القاهرة 12 ديسمبر 2017 الساعة 11:31 ص
بقلم: مختار سعد شحاته.
عدى النهار:
مضى النهار الأول على وجودي في المزرعة وأنا مأخوذ بجمال الطبيعة حولي، وتلك السيمفونية التي راحت تعزفها عشرات الطيور التي حطت على الأشجار للمبيت، حين كانت الشمس تودعنا بتؤدة غير اعتيادية، وشعرت للحظة أن الشمس ترفض الغروب، فها هو شعاعها القاني لا يزال في السماء، وأطلت النظر في الأفق من مكاني حيث جلست على أحد الكراسي الهزازة التي وعلى إثر اهتزاه تقلبت أفكاري واختلط مجازها بحقيقتها، فرحت أتخيل الشمس هنا وهي ترفض أن تغادر هذه الجنة الزاهرة بأنواع مختلفة من الطيور والفراشات التي تملأ المكان، ومن حولها همس الريح للشجر المحيط بنا
كسياج لحديقة البيت لمنع دخول الحيوانات في الليل إلى داخل الحديقة المنزلية.
وبينما كنتُ في تلك المنطقة بين الخيال والواقع، أظلمت الدُنيا فجأة، وبشكل مفاجيء، ولحظتها كنت أحاول تخيل ما قرأته عن فترة الاحتلال البرتغالي للبرازيل، وما عرف وقتها بحقبة العبيد الأفارقة، وسؤال في داخلي يأكلني وأتحرج من سؤاله لمضيفيّ الكريمين، إن كانت المزرعة هُنا واحدة من تلك الأراضي التي شهدت فصلاً من هذا الصراع بين السادة والعبيد، أو بين المحتل البرتغالي الأبيض وأهل الأرض من الهنود الحمر؟ ابتلعت السؤال وفضولي معه بصعوبة، إذ أخرجني نداء صديقي الدكتور لأجل العشاء.
العشاء البرازيلي:
عرفت فيما بعد أن الشعب البرازيلي شعب منظم جدًا في أمور طعامه، ونادرًا ما يتهاون في توقيت الطعام، إذ يُعتبر التجمع أمام المائدة واحدة من أهم التقاليد البرازيلية التي يحرص عليها الشعب البرازيلي في المزارع والقرى والمدن الصغيرة، بل حتى المدن الكبيرة التي ينشغل فيها الناس بالعمل طوال النهار، فهم يحرصون على تناول الطعام في صحبة أشخاص آخرين ويفضلون ذلك على تناوله منفردين، وهو بالقطع ما استدعى معي ذكريات طفولية هناك في قريتنا البعيدة التي ولت أيامها قبل أن تتحول إلى ذلك المسخ الذي مسخ ريف مصر كلها إلا من رحم ربي، حين كُنا نتجمع كعائلة واحدة ثلاث مرات على "طبلية/ سفرة" الطعام، حتى أنك يمكنك أن تضبط الساعة على تلك المواعيد، وهو تمامًا ما قاله لي صديقي الدكتور، حين قال: "هُنا مواعيد الطعام وتقاليده أمر عائلي مقدس للغاية".
الحقيقة أن ذلك أدهشني ، فرغم ما كنت أعتقده عن العالم الغربي المنفلت والمُضيع لقيم الترابط والأسرة نتيجة لعلاقاته المفتوحة على الدوام، إلا أننا كنت بصدد انجلاء حقيقة واحدة تؤكد لي أن تكوين الصور النمطية المسبقة عن أمر ما أو شخص أو مجتمع لن تكون صحيحة بقدر كبير، ليتأكد لي المثل المصري العبقري الذي هدم فكرة الصور النمطية المسبقة والتي يتم بناؤها دون خبرة حين يقول: "تعرف فلان، آه، عاشرته، لأ، تبقى متعرفوش"، هنا أعترف بزيف صورتي النمطية عن الشعب البرازيلي التي تكونت من المسلسلات التي كانت تُعرض في فترة ما قبل الغزو المسلسلاتي التركي الذي أفسد –في ظني- كثيرًا من أصالتنا وحياتنا.
تكون العشاء في قوامه الأساسي من الخبز الفرنسي، والزبدة والجبن والبيض، وبعض المربات، وعصير البرتقال، لكنهما زادا في محبتي بإبريق كبير من اللبن، وبعض اللحم المقدد وقليل من الخضروات "البقلة"، وراحا يشرحا لي كيف أن كل "كوميدا" (وجبة غذائية) من الطعام البرازيلي لا بُدَّ لها من مكون أساسي يمكن أن تجده في كل البيوت البرازيلية بمختلف طبقاتها ومستواها الاجتماعي، وهو أمر متجذر على المستوى الفردي والجماعي ونمط من أهم أنماط الحياة الاجتماعية البرازيلية.
كُنا ننهي طعامنا قبل أن تكمل الساعة الثامنة مساءً دقاتها، وهما يضحكان ويقولان بأنهما كسرا النمط الغذائي بتأخير العشاء حتى ذلك الوقت، فالواجب في أعرافهم الاجتماعية أن يُقدم العشاء في ما بين السادسة والسابعة وبمجرد غروب الشمس، وقال الدكتور: "لعلك لاحظت أن الدنيا تظلم فجأة، تلك هي إشارة العشاء"، لكنهما راحا يشرحان أن الحياة في المدن بإيقاعها المختلف والعصري شهدت تحررا من بعض تلك المواقيت.
ملاحظات على الطعام البرازيلي بوجه عام:
يلاحظ الغرباء مثلي على الطعام البرازيلي عدة أمور ربما تبدو له غريبة بعض الشيء، لكنها في عمومها تمثل جانبًا من هوية الشخصية البرازيلية، إذ نادرًا ما تخلو مائدة الطعام من اللحوم (تكثر الأبقار)، والأرز والفاصوليا (الحمراء والسوداء)، وكذلك مسحوق "المانجوكا" وهي أفرع نباتية لشجرة تحمل نفس الاسم يتم تقشير الساق وسحقه ويوضع على كل الطعام غالبًا، كذلك يميل الطعام البرازيلي إلى الإكثار من استخدام الخضروات الطازجة التي تنبت في الأرض كالبقلة والخس وبعض أنواع الجرجير وأحيانًا النعناع.
ويستخدم البصل والتوم والفلفل الأسود وبعض أنواع الشطة (مختلفة عن التي نعرفها)، لكنها لا يميل إلى استخدام البهارات الشرقية المتداولة في منطقتنا العربية والمشهورة في "دكان العطار". وكذلك قليلا ما يتناول البرازيليون الماء مع الطعام، إنما في الأغلب يكون نوع من العصائر الطبيعية أو المشروبات الغازية، وهناك من يميل إلى "السيرفيجا" البيرة بمختلف صنوفها وماركاتها خاصة في المطاعم والتي تقدمها بدلاً عن الماء في بعض الأماكن، وتقدم القهوة البرازيلية بشكل مستمر في كل الأمكنة وفي البيوت البرازيلية لا تنقطع تقريبًا.
عالم من الأحلام:
كنت أتناول قهوتي بعد العشاء، بينما راحت نتف من المطر تحط على أرض المزرعة، فأبتسم في داخلي وأقول: "مدد يا سيدي المرشدي يا أبو سرّ باتع"، ومن حولي ظلمة غير مقلقة، وسيمفونية من الأصوات الجميلة ما بين العصافير والحشرات.
ورحت أحلم بأنني يومًا ما سأكتب واحدة من رواياتي عن هذا السحر وتلك الروعة الطبيعية التي لم تصلها يد الإنسان المدمرة لكل جمال طبيعي كأنه "يستخسره" في أن يتمتع به خلق الله، وبينما أنا سارح في أحداث تلك الرواية التي أحلم بكتابتها، امتلأ المكان من حولي بنقاط فسفورية تتحرك في الهواء مسرعة أو بطيئة، تقترب وتبتعد، فاعتقدت أني ما أزال تحت تأثير السفر المتلاحق خلال الأيام الأربعة الماضية، فركت وجهي بكفي لأنعشه.
لكن ذلك لم يفلح في إخفاء تلك النقاط الفسفورية من المشهد، فهممت بالحركة، فإذا المكان كله متخم بها، وللحظة شعرت أنني خرجت من العالم المادي إلى عالم روحاني خالص، فرحت أتقافز كالمجنون فرحًا بتلك النقاط الفسفورية الطائرة، والتي يبدو أن قفزي خلفها أزعجها فراحت تبتعد، فعُدت أدراجي إلى مكاني السابق على الكرسي الهزاز، فعادت للظهور والاقتراب، ومعها جاءني صوت الدكتورة: "هذه الحشرات تنتشر بعد المطر الخفيف كثيرًا، وفي ليالي الصيف المظلمة تملأ المزرعة".
كانت تلك النقاط ليست إلا واحدة من حشرات الغابة المتاخمة للوادي، ولا تظهر إلا في الليل فقط، وتبدو مثل المصابيح الصغيرة جدًا أسفل عينيها تنير بلونها الفسفوري الجميل، حتى أن الدكتورة أسرعت خلف واحدة منها وقبضت عليها بسهولة، لأتفحصها جيدًا، فوجدتها تشبه إلى حد بعيد حشرة "النطاط/ الخباط" التي تنتشر في ريف مصر، لكنها تحمل هذه الإنارة الفسفورية.
وأخبرتني الدكتورة أنها نوع من حشرة "الحباحب" أو اليراعات المضيئة، لكننا أجبتها" "لا دي خباط!!"، كان الدكتور قد لحق بحديثنا، وحاول شرح الاسم الذي قلته لها، وأردت إثبات نظريتي لها بالضغط على جسد الحشرة الكلسي، لتنقر برأسها كما تعودنا في صغرنا في القرية، ففعلت، فشعرت بفرح طفولي غامر، وبينما كانت تحررها الدكتورة من يدي لتطير مطلقة نورها الفسفوري من جديد بعد أن اطمأنت في طيرانها.
كانت تلك النقاط تختفي شيئًا شيئًا مع زيادة نتف المطر التي بدأت تتحول بعد دقائق إلى هطل دائم، دون أن تنخفض حرارة الجو إلا قليلاً، لأشعر لأول مرة بجمال مختلف للمطر في هذه الحرارة، إلى الدرجة التي جعلتني أتقافز في "الشورت" الرياضي الذي كنت أرتديه، وهما يضحكان ويقولان: "فعلاً... الشيخ بتاع بلدكم سره باتع مع المطر"، كُنا كلٌ يغني على ليلاه، أنا لأجل المطر وإحساسي به في هذه الحراة، وهما في محبة هطوله أكثر وأكثر لأجل العشب في المزرعة ومرعى الأبقار والخيل.
بعد دقائق من الجنون التام بالمطر والرقص تحته ببراءة مطلقة، أخبرني الدكتور أننا في الغد سنقوم برحلة على صهوة الخيل لاكتشاف المزرعة وكذلك الغابة في الجوار، ثٌم ألقيا تحية الليل "bom noite"، وذهبا للنوم ولم تكن الساعة العاشرة آذنت بالدخول. إذن في الغد اكتشاف جديد لجانب آخر من الجنة، وهو ما أتناوله في الحلقة القادمة.