القاهرة 12 يونيو 2016 الساعة 12:39 م
هذه حقيقة لا يمكن القياس عليها في الزمن الراهن : فضل علماء العرب سوف يبقى "القاعدة" التي تأسست عليها علوم الإنسانية وأرقامها ، حين كانت شعوب العالم تتعامل مع الأعداد الحسابية بصورة بدائية ومحدودة ، بعد أن انحصرت معلوماتها الرقمية عند الأرقام (1، 2 ، كثير) وبمعنى أن أي عدد بعد اثنين ، فهو كثير ، لا فرق في رقميته ، وبالتالي لا فرق بين الخمسة والمائة .. وإذا كانت الحضارات القديمة ــ من زمن قدماء المصريين والبابليين أوالإغريق ، وحتى الحضارة الصينية ــ قد عرفوا الأرقام واستخداماتها ، إلا أن تعامل هذه الحضارات مع الأرقام كان معقدا للغاية ومحدد الاستعمال !!
حتى بدأت الانطلاقة الفكرية بإخراج " العدد " أو " الرقم " من نظامه المحدود الضيق إلى المفهوم الحسابي والجبري الواسع ، وبدأ علم الأرقام والحساب والرياضيات ينهض بمستوى علمي فعال على أيدي علماء المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ، وربطوا علم الجبر الذي ابتكروه بعلم الهندسة ، ووضعوا أسس المفهوم العلمي للصفر ، وهو أيضا اختراع عربي ساهم في بناء الحضارة العلمية التي شهدتها البشرية .. وهذا يعني أن " الرقم العربي " باختلاف أنواعه، هو مصدر الإشعاع للمعرفة ، ثم انتقل الدور القيادي للمسلمين في العلوم
الرياضية ــ مع امتداد الفتوحات الإسلامية ــ إلى جميع أنحاء العالم .
لقد كان للعرب والمسلمين دور قيادي في علوم الرياضيات ، وأخرجوا " العدد " من نطاقه الهندسي إلى المفهوم الحسابي والجبري الواسع ، بعد أن كان الحساب والعدد والأرقام بالنسبة لأوروبا سرا معقدا لا يفهمه إلا النوابغ والعلماء منهم ، أما عامة الناس لا يعرفون العد إلا عن طريق أصابع اليدين أو بالاساليب البدائية ، وفي ذلك الوقت من القرنين التاسع والعاشر الميلادي كانت كتابة الرقم العددي تحتاج إلى خانات عديدة لا حصر لها ، حتى انتقلت الأرقام العربية إلى الغرب بواسطة الكرسي البابوي ، حين تعلم البابا " جربرت " الملقب بـ" سلفسترو الثاني " الأرقام العربية التسعة من العرب على الحدود الإسبانبة ، وتعلم كيفية استخدامها واستعمالها ، وانتشرت الأرقام العربية ـ حينئذ ـ في إيطاليا ، ثم انتقلت عبر جبال الألب إلى
بقية الدول الأوروبية التي كلنت تعيش في ظلام دامس وعجز عن إدراك مفهوم ودلالات الأرقام وحساباتها ..
وكان الفضل أولا وأخيرا للقرآن الكريم ، فمن آياته عرف المسلم العمليات الحسابية ومدلول الأرقام وتضمنت الآيات المحكمات الإلهام والتفهم والتبصر لمفهوم العدد ، والإحصاء ، والمعادلات الحسابية ، كما تناولت آيات القرآن الكريم جميع الأرقام من واحد إلى عشرة ، واشتملت آيات مفصلات على تسلسل رقمي متتابع .. والملاحظ أن هذه " الأرقام " لم تكن أمام علماء العرب والمسلمين مجرد أعداد صماء ، ولكنهم تعاملوا مع كل رقم على حدة بمفهوم علمي
، ومن الناحية التراثية أحيانا ، والكشف عن أسرار كل رقم ..
إنها لغة الأرقام وأسرارها والتي أجاد المسلمون إدراكها والوعي بمدلولها .. وهم أول من طور وألف نظريات الأعداد ، وابتكار المفهوم الحسابي والجبري الواسع للأرقام .
والصورة الآن ــ في الزمن الراهن ــ تختلف تماما .. ونحن لا ندري كيف يجري العالم العربي حساباته ويبني التقديرات وهو على حافة الهاوية ، والأنفاس محتبسة ومتقطعة ، وبعد أن سادت الحيرة واستحكم الارتباك ؟! بعد أن تاهت في خضم التأثيرات الجارفة أصول القضايا وجذورها وفروعها ، ولحقت بها قيم ومبادئ وثوابت ، واختلطت أشياء كثيرة ، وضاعت الحدود بين الصديق والعدو ؟!
والحقيقة التي أشرنا إليها .. كانت بفعل الماضي، وأغلقت صفحات الكتب ، وانتهى الأمر .. وبمقدار ما ورد بالرمز في تراث العرب .. أن رجلا قال لابن شبرمة : من عندنا خرج العلم .. فقال : نعم خرج .. ثم لم يرجع إليكم !؟!
وهكذا .. كأننا أمام لغز محير في الموقف العربي المتجمد أمام ما حدث ويحدث وكأنه مقادير لا ترد ؟! وفيما أظن أن الحقائق أمامنا كفيلة بكشف المستور ، ولكننا ـ غالبا ـ نهرب من مواجهتها والتعامل معها بحثا عن تبريرات أخر ى وتفسيرات وتحليلات !! تماما كما تقول الأساطير الإغريقية : أن الحقيقة جاءت إلى الناس عارية تماما فاستداروا لا يحبون أن يروا ما يخدش الحياء ، فعادت إليهم الحقيقة وقد تغطت فاقبلوا عليها ، لماذا لأنهم لا يحبون الصراحة الموجعة !!
وعموما .. مع كل رمضان يبقى الأمل قائما بأن تغسل الأمة خطايا العجز والتبعية والتشتت !!