القاهرة 20 ابريل 2017 الساعة 11:19 ص
حملات التجريح المتبادلة بين مصريين وسودانيين. مهما اتسعت أو تعددت. فإنها محدودة. وضيقة ضيق أفق كل من يشاركون فيها. ويوقدون نيرانها. وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً. أو يدافعون عن مصالح مصر هنا. أو مصالح السودان هناك.. لكن استمرار هذه الحملات يخلق دون شك توترات ليست في مصلحة أي من طرفيها.
ولا أريد هنا أن أتحدث عن "أزلية" العلاقات والأخوة التاريخية والجغرافية والروابط التي تقوي علي الهدم. بل أعترف بأن هذه الحملات في جزء منها تعبير عن حساسيات موجودة نتيجة لتجارب ماضية. قد تجاوزها الزمن. وأصبحت من مخلفات التاريخ ومن بقايا ما يلقي في مزبلته.. ولن يتم التخلص من كل هذا. ولن تتوقف مثل هذه الحملات إلا بالمكاشفة والمصارحة رسمياً وإعلامياً. وبمشاركة شعبية تتحمل مسئولياتها مؤسسات من المجتمع المدني في مصر والسودان. وتجعل من مهامها التصدي بهدوء. ولكن بحسم لكل من يحاول الإساءة دون وجه حق إلي العلاقات ومصالح الشعبين الشقيقين السوداني والمصري. ولا أقول المصري والسوداني. مما يؤاخذنا عليه إخوة سودانيون!!
وقبل أن نتطرق إلي مهام المجتمع المدني ومسئولياته في تنقية الأجواء السودانية المصرية وتحسينها وتعميقها. نقف قليلاً عند تجارب الماضي القريب الرسمية في هذا المجال.. ونقف عند الربع الأخير من القرن الماضي. ونبدأ ب"منهاج العمل السياسي والتكامل الاقتصادي" الذي وقعه الرئيسان جعفر نميري وأنور السادات في 11 فبراير 1974. في ظل ظروف داخلية خاصة في كل من البلدين. وعندئذي أريق حبر كثير في الحديث عن الآفاق السياسية والاقتصادية التي ستنتج عن تطبيق الميثاق في السودان ومصر.
وشيئاً فشيئاً تراجع كل هذا. وتلاه في أكتوبر 1982. توقيع "ميثاق التكامل بين مصر والسودان" ووقعه أيضاً من الجانب السوداني الرئيس جعفر نميري. ومن الجانب المصري الرئيس حسني مبارك.. وكان هذا الميثاق خطوة إلي وراء بالنسبة ل"منهاج العمل" ولكنه أفضل من لاشيء. خاصة أن كلاً من الميثاق والمنهاج وضع أسساً وقواعد لمؤسسات عديدة في كافة مجالات العمل والإنتاج. والتعاون المشترك. علي مبدأ التكامل الذي كان يمكن أن يفضي إلي نوع من الاتحاد أو الاندماج. ومع ذلك. ما لبث كل هذا أن تراجع إلي أن توقف وخلف وراءه قدراً من الجمود. والتوتر.. لماذا؟!.. في جواب هذا يقول الأستاذ حلمي شعراوي. وهو من أكبر الخبراء المصريين في الشئون الأفريقية والسودانية: "بدا التكامل بين مصر والسودان دائماً بدون أفق. مهما حسُنَت صياغاته. ولم يكن متوقعاً أن تؤسس "حكومات" ذات شواغل استراتيجية مختلفة لحالة اندماجية مادامت ثورتها الوطنية أو الشعبية لم تؤسس لذلك. وهذا واضح في تاريخ برامج التكامل في علاقاتها بتواريخ ثورة التحرر الوطني في مصر الستينيات والثورات الشعبية في السودان 1964 - 1985. حيث راحت مصر تتوحد مع سوريا واليمن والعراق وليبيا. بل وتعاني الفشل بصورة وبأخري في كل هذه التجارب. ولم يطرح التوحد مع السودان. إلا في حدود سقف مواثيق التكامل الصوري بدوره في الغالب" "السودان في مفترق الطرق. ص 180 - 181".
4 ملايين سوداني!!
وبعد فترة من جمود في العلاقات المصرية السودانية. وفترة من قطيعة. ثم شد وجذب. امتدت أكثر من ثلاثة عقود من السنين. عاد الخطاب السياسي الرسمي إلي تجربتي التكامل. وكأنه يحاول إحياء ما هو قابل للحياة. أو ليردد مصطلحات وأهدافاً تدغدغ أحلام الشعبين السوداني والمصري.. وسأقف عند نماذج محددة في هذا الشأن صدرت عن رئيس لجنتين في مجلس النواب المصري. وآخر صدر علي لسان وكيل وزارة الخارجية السوداني.
في تعليق له علي محاضرة بالقاهرة لوزير خارجية سوداني سابق. قال اللواء كمال عامر. رئيس لجنة الدفاع. والأمن القومي في مجلس النواب: إن السودان كان لفترات عدة جزءاً من مصر. وكان ملك مصر يسمي ملك مصر والسودان. منذ عهد محمد علي. وبعد أن أشار إلي مشكلة حلايب وشلاتين. قال: "إن مصر تحتضن في مدنها وقراها ما يقرب من 4 ملايين سوداني. يعيشون فيها كمواطنين يحصلون علي نفس حقوق المواطن المصري".
ويعزف النغمة ذاتها مسئول سوداني. يردد حديث "العلاقات الأزلية". وهو السفير عبدالغني النعيم. وكيل وزارة الخارجية السودانية. رئيس الوفد السوداني في "اللجنة الفنية المصرية السودانية" في اجتماعها بالخرطوم في مايو 2016. أي قبل حوالي عام. والذي قال عقب الاجتماع: إن العلاقات الأزلية التي تربط بين شعبي وادي النيل في مصر والسودان ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. ويربطنا مصير مشترك".. وهذا تاريخ صحيح لا غبار عليه. ولكن أين تأثيره في الحاضر؟!.. يجيب المسئول السوداني ذاته قائلاً: إنه يأمل أن تسفر اجتماعات كبار المسئولين والخبراء بالبلدين عن "نتائج إيجابية تعود بالفائدة والنفع علي الشعبين الشقيقين".. وأضاف أنه تم التوصل إلي تفاهمات لتطوير العمل المشترك بين الجانبين. حيث تم إدماج لجان التعاون الثنائي في سبعة قطاعات للتعاون في المجالات السياسية والدبلوماسية والأمنية والاقتصادية والاستثمارية والتجارية والثقافية والتعليمية والفنية.
ومن يرجع إلي وثائق الماضي القريب يجد أنه تشكلت في إطار ميثاق التكامل 9 لجان. وكان مقرراً أن تجتمع كل ثلاثة أشهر. وهذه اللجان هي: الزراعة والري.. التنمية الصناعية والتعدين.. النقل والمواصلات.. المالية والاقتصاد والتجارة.. الشئون الدينية والثقافة والإعلام.. والشباب والسياحة.. التعليم والبحث العلمي.. الشئون الاجتماعية والصحة والعمل والتعاون.. الشئون القانونية.. منطقة التكامل: محافظة أسوان والمديرية الشمالية.
هل هذا بحث في الدفاتر القديمة. أو حنين إلي ماضي؟!.. علي أي حال. إذا كان الحديث عن اللجان السبع وتفصيلات أعمالها قد جري قبل عام. فماذا تحقق خلال هذا العام؟!.. يبدو أنه لم يتحقق تقدم ملموس. سوي ترديد خطاب سياسي ذي نبرة عاطفية. وهذا أمر طيب في حد ذاته. ولكنه لا يسفر عن حصاد عملي ومفيد. وفي اجتماع في 26 مارس الماضي للجنة الشئون العربية في مجلس النواب. صدر بيان مهم سياسياً عن العلاقات السودانية المصرية. أكد أن محاولات الوقيعة بين البلدين ومحاولة إبراز مشكلات خلافية بينهما "مقضي عليها بالفشل. فقوة ومتانة العلاقات والروابط الأزلية بين شعبي وادي النيل كفيلة باحتواء هذه الأزمات المفتعلة".. ودعا البيان المهم مجدداً إلي إيجاد صيغة لتحقيق التكامل الاقتصادي. كما دعا إلي "إعادة الحياة لبرلمان وادي النيل المشترك بين البرلمانين المصري والسوداني"!!
أزمات مفتعلة
دعوات مهمة. ولكن كيف ومتي. وهل يتم هذا في ظل توترات وملاسنات وصفها البيان السابق بأنها "أزمات مفتعلة" علماً بأنها أزمات يمكن أن تستمر حتي إن تحقق التكامل وقام برلمان وادي النيل. طالما أن هناك غياباً شعبياً عن احتضان وتأييد ومؤازرة هذه الأعمال والرد علي كل من يتربص لها لحاجة في نفسه.. ومن المؤكد أن العلاقات السودانية المصرية. حاضراً ومستقبلاً أكبر وأهم من أن تترك لإعلاميين لا يفقهون. ولا لصبيان الفيس بوك. الذين لا يجيدون إلا لغة الانحطاط والبذاءات. التي لا يجوز بأي حال استخدامها ضد "أشقاء أزليين".. والحديث هنا ليس عن سودانيين فقط. أو عن مصريين فقط. فهؤلاء موجودون في الجانبين.. وليس من اللائق هنا أن نذكر بعض السباب المتبادل. الذي يعبر عن حساسيات غير مبررة. وغير مدركة لأهمية العلاقات السودانية المصرية. مما يؤدي إلي إساءة الفهم الذي يقود بدوره إلي إساءة التفاهم. ويرجع هذا أساساً إلي "تراخي آليات التواصل السياسي والثقافي والاجتماعي بين الشعبين والجهل بالتاريخ".. وحديث هذا يطول.
.. ومنتدي للرد
ولعل الأستاذ يوسف الشريف.. رحمه الله.. وضع إصبعه علي الحلقة المركزية في الأزمات السودانية المصرية. إذ يقول في كتابه المهم "السودان. وأهل السودان" الصادر في العقد الأخير من القرن الماضي: "إن برامج معظم الأحزاب المصرية تفتقر إلي رؤية وموقف وتوجه خاص. يؤكد عزمها علي ترسيخ العلاقات المصرية السودانية. وأهميتها وضرورتها.. بينما غابت النقابات والاتحادات والجامعات والمنظمات الأهلية عن وصل ما انقطع من صلات وتواصل بقريناتها في السودان".. ومنذ كتب هذا الكلام ونشر. تزايد الغياب والانقطاع. وفي السنوات الأخيرة كاد يتسيد الموقف علي الجانبين صبيان الفيس بوك. الذين لا يعرفون إلا حملات التجريح المتبادلة. والذين يقومون فعلاً بدور الدبة التي قتلت صاحبها. ولمواجهة ذلك تنادي هنا في القاهرة مجموعة من مثقفين سودانيين ومصريين لإنشاء منتدي يأخذ أعضاؤه علي مسئوليتهم فرادي وجماعة التصدي لما يسميه مشروع البيان التأسيسي لهذا المنتدي: "التجاوزات والمنغصات. والقراءات التي تشوش العلاقة الأخوية". فما يثير القلق أن البعض يلتقط هذه "المنغصات ليصنع منها حالة احترابية إعلامية وسياسية بين البلدين. وفي سبيل ذلك يفبرك حالة كاملة من الروايات وأنصاف الحقائق. والسياقات شبه التاريخية ليقود بلدينا وشعبينا العزيزين إلي المجهول".
ولعل هذه المحاولة حين تكتمل وتقف علي قدميها تجد صداها هنا في الأحزاب المختلفة لتهتم بالسودان وأهله. ثم لعلها تجد صداها في السودان. لتقوم منتديات موازية مهمتها مقاومة "الاحتراب الفيس بوكي" الذي يتجاوز أي حدود مقبولة في علاقات الأشقاء.. إن أحداً لا ينفي أن هناك مشكلات معروفة. ولكن حلها والتصدي لها. يجب أن يكون بالوسائل الدبلوماسية. وبالحوار الرصين.. ولعل هذه المنتديات حين تنتشر هناك وهنا. نستطيع أن نتابع تنفيذ الاتفاقات العديدة الموقعة بين البلدين. والتي لا يزال أغلبها حبراً علي ورق.. ينتظر من يحيلها إلي خطوات عملية تعود بالفائدة علي الشعبين.. واسلمي يا مصر.