القاهرة 05 مارس 2018 الساعة 05:58 ص
متى يتوقف العرب عن اختلاق معارك وهمية حول جدلية الأنا والآخر؟
هل يمكن لنا أن نبحث في تراثنا عن قيم ومشتركات ومعارف تقضي على صراع الهوية الذي نعاني منه؟
سؤال من نحن سؤال الهوية الثقافية تطرحه الأمم في حالات الانكسار والضعف التاريخي.
د. هويدا صالح
إن جدلية الأنا والآخر، وعلاقتنا مع الآخر المختلف، وخاصة الآخر الغربي المتمثل في المجتمع الأكثر تفوقا علميا، والذي تشيع فيه القيم الأكثر تداولا عالميا مثل قيم التحرر والمدنية والديمقراطية، هي علاقة نالت الكثير من اهتمام المفكرين والمثقفين والباحثين، فسؤال الهوية الثقافية، وسؤال من نحن، هل نحن عرب ننتمي أكثر لتراث يمثل خصوصية ثقافية لنا أم ننتمي إلى مفاهيم اللحظة التاريخية الراهنة، التي تجعلنا مجرد أمة تابعة للغربي الأكثر تفوقا في هذه القيم هما سؤالان مشروعان وسنظل نطرحهما ما دمنا نعيش لحظات انكسارات تاريخية فادحة، فالأمم لا تطرح سؤال هويتها إلا في لحظات الضعف والانكسار، ونحن منذ ما يزيد عن سبع سنوات أو يزيد ونحن في حالات من الضعف والانكسار، وحين أقول( نحن ) أقصد الذات العربية المترعة بالهزائم، فمنذ انطلاق ثورات الربيع العربي، والأمة العربية جميعها تعيد طرح سؤال هويتها أكثر كثيرا عما سبق من طروحات فكرية في هذا الموضوع.
إن الأنا العربي في مقابل الآخر الغربي في لحظات صراع وجدل مستمرين منذ عقود طويلة، وهذا الصراع وليد عقود الاستعمار الطويلة التي أعادت الغرب سنوات طويلة من التراجع الفكري والاجتماعي والثقافي والسياسي.
ثمة دعوات تريد أن تثبت الأفضلية للعقل الغربي وتظهر العقل العربي على أساس أنه تابع لا يستطيع أن يستفيد من المُعطى الوجودي ليشكل كينونته الخاصة محكومة بسلطة الزمان، وإنما كل ما أُنتِج بفضله، هو وليد الصناعة الغربية المعترف لها بالعقلانية، وبذلك قامت هذه النظرة الفوقية على التعالي وانتهت حِكميتها إلى الإثبات والتبرير للمركزية الغربية، كما أنه ثمة نظرية مفارقة لهذا الطرح ومضادة له، وهذه النظرية ترى أن الذات العربية هي الأقوى والأكثر أصالة، بل تغالي فتبحث في كل النظريات الفكرية والفلسفية، بل وحتى النقدية الغربية عن جذور عربية لها، فكلما طرحت نظرية حداثية غربية تسمع من يقول نحن لدينا جذورها وإرهاصاتها في التراث.
من أجل ذلك شكلت العودة إلى التراث هاجساً اضطلع به عدد من النقاد والمفكرين لدحض هذه الآراء، وإعادة تشكيل رؤية قائمة على الانتصار للعقل العربي وإثبات أولويته في إنتاج هذه الأنماط التي حسبت للغرب مع إعادة تفكيك الخطاب الاستشراقي وفضح توجهه الاستعماري، ومن هؤلاء: الجابري، حسن حنفي عبد الله إبراهيم...، بينما حاول نقاد آخرون تفكيك العقل الغربي وإثبات قيامه على أسس واهية تدّعي العقلانية والأفضلية في حين أنها تقف على أرضية لا عقلانية ، وفي قراءتهم للتراث عاد هؤلاء النقاد والمفكرون، إلى المهمّش والمسكوت عنه في التراث العربي ، وأسباب إبعاده باستقراء التاريخ السياسي والاجتماعي والأدبي، أي ربطه بالسياقات المختلفة السياسية والاجتماعية والأيديولوجية، مستنتجين ما للسلطة ـ مهما كان نوعها ـ من قدرة على إعادة تشكيل الرؤية الثقافية والمنظومة الفكرية بما يوافق توجهها، ومن هنا اضطلاعها بتهميش أنماط معرفية معينة لعدم تماشيها مع مسارها، وتجلّى ذلك خاصة في التصوف والمقامات وبعض الانتاجات الأخرى التي لم تعترف بها السلطة الرسمية.
وتبقى الذات العربية واقعة في الصراع بين هذين التيارين، تيار الانسحاق أمام الغرب ومنجزاته وطروحاته الفكرية، وتيار الارتداد للتراث، والوقوع في فخ الفكر الماضوي الذي يريد أن يعيدنا لبدايات الدولة الإسلامية، أي قبل أكثر من أربعمائة قرن للوراء، حيث يوجد تصور ذهني مصنوع عن عصر الخلافة الراشدية.
صحيح نحن في حاجة شديدة إلى تفكيك للخطاب الاستعماري وإعادة قراءة المعطى الثقافي ومساءلة التراث بالنظر إلى السياق الثقافي الذي أنتج فيه التراث مقولاته الفكرية والنقدية، وإلقاء الضوء على المناطق المضيئة في هذا التراث، الانتصار للقيم المعرفية والإنسانية فيه، التي يمكن أن تشكل مشتركات حقيقية بيننا وبين الآخر، الذي لا يجب أن يكون بالضرورة عدوا، فهو آخر شريك في الإنسانية، لذا من مصلحة الذات العربية أن تعود لتراثها؛ لتأخذ منه ما يناسب الآني وينتصر للمستقبل، ولا تقيم حربا مع الآخر المستقوي بامتلاكه للمعرفة، بل تفيد من معارفه وطروحاته.
ربما يرى البعض أن هذه النظرية توفيقية، وأننا إما أن نحسم أمرنا بالانتصار لتراثنا باعتباره الأفضل والأقوى، أو ننتصر للغرب المتفوق فعليا. لكن ماذا سيضيرنا لو تعاملنا مع الوضع بشكل توفيقي، لربما حللنا جزءا من إشكاليتنا الفكرية التي تهدر قوانا وطاقاتنا في اختلاق خلاف قد لا يصبح موجودا أصلا لو نظرنا للأمر على أنه رحلة البحث عن المشتركات الإنسانية التي تجمعنا بالآخر.