القاهرة 25 يوليو 2017 الساعة 09:35 ص
ياله من بلدٍ بائس، ذلك الذي يبغض مثقفيه أصحاب الرأي. تركيا - وطني الأم - واحدة من هذه البلدان. حيث يوجه اليوم الاتهام للمثقفين بشكل متزايد بأنهم "خونة" أو "يتعاونون مع قوى غربية"، وذلك في وسائل الإعلام الموالية للحكومة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ويتعرضون للمحاكمة أو السجن أو النفي خارج البلاد. ولكن شيئا واحدا لا يمكن تجاهله، فتركيا، تماما مثل روسيا،
لديها تاريخ طويل ومؤسف في مهاجمة مفكريها بحزم وحملهم على المعاناة جراء جرأة التفكير بشكل مختلف. هنا في المملكة المتحدة تختلف الأمور اختلافا جذريًا. حيث تسود حرية التعبير، في ظل ديمقراطية قوية. فلا يقاضى روائي لمعالجته لقضية مثيرة للجدل، ولا يطرد الأكاديميون بالآلاف، أويوضع الصحفيون في السجن بشكل جماعي.
ويتمتع المفكرون البريطانيون - مقارنة بنظرائهم الأتراك أو الروس أو الفنزويليين أو الباكستانيين أو الصينيين- بقدر وافر من الحرية. كما يتوقع المرء أن يكونوا على وعي بهذا الامتياز، والتحدث ليس فقط من أجل أنفسهم ولكن أيضا من أجل أولئك الذين لا يستطيعون. فلماذا لا يوجد لدينا الكثير من المثقفين المهتمين بالشأن العام في هذا البلد؟
الجواب يكمن في كلمات أكاديمي بريطاني قال لي ذات مرة: "حسنا، نحن نعتقد أنه من العجرفة قليلا أن تدعو نفسك مفكرا. وإعلان ذلك يعتبر بمثابة عجرفة مرتين". يبدو أن هناك خريطة مثيرة للاهتمام للعالم في عقول بعض الناس.
ووفقا لذلك، لا حاجة إلى الحركات النسوية ولا للناشطين من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان إلا في أجزاء العالم التي تكون فيها الأمور شائكة وتكون الديمقراطية عرضة للهجوم. ما يبدو عجرفة بالنسبة لي هو الافتراض بأن المثقفين تعوزهم الدول المتخلفة، في حين أننا هنا في الغرب الديمقراطي المتقدم، نتجاوز كل تلك "المشاكل الصغيرة". ويتم التعبير عن هذه التراتبية الجغرافية الغريبة أحيانا علنا، وغالبا بشكل غير مباشر؛ وفي كلتا الحالتين، فهي من الرسوخ بمكان. حسنا، هي كذلك.
الأشياء تتغير، ولابد أن تتغير. في نظام ترامب العالمي الجديد، يدرك كثير من الناس في جميع أنحاء الغرب أن الحقوق والحريات التي اعتبروها أمرا مفروغا منه لفترة طويلة، في الواقع، يجب الدفاع عنها بحماس وبشكل عاجل.
في هذا العصر من عدم اليقين والقلق المستشري، تسترشد السياسة في كثير من الأحيان بالعاطفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن اتجاه العلم السياسي السائد يبخس من قوتها. وتفترض معظم التحليلات أن البشر مخلوقات عقلانية يمكن قياس أفعالها المستقبلية بمساعدة بيانات تجريبية.
ولكن الواقع أنه في بعض أوقات التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتسارع، تطفو عواطفنا إلى السطح. للأسف، حتى الآن، أثبتت الغوغائية الشعبوية أنها أكثر مهارة من اليسار الليبرالي في الاستفادة من مشاعر الناس. وهذا يحتاج أيضا إلى التغيير. لقد دخلنا حقبة جديدة في تاريخ العالم، أصبحت فيها الديمقراطية الليبرالية مهددة على نطاق واسع. فهناك خطاب خطير يختمر خارج حدود أوروبا يدعي أن "الديمقراطية ليست مناسبة إما للشرق الأوسط أو للشرق عامة".
ويقترح أنصار الانعزالية نماذج اجتماعية جديدة تغدو فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الكلام غير ذات أهمية، ويصبح الأهم هو الاستقرار الاقتصادي. فهم لا يدركون أن الأمم غير الديمقراطية هي أمم بائسة ولا يمكن أن تكون مستقرة بأي حال من الأحوال. تركيا، هنغاريا، بولندا ...
قضية تلو الأخرى تبين لنا أن الديمقراطية أكثر هشاشة مما نظن. وأنها ليست شيئا تحوزه بعض البلدان في حين أن البعض الآخر لا؛ بل هو نظام بيئي يحتاج إلى حماية مستمرة وتغذية ورعاية. واليوم، في مواجهة الحركات الشعبية والخطابات القبلية، بات هذا النظام البيئي مهددًا. وإذا لم نتكلم عن حقوق الإنسان الأساسية وتعددية القيم، فإننا نخاطر بفقدانها واحدة تلو الأخرى. وتركيا لديها دروس مهمة عما يتسبب في عودة البلاد إلى الوراء بسرعة مذهلة، وما حدث هناك يمكن أن يحدث في أي مكان.
لقد أصبحنا بعد عقود من العولمة مترابطين جميعا، سواء راق لنا ذلك أم لا؛ حيث ترتبط قصصنا، ومصائرنا، ومستقبلنا على حد سواء ارتباطا عميقا. وهذا يعني أيضا أن الديماغوجيين الشعبويين في بلد ما سيشجعون الديماغوجيين الشعبويين في أماكن أخرى. ويشجع المستبدون بعضهم البعض بالطريقة نفسها التي تتكاثر بها الأيديولوجيات المتطرفة عن بعضها البعض.
وإزاء هذه الخلفية المضطربة، نحتاج إلى تضامن عالمي (وأخوة عالمية) حول القيم الديمقراطية المشتركة. نحن بحاجة إلى مزيد من النشاط، ومزيد من المثقفين. دعونا لا ننسى أن صعود المثقف المهتم بالشأن العام في أوروبا حدث خلال قضية دريفوس في أواخر القرن التاسع عشر. وقد حدث ذلك في وقت كانت فيه القومية والعنصرية والجنائية والاعتزالية قد أطلت برؤوسها القبيحة. ويعتبر رد زولا الأسطوري، أنا أتهم، بمثابة بيان واضح للضمير.
فالشعبوية تخلق الخرافات الخاصة بها، وتخبرنا أن المثقفين "نخبة ليبرالية مميزة" لا تتصل بـ "الشعب الحقيقي". ولكن في الحقيقة، الكثير من المثقفين المهتمين بالشأن العام في الماضي كانوا من العامة ولم يكونوا من الطبقة الحاكمة. من هانا أرندت إلى إشعياء برلين، الذين كانوا يدرسون في الجامعات تقديرا منهم للأوساط الأكاديمية، ولكونهم لا يستطيعون كسب العيش من خلال كتابة الكتب وحدها.
ليس صحيحا أن المثقفين فئة متميزة. ومن الخطورة أيضا الإفراط في رومانسية الشعب. فهناك ما يدعو الآن للقلق في خطاب "المثقف المعادي للعامة"، هذا الخطاب تغذيه الشعبوية والقومية والانعزالية. كما تغذيه وسائل الاعلام الاجتماعية وعالم حديث يعود نشؤه إلى فترة قصيرة. دعونا نتخلى مرة واحدة وإلى الأبد عن كليشيهات بشأن عجرفة وانعزالية المثقف العام.
دعونا أيضا نتوقف عن القلق بشأن ما قد يقوله الآخرون إذا كنا ندعي حياة العقل. فلدينا أشياء أكثر أهمية لنقلق بشأنها. إن زوال المفكر العام من العالم بمثابة علامة سيئة. مما يسهل الأمور بالنسبة للديماغوجيين والمستبدين. ويسرع من انهيار تعددية الديمقراطية الليبرالية والتعاون العالمي. فبدون المثقفين المهتمين بالشأن العام سننجرف إلى عالم من الثنائيات: "نحن" مقابل "هم".
وسوف تتبخر الفروق. ونحن نشهد بالفعل دلائل على هذا الاتجاه. وفي كل قضية رئيسية يتم فرض الاستقطاب المصطنع علينا. في المناقشات العامة على شاشة التلفزيون وفي أماكن أخرى نشاهد عالما ملحدا يقاتل ضد عالم ثوري. أو المتحدث المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضد أحد المتحدثين المناهضين للخروج من الاتحاد الأوروبي.
أو "إسلاموفوب" ضد مسلم الأرثوذكسية وهلم جرا. متى أصبح العالم هذا الأسود والأبيض؟ إن المثقف شخص يتحدى الثنائيات المتعارضة، يبني جسورا بين الثغرات الثقافية، لديه المرونة المعرفية لربط مختلف التخصصات، والدفاع بحماس عن طريقة التفكير الدقيقة.
وحريٌ به أن يكون جريئا، عالي الصوت، وأيضا مهاجم. لقد آن الأوان للتوقف عن تشويه المصطلح. على الأقل احتراما لأولئك الأشخاص الذين يدفعون ثمنا باهظا في أجزاء أخرى من العالم لكونهم أصحاب رأي.