القاهرة 10 فبراير 2016 الساعة 01:49 م
تهتم معظم الدول الأوروبية بالحضارة المصرية لدرجة شيوع مصطلح (الولع بمصر القديمة) ولدرجة أنّ وزير الثقافة البلجيكى (رودى ديموت) فى حوار مع عائشة عبد الغفار المحررة بالأهرام قال إنّ بلجيكا تعد الآن موسوعة بالفرنسية والعربية حول الطفولة فى الحضارة المصرية)) (أهرام 27/10/2002) ولدرجة اعتراف المثال العالمى (هنرى مور) بأنه تأثر فى إبداعه بالفن المصرى القديم وقال ((أعطى عمرى كله لمن يعطينى دفء النبض فى النحت المصرى)) ولدرجة أنْ يكتب العالم (بارى . ج. كيمت) أنّ ((الديانة المصرية كانت نظامًا مفتوحًا من الفكر برز فيه التداعى الحر للأفكار بصورة كبيرة)) (تشريح الحضارة- ترجمة أحمد محمود- المجلس الأعلى للثقافة- عام 2000- ص 8) ولدرجة أنْ يكتب عالم المصريات (أدولف إرمان) أنّ الآلهة اليونانية قد تمصّرتْ)) (ديانة مصر القديمة- ص 437)
لذلك اختار(روبير سوليه) لكتابه عن مصرعنوان (مصر: ولع فرنسى) ولكن الكتاب يؤكد إهتمام أوروبا وعشقها للحضارة المصرية. وقد حرص المؤلف على إزالة اللبس حول اسمه فأكد أنه مصرى بالمولد. وإذا كان كثيرون يعتقدون أنّ الولع الفرنسى (والأوروبى) بمصر ظاهرة حديثة ، فإنّ المؤلف يعود بالجذور إلى القرن 16 حيث ظهرتْ فى فرنسا تماثيل (أبوالهول) لتزين الحدائق . أما إيطاليا فشهدتْ أوسع انتشار لهذه الظاهرة. وكان الفرنسيون الزائرون لإيطاليا يحرصون على مشاهدة التماثيل المصرية التى تــُزيّن الكابيتول (مقر السلطة) فى روما. وأنّ الهوس بمصر انتشر فى إيطاليا قبل ذلك ب 14 قرنــًا .
وفى القرن 16 انتشر عقار اسمه (مومياء) وأنه يُشفى أمراض الجهاز التنفسى والهضمى إلخ وأن الإمبراطور كان يستخدمه مثل أفراد الشعب. وإذا كان هذا العقار يدخل ضمن الولع الشعبى ، فإنّ لغة العلم جعلتْ كثيرين يكتبون أنه ((لا يوجد مهندس فى الكون أعظم من آمون / حتب مشيّد هرم سقارة)) وفى عام 1696 تم عرض مسرحية (مومياوات مصر) بباريس. وأظهرتْ ملكة فرنسا مارى انطوانت (1755- 1793) شغفــًا بمصر. وفى نفس العصر انتشرتْ فى الحدائق الأكشاك المليئة بنماذج من الأهرام والمسلات. وبعد الثورة الفرنسية أُقيم يوم 14/7/ 1792 بساحة شان دى مارس هرم من القماش كديكور للاحتفال. وفى يوم 10/8/1792 أقاموا هرمًا فى حدائق التويلرى ومسلة بميدان الفيكتوار. وفى احتفال آخر شيّدوا بميدان الباستى نافورة البعث وكانت تـُمثــّـل الإلهة إيزيس وهى ((تضغط ثدييها لإفراز سائل البعث النقى الشافى))
ويصل العشق بمصر لدرجة أنّ نجارًا فرنسيًا عرض فى عام 1810 قطعة موبيليا فاخرة تحمل نقوشــًا مصرية. وتبعه صناع الأثاث الفرنسيين. وقام رئيس دير سان بيير برسم نسخة من معبد دندرة وعلــّـقها فى الدير من أجل ((بثْ حب الشأن العلمى لدى رهبان الدير)) ثم انتشرتْ قطع الأثاث الفرنسية (ترابيزات. كراسى إلخ) التى تحمل غطاء رأس فرعونى ، بالإضافة إلى أنواع أخرى من المنتجات مستوحاة من الفن المصرى القديم ، مثل أوانى المائدة وبندول الساعات إلخ وظهر لون جديد أطلقوا عليه (أرض مصر) وفى مدينة مارسيليا قام عامل شاب بحفر(أبوالهول) مجنح. وعندما ذهب نابليون إلى بلجيكا عام 1803 كانوا يستقبلونه فى كل مكان بديكورات مصرية. وفى مدينة (آنفر) أقاموا هرميْن من الجرانيت الأحمرعليهما كتابة هيروغليفية. وفى بروكسل كان سلم إدارة الشرطة يشتمل على تمثال لأبى الهول. ومن بين 15 نافورة تقرّر إقامتها يوم 2/5/1806 أُقيمت 6 منها بإلهام الفن المصرى. وعلــّـق المؤلف قائلا ((ليس للإمبراطورية الفرنسية ماضٍ. ويجب أنْ تجد لنفسها طرازًا فنيًا ، وذلك باستخدام الفن المصرى))
وبعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 اشتعل الهوس بمصر. وظهر نسق جديد من الملابس المصرية ، حيث قام ملوك الأزياء الراقية فى باريس عام 1923 بابتكارعلبة أدوات زينة للنساء اسمها توت عنخ آمون. وفى عام 1994 استقبل متحف اللوفر204 ألف زائر. وفى عام 1993 أقام الأمريكان فندقــًا وكازينو فى لاس فيجاس عبارة عن هرم من 30 طابقــًا مزودًا بتمثال لأبى الهول. ويؤكد المؤلف أنّ الفرنسيين ينغمسون فى الهوس بمصر منذ طفولتهم. وعن السينما فى أوروبا فقد تم إخراج 40 فيلمًا فى 20 سنة مستوحاة من الحضارة المصرية. وقام فرنسيان بإنشاء علم (موسيقى مصرية قديمة) واجتذبتْ الحضارة المصرية عشرات الروائيين الأوروبيين ، فكتبوا روايات مستوحاة من مصرالقديمة. وحققتْ مبيعات الروايات والكتب التى تتناول الحضارة المصرية أرقامًا مرتفعة ، لدرجة أنْ أصبح علم المصريات علمًا شعبيًا نتيجة عشق الشعوب الأوروبية لمصر، وليس علمًا بين العلماء المتخصصين فقط .
يؤرخ لعلم المصريات بيوم 14/9/1822 عندما قال شامبليون((المسألة فى حوزتى)) كان حل رموز اللغة المصرية القديمة هو البداية الحقيقية لعلم المصريات. ويشاء قانون المصادفة أنْ يقع حجر رشيد فى يد الضابط (بوشار) فلم يفكر فى تحطيمه أواستخدامه فى البناء (كما فعل غزاة سابقون) وإنما سلــّمه لعلماء الحملة. وإذا كانت هناك بعض المحاولات السابقة مثل دور العالم تومس يونج وغيره ، إلاّ أنّ علم المصريات وُلد على يد شامبليون. كان وهو فى سن 13 يدرس اللغات العربية والكلدانية والسريانية ، بعد أنْ درس اللاتينية والعبرية. ثم تفرغ لدراسة اللغة القبطية. كان حجر رشيد يشتمل على نص واحد ولكن بثلاث لغات : اليونانية والديموطيقية والهيروغليفية. ولاحظ شامبليون أنّ اسم بطليموس تكرر فى اللغات الثلاث فى النص الواحد.
وتوصل إلى نتيجة مؤداها أنه لكى تكون الهيروغليفية قادرة على التعبير عن الأسماء اليونانية ، فمعنى ذلك أنها لابد وأنْ تـُصدرأصواتــًا. إنّ إجادته للغة القبطية ، كانت المدخل للهيروغليفية ، حيث أنّ البنية structure واحدة. وأنّ القبطية امتدادٌ للهيروغليفية. وفى عام 1812 قال ((استسلمتُ تمامًا لدارسة اللغة القبطية. كنتُ منغمسًا فى هذه اللغة لدرجة أننى كنتُ ألهو بترجمة كل ما يخطر على ذهنى إلى القبطية. كنتُ أتحدث مع نفسى بالقبطية. كنتُ أشعر أننى قادر على تعليم أحدهم قواعدها النحوية فى يوم واحد. ولا جدال أنّ هذه اللغة منحتنى مفتاح المنظومة الهيروغليفية)) وفى عام 1828 زار مصر فقال ((إننى أتحمل حرارة الجو. يبدو أننى وُلدتُ فى هذه البلاد)) وأمام معبد الكرنك قال ((لسنا فى أوروبا سوى أقزام. لا يوجد شعب قديم أو حديث تصوّر الفن المعمارى مثلما فعل المصريون)) وأشار المؤلف إلى كتب شامبليون عن اللغة المصرية. وعندما مات شامبليون قال العالم الإنجليزى ويلكسون ((لقد سقط المشعل على الأرض)) وعقــّب المؤلف ((ظلّ هذا القول صحيحًا لمدة خمس سنوات حتى ظهر العالم البروسى كارل ريتشارد
ليبسيوس على المسرح وقيامه بإحياء علم المصريات))
كتب المؤلف عن حفر قناة السويس وعن الحملة الفرنسية بلغة العلماء الموضوعية. وفى عهد سعيد باشا تم إسناد وظيفة حديثة إلى أوجست مارييت هى مدير الآثار المصرية. ومنذ هذه اللحظة تغيّرتْ وجهة مارييت تمامًا إذْ أصبح ((المدافع الذى لا يلين عن التراث المصرى. يناضل ضد لصوص الآثار
والباحثين لحسابهم الخاص. كما كان ضد سخاء الوالى الذى يحاول دائمًا منح بعض زواره الأوروبيين تمثالا أو بعض المجوهرات أوتابوتــًا فرعونيًا)) وفى فبراير1859 تم اكتشاف كنز الملكة آح / حوتب الخرافى بمدينة طيبة. وأراد حاكم الإقليم إرسال المجوهرات إلى الوالى. وهنا يظهر النبل الأخلاقى للعالم مارييت فى دفاعه عن التراث المصرى ، حيث نجح فى وقف كل مركب ينقل الآثار القديمة فى النيل. وشهد النيل ملحمة بحرية شبيهة بأشهر معارك القراصنة. وتمتْ استعادة المجوهرات التى تم وضعها فى متحف القاهرة. ولم يحصل سعيد باشا إلاّ على سلسة سداسية وجعرانــًا. أما العالم ماسبيرو فقد وصل إلى مصر يوم 5/1/1881 ومن أعماله الكشف عن خمسة أهرامات فى جنوب سقارة. وواصل ماسبيرو حفريات مارييت فى معبدى إدفو وأبيدوس. وأزال الركام عن أبى الهول مستعينــًا بتبرعات دولية. وقام بإعادة تنظيم متحف بولاق. ونشر دراسات عديدة من بينها كتاب (القصص الشعبية فى مصرالقديمة) ونشط فى نقل الآثار إلى متحف القاهرة الجديد الذى أفتتح عام 1902. ومن أهم أعماله قيامه بتوجيه ضربة قوية لتجار الآثار، إذْ اقترح بأنْ يكون كل صرح وكل أثر قديم ملكــًا للدولة المصرية. وعند بناء خزان أسوان عام 1898 وبعد تعليته مرتيْن متعاقبتيْن ، ترتب على ذلك تهديد معبد فيلة بالغرق. فتدخل ماسبيرو ونجح فى تدعيم أساسات المعبد الحجرية.
ينقل المؤلف عن الكاتب الفرنسى بيير لوتى خوفه من إهمال الآثار المصرية فكتب ((متى يستدرك المصريون خطأهم. ومتى يدركون أنّ الجدود تركوا لهم تراثــًا لا يجوز التصرف فيه من الفن والمعمار ومن الأناقة الرفيعة. وإنه بإهمالهم لمدينة كانت من أكثر مدن الأرض روعة فإنها سوف تنهار وتموت)) لماذا هذا الخوف على الآثارالمصرية ؟ السبب كما قال مؤلف الكتاب أنّ الحضارة وُلدتْ فى مصر وانتقلتْ إلى اليونان حتى وصلت إلى أوروبا التى ورثتْ خصائصها. وقال الأديب (أندريه مالرو) وزير الثقافة الفرنسى ((إنّ ما بحثتْ عنه مصر فى الموت هو تحديدًا القضاء على الموت. إننى باسم فرنسا أشكر مصر التى كانت أول من ابتكر الخلود)) وعندما وقف شامبليون أمام معبد الكرنك قال ((لسنا فى أوروبا سوى أقزام)) وكتب برستد ((مصر أول دولة متحضرة كبيرة، فى وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربىْ آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادى العصر الحجرى)) وكتبتْ عالمة المصريات نوبلكور ((تروى لنا بعض الآثار التى حفظتها الصدفة روايات عجيبة تــُبرهن على المواهب الرفيعة التى تمتــّع بها المصريون القدماء ، ذلك الشعب الذى أبدع حضارة متقدمة ، فى ذات الوقت الذى كان جدودنا فى أوروبا قابعين فى ظلمات الكهوف))