القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:31 ص
هل نستطيع أن نتعرف على كل الدوافع التي تربض وراء سلوكياتنا، هل نستطيع أن ندرك تمامًا لماذا نحب ولماذا نكره، ولماذا نهيم غرامًا بشخص ما، ولماذا نرضى في بعض الأحيان بظلم الآخرين لنا، والتهامهم لما لدينا، لماذا نتسامح مع إساءة كبيرة لنا، ولماذا لا نتسامح مطلقًا مع إساءة أصغر منها بكثير، لماذا نتعلق بأشخاص معينة حتى لو لم يقدموا لنا شيئًا، ولماذا ننفر من أشخاص آخرين لم يسيئوا إلينا مطلقًا؟
هذا ما سأحاول طرحه في هذا المقال، برغم أنني لن أجيب على تلك الأسئلة، فالإجابات الجاهزة لا تضيف شيئًا إلى المعرفة.
كل البشر بداخلهم صندوقهم الأسود، هو أشبه بصندوق قمامة نلقي فيه زبالاتنا، تلك الصفات الكريهة والمخجلة التي لا نستطيع رؤيتها في أنفسنا. وكلما أنكرناها وعمينا عن رؤيتها استبدت بنا واستطاعت أن تقود كل سلوكياتنا. ما لم نقو على فتح صندوقنا الأسود والنظر بداخله، لا نستطيع أن نعيش بكليتنا في هذا الوجود، سوف نكون أنصافًا، أنصاف بني آدمين.
لكن هذا الصندوق، ليس له أربعة جدران، فقاعه مفتوح على الهاوية، مفتوح على ظلمة أشد وأعمق مما نتصور، إنه الغيب الكثيف الذي انحدرنا منه، إنه الصحارى الزمنية الشاسعة التي قطعناها، والتي لا تبدأ فقط من الإنسان الأول، بل من الحيوان الأول، ولا أبالغ حين أقول: إنها تبدأ من المادة الحية نفسها. لقد صنف بعض علماء النفس التركيبات النفسية وردوها إلى حيوانات بعينها، ولا أقصد أن أصل الإنسان قرد كما يقول دارون وإنما مختلف الأشكال الحيوانية، فهذا الشخص نمر، وذلك الشخص دب، وغيره أرنب، وذلك قنفذ، وهكذا، حيث أثبتوا أن الجهاز العصبي لديهم يعمل بنفس الآليات التي يعمل بها هذا الفصيل الحيواني. فمثلًا، أحيانًا يكون لدى بعض الأشخاص المصابين بالارتياب والتوجس، حاسة شم قوية، تصيبهم بالنفور من أشياء عديدة، ذلك النفور الذي يتحول إلى غضب وشراسة أحيانًا، حيث إن حاسة الشم هي الأقرب إلى المخ من بين كل الحواس، ومن ثمَّ تكون استثارتهم العصبية سريعة جدًا. هذا النوع من البني آدمين يُسمى بالنمر أو القط. هناك شخص آخر خائف باستمرار، ولا يستطيع التواجد بأمان مع الآخرين، وإن فُرض عليه ذلك، نراه يحاول الاختباء عن الأنظار، ويختار دائمًا في جلسته المكان الذي لا يجعله في موضع الرؤيا، يتجنب دائمًا، ردود الأفعال العصبية، ونكاد لا نشعر به أثناء وجوده. هذا الشخص، يُعود لفصيل الأرنب، هناك أيضًا تركيبة القنفذ، وهو ذلك الشخص الذي يعيش حياته بين الظهور والاختباء، فهو يحيا بين الناس بشكل عادي ثم إذا ما انتابه الخوف، يتراجع مختبئًا داخل غطائه الشوكي، حتى إذا ما اقترب منه الآخرون، لا يستطيعون النفاذ إليه، بل على العكس، سوف يصابون بالأذى والجراح، من جراء هذا الشوك. الأمثلة عديدة، عديدة، فهناك أفعى، وهناك قرد، وهناك بقرة وهكذا، إننا نحتفظ في داخلنا بالتاريخ الحيوي في التطور، ونحييه من خلال تركيباتنا النفسية المختلفة. لقد تحدث الدكتور يحيي الرخاوي في كتبه عن هذه النماذج، وخاصة روايته العلمية (مدرسة العراة).
لعل البدائيون والتحليل النفسي للأحلام، والأمراض الجسدية التي لا تعود إلى سبب عضوي، وغير ذلك.
من أبرز العلماء الذين نقبوا داخل الأساطير هو الفيلسوف، والعالم النفسي الكبير، كارل جوستاف يونج، والذي استطاع استخراج كثيرًا من الرموز، التي مازالت تعمل داخل نفوسنا جميعًا، وتربض بقوة وراء سلوكياتنا وردود أفعالنا النفسية والعصبية، بل وفي طريقة النظر إلى الوجود. ولم تكن أبحاثه هذه مجرد نظريات، بل كانت أبحاثًا تجريبية، بمعنى أنه من خلال التحليل النفسي للأحلام، أمسك برموز الحلم، وطابقها بالرمز الأسطوري، وطريقة تفكير الإنسان البدائي، بالإضافة إلى تطبيق ذلك على حالات الذهان المختلفة، والتي كانت تستعمل رموزًا بدائية، سواء في لغتها، أو هلاوسها، السمعية والبصرية، مع اعتبار أن تلك الشخصيات لم تكن تعرف عن تلك الرموز أي شيء، كأن يكون الرمز لقبيلة بدائية نائية، لم يُكتب عنها أبدًا، أو يكون الرمز، هو ما استُعمل في أسطورة سحيقة البعد ولا يعرفه غير المتخصصين في الدراسات الأنثوربولوجية، وهكذا...
ومن هنا جاءت فكرة الصندوق الأسود الذي يحوي ظلمات النفس وبدائيتها، لكن يونج لم يسمه الصندوق الأسود، كما أسميته أنا، لأتوافق مع لغة العصر، بل أسماه بالظل، وكانت نظريته الشهيرة (البرسونة والظل) فالشخصية لديه تنقسم إلى الأنا الواعية وظلها، والأنا الواعية بالطبع، هي كل ما يعرفه ويدركه الإنسان عن نفسه، أما الظل فهو كل ما هو مختبئ ومجهول داخل نفوسنا، لكن قيمة هذه النظرية لا تكمن في ذلك التعريف فقط، فقد اقترب يونج من تشبيه هذا الظل بعفريت داخلي، كلما قمعناه، بل وأنكرناه، بمحاولة دفعه بعيدًا إلى غياهب اللاوعي، كلما استشاط غضبًا، واستشرس، وقويت فاعليته، واستطاع أن يدفعنا إلى أفكار وسلوكيات سلبية، لا تؤذي الآخرين فقط، بل تؤذينا نحن أيضًا وتدمرنا.
أما إذا تحدثنا بشيء أكثر تفصيلًا عن تلكالأساطير التي أنتجها العقل البدائي والتي ما زالت تعمل في لاوعينا الجمعي، وتشكل اختياراتنا وسلوكياتنا، سواء في حياة الأفراد أو المجتمعات، فلن تكفينا عدة مقالات، أو حتى كتاب بأكمله، حيث إن تلك الأساطير هي أداة مهمة، كما ذكرنا، في فك شفرات ذلك الصندوق الأسود الكبير.
لقد قام كثير من العلماء مثل فرويد ويونج وكلاريسا بنكولا وغيرهم بعمل الدراسات لمعرفة كيف تعمل تلك الأساطير بداخلنا؟ بل كيف يختار كل فرد منا أسطورته الخاصة،وهكذا أصبح علم الأساطير، ودراسة حياة الأقوام البدائية ( الأنثوربولوجي)مدخلًا هاما لدراسة النفس البشرية، ومعرفة أسرارها.
ذلك التاريخ السحيق الذي تم نسيانه هو ما يشكل الظلام الداخلي الأكثر غورًا، ومن هنا كانت صعوبة التعرف عليه.
فكيف يتصور الإرهابيون مثلًا أنهم يحيون طقس القربان الدموي الذي كان يُقدَّم للآلهة البدائية القديمة، وكيف يفهم المضحون العظام أنهم يلعبون دور المنقذ، المُخَلِّص، والذي سوف يقوده أتباعه إلى الصليب، وكيف يدرك بعض المثقفين أنهم ما زالوا يعيشون أسطورة المهدي المنتظر، عندما يعلقون كل آمالهم وطموحاتهم الإصلاحية على شخص بعينه.
إن ذلك الصندوق الأسود أو الغيب الذي يختبئ داخل نفوسنا، ليس له قرار ولا نهاية، وعلينا فقط أن نعمل جاهدين على استخراج بعض الشذرات التي من الممكن أن تنير لنا الطريق وتطلعنا على بعض الأسرار. ولكن يبقى السؤال: كيف نستطيع أن نغوص في تلك الأعماق ونتحمل ظلمتها، وما سوف يقابلنا هناك من حقائق صادمة ومرعبة أحيانًا؟
كيف يستطيع العقل الذي يحيا تحت الشمس أن يقبل مغيبها وينحدر في الليل باحثًا عن لاوعيه المظلم؟
إنها رحلة بحث وكفاح ومسئولية وبصيرة علينا أن نخوضها جميعًا.