت رئيس
الشرطة ويلبي للانتحار، والشرطي ديكسون للتسامح مع ريد؛ آخر ضحاياه، وهي التي دفعت ملدريد نفسها لاتخاذ رد فعل إيجابي نسبياً ضد زوجها العنيف الذي كان يضربها، وهي التي قاربت بين شخصيتين تحملان الكثير من التشابه رغم تنافرهما من حيث الأهداف؛ ديكسون وملدريد نفسها. كما أنه يطلب منه ولو بصورة غير مباشرة أن يأخذ رد فعل، حتى ولو على حساب القانون؛ بالنهاية الكاوبوي الشهيرة والتي يمكن قراءتها على خلفية جميع الأفلام التي تحمل بطلين –أو بطلتين مثل "ثيلما ولويس" عام 1991– يركبان السيارة ويسيران صوب الشمس وراء حتفهما أو وراء المجهول، صورة شاعرية للغرب الأمريكي الثائر على الصورة الكلاسيكية للكاوبوي الذي يدفع حياته ثمناً للنزال الأخير.
تسييس السينما من خلال نماذج لأفلام الأغلبية السوداء
يتماهى فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينج، ميزوري" مع تصاعد موجة "حياة ذوي البشرة السوداء مهمة" Black Lives Matter خاصة بعد أحداث العنف التي وقعت في مدينة فيرجسون بولاية ميزوري، حيث أطلق شرطي أبيض النار على شاب أسود دون وجه سبب، مما أدى لتصاعد موجات الغضب المجتمعي والمظاهرات ضد الشرطة وفجر سلسلة من الاحتقانات الخفية بين الشرطة الأمريكية والمواطنين الأفروأمريكيين. بقليل من الخفة والنعومة، استطاع مخرج ومؤلف الفيلم مارتن ماكدونه أن يمنح امرأة بيضاء شرف إشعال فتيل الثورة ضد كيان الشرطة في بلدتها، ولتختبئ وراءها مئات القصص عن تعذيب وإلقاء القبض على الملونين دون وجه حق، إضافة إلى تضمينه الفيلم رسالة نسوية باستخدام امرأة عادية الملامح، من قلب الأرض والحياة الشاقة في ولايات الجنوب المنسية لتناطح الذكور الخشنين بدايةً من رجال الشرطة وانتهاءً بزوجه السابق شخصياً، مما يجبرهم في النهاية على الإنصات إليها، أو الإذعان لرأيها، بل إن الفيلم ينتهي وقد أدى دوره كاملاً في تحريض المشاهد على سلك درب العدالة لأن الشرطة غالباً ما ستقف مكتوفة الأيدي أمام قصور القانون في تطبيق العدل.
قد يُعتبر تأويل "ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينج، ميزوري" بهذه الطريقة مبالغاً فيه، لو لم تتحول التظاهرات الفنية والسينمائية مثل الجولدن جلوب والأوسكار إلى منابر سياسية، يتم تكريم الأفلام فيها على اعتبارات سياسية في المقام الأول، بينما يتم ضرب المعايير الفنية والجمالية عرض الحائط. فيلم "بلاك بانثر" أو الفهد الأسود هو أكبر مثال على تغلغل مبادئ تسييس الفن في النقد الأنجلوساكسوني الأمريكي. وموقع روتن توماتوز Rotten Tomatoes أكبر شاهد على تطويع الفن للسياسة، فأصبح فيلم بلاك بانثر هو فيلم السوبر هيرو الأعلى تقييماً على الموقع، كما أن الموقع أطلق تحذيراً بحظر أي عضو سيمنح تقييماً سلبياً ضد ساوندتراك الفيلم. من المعروف بالطبع أن فيلم "بلاك بانثر" هو أول فيلم سوبر هيرو بغالبية سوداء في طاقم التمثيل إضافة إلى كاتب السيناريو والمخرج، ويمثل عالم أفريقي لم تطله يد الاستعمار الأبيض مطلقاً، مما حرر المشاهدين السود –بحسب معظم الأقلام النقدية– من إشكالية النظرة البيضاء المغلفة بالصناعة السينمائية في استقراء الشخصيات السوداء على الشاشة. استحقاق فيلم "بلاك بانثر" لهذه الإشادة النقدية من عدمها لا يقلل من خطورة الحملة السياسية التي دفعت به للأمام، والتي دفعت أيضاً بفيلم شديد الجودة من الناحية الفنية وهو "مونلايت" والذي ضم طاقم أسود بالكامل سواء أمام أو وراء الكاميرا لانتزاع أوسكار أفضل فيلم من "لا لا لاند" العام الأسبق بطريقة قد تتضمن شكاً أن ما دفع الفيلم لانتزاع الجائزة هو محاولة لإرضاء الكتلة السوداء خاصةً بعد صعود دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وما يحمله من صورة كلاسيكية للرجل الأمريكي الأنجلوساكسوني، مما دفع لجنة الأوسكار –ربما– للتخوف من تهمة العنصرية بمنح الفيلم جائزة لا يستحقها.
استخدام السينما كوسيلة تحريضية ليس أمراً جديداً، وإذا كان الثمن هو فيلم شديد الذكاء مثل "ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينج، ميزوري" إذاً فلا بأس. لكن الفن كهدف أسمى وراء صناعة أي فيلم سيتم قريباً انسحاقه أسفل رايات الصوابية السياسية مما يترك حالة من الجدل المبتور، كون معارضة عمل فني يحمل "رسالة ضمنية" وراءه يُعد تعدياً على من تتوجه الرسائل لهم على خلفية مجتمعية أو عرقية أو جندرية ما، ومن ثم تقف هذه النظرة المتعاطفة حائلاً بين النقد الحقيقي لأصل العمل الفني وأهمية الرسالة التي يحملها لإرضاء طائفة مجتمعية تم تهميشها سياسياً وفنياً واقتصادياً.