القاهرة 06 اكتوبر 2015 الساعة 08:28 م
يرى ملف حرية الإبداع والتعبير الفني بمؤسسة حرية الفكر والتعبير أن الصراع الدائر اليوم داخل الجماعة الثقافية المصرية قد يفتح بابًا شديد الأهمية للنقاش حول مسائل جوهرية تتعلق بتطور الحركة الثقافية المصرية والدور المنوط بها اجتماعيًا وسياسيًا، يعود أصل الخلاف الدائر اليوم -بالأساس- إلى غياب ما يُطلق عليه "سياسة ثقافية" حقيقية وراسخة وواضحة ومتطورة نستطيع أن نحتكم إليها بداية في تحديد توجهاتنا الثقافية المرحلية والاستراتيجية، مرورًا بالدور المنوط بالثقافة أن تلعبه من نابع مسئوليتها الاجتماعية والأدبية، وصولًا لخطط تحقيق الأهداف المرجوة من الثقافة، وآليات تنفيذ تلك الخطط. ففي الوقت الذي تنتظر فيه الوزارة عملية واسعة لإعادة الهيكلة -تشهد الجماعة الثقافية المصرية حالة انقسام واسعة بشأن السياسات والتوجهات التي يجب أن تتبناها الثقافة المصرية الفترة المقبلة، والمؤكد -بصرف النظر عن أطراف الخلاف ومواقفهم- أنه لا أمل في خطط أو مقترحات لإعادة الهيكلة دون الاتفاق الديمقراطي على مشروع وثيقة "سياسات ثقافية" تحسم الجدل، وتضع رؤية لتطوير الحركة الثقافية المصرية، واستكمال نموها وعملية إنضاجها التي توقفت لعقود بفعل تدخلات النظم السياسية المتعاقبة ورغبتها في السيطرة على وتوجيه حركة التطور الثقافي بما يخدم مشروعها السياسي. إن الحركة الثقافية المصرية تحتاج لمن ينتشلها من ضيق عباءة الدولة لرحابة الاستقلالية واللا مركزية، يُحررها من البيروقراطية، عدو الإبداع الأول، وينمي ثقافة تشاركية في خدمة تطوير الحركة الثقافية قائمة على تعاون بين السلطة التنفيذية بأجهزتها المختلفة، ومستوياتها المتعددة، وبين القطاع الخاص والمجتمع المدني وجمعيات وروابط المبدعين في كل ربوع مصر.
وإسهامًا من المؤسسة في إثراء النقاش الدائر اليوم داخل الجماعة الثقافية، قامت المؤسسة بعمل دراسة تقع تحت عنوان " السياسات الثقافية ..النشأة .. التطور .. الإشكاليات " وهى من إعداد حسام فازولا الباحث بملف حرية الإبداع ، ومحمود عثمان مسئول الدعم القانوني بملف حرية الإبداع ، والمحرر العام مصطفى شوقي
وتحاول هذه الدراسة أن تناقش فلسفة السياسات الثقافية في مصر منذ نشأتها، مرورًا بمراحل تطورها، وختامًا بالإشكاليات التي تقف في طريق تطويرها وإنضاجها، وذلك من خلال عرض سياق تاريخي وثقافي وسياسي حول نشأة السياسات الثقافية في مصر، بالإضافة لقراءة في فلسفة التشريعات الناظمة لحرية الإبداع والتعبير الفني.
وتنقسم الدراسة الى اريع أقسام : القسم الأول يحتوى على مدخل إلى السياسات الثقافية ، السياسات الثقافية كمسؤولية اجتماعية للدولة ، وتأثير الثقافة على المجتمع والفرد ، أما القسم الثاني فيقع تحت عنوان السياسة الثقافية في مصر ومدى عقلانيتها ويتكون من : منظور تاريخي وثقافي وسياسي ، الدولة الحديثة (بداية وجود سياسات ثقافية في مصر) ، السياسات الثقافية بعد ثورة 25 يناير. أما القسم الثالث فيقدم قراءة لفلسفة التشريعات المنظمة للسياسات الثقافية من خلال التشريعات الحالية المُنظِمة للسياسات الثقافية المصرية ، وقوانين الرقابة على المطبوعات ، والمواد الفنية السمعية والسمعية البصرية ، ويستعرض القسم الرابع السياسة الثقافية الحالية ، كما تتعرض الدراسة من خلال ملحقين إلى تفصيل الأجهزة المسئولة عن منظومة الثقافة في مصر، وعرض وتحليل لثلاث تجارب دولية مهمة حول تشكُّل وإشكاليات السياسات الثقافية بها. وهي؛ كرواتيا، ألمانيا، واليونان.
مدخل الى السياسات الثقافية
وتعرف الدراسة مصطلح السياسات الثقافية بشكل مختصر على أنه مجموعة القيم والمبادئ التي تُوجه المجتمع في شؤونه الثقافية. فمصطلح سياسة، في أبسط صوره، يعني قرار متخذ من قبل ( فرد/هيئة ) . إلا أن هذا المصطلح أكثر تعقيدا من ذلك؛ حيث يشمل قيم مُنظمة، معايير لاتخاذ القرار، نظام من الأهداف المرحلية والأهداف النهائية، والخطط العملية لتحقيق هذه الأهداف ومتابعة تنفيذها من قبل مجموعة الأفراد أو المؤسسات. أما مصطلح "ثقافة" فيمكن توصيفه -في أبسط صوره- على أنه تعبير عن الجانب المعنوي من مصطلح حضارة. ويُعد أقدم تعريف لكلمة ثقافة هو التعريف الوارد في كتاب (الثقافة البدائية) لإدوارد تايلور 1871م؛ والذي عرّف فيه الثقافة على أنها "كل مُركَّب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون، والقانون، والعُرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوًا في المجتمع". ويُعد هذا التعريف بداية لعملية وضع تعريف محدد وواضح وصحيح للثقافة.
جدير بالذكر أن التعريف الأبسط لمصطلح "ثقافة" الذي طرحه "روبيرت بيرستد" في كتابه النظام الاجتماعي 1963م والذي عرَّف فيه الثقافة على أنها "ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع”.
وقد شمل هذا التعبير الممتلكات المادية كجزء من الثقافة بجانب العناصر المعنوية ولكنه لم يتناول خصائص الثقافة؛ مثل تعدد الثقافات وقابليتها للتناقل من جيل لأخر في ظل تطوير الإنسان للثقافة واستفادته منها.
إذن؛ وبعد كل ما سبق، يمكن تعريف الثقافة بشكل أكثر تفصيلًا وشمولًا على أنها نمط متكامل من المعرفة والخبرة والأنشطة والفنون والمعتقدات والقيم والقوانين والمواقف والمعاني والأدوار والعلاقات والممتلكات المكتسبة والسلوك الذي يعتمد على التعلُّم ونقل المعرفة عبر الزمان والمكان وما يبتكره الإنسان ويرتب به حياته الفكرية والروحية والجمالية والاجتماعية.
في كتاب (مدخل إلى السياسات الثقافية في العالم العربي) تم تعريف السياسات الثقافية على أنها "مُجمل الخطط والأفعال والممارسات الثقافية التي تهدف إلى سد الحاجات الثقافية لبلد ما أو مجتمع ما، عبر الاستثمار الأقصى لكل الموارد المادية والبشرية المتوفرة لهذا البلد أو المجتمع.”
وتُعتبر السياسات الثقافية أحد مسئوليات الدولة بالأساس، ففي أغلب الأحيان تكون الدولة هي المُطبِق لتلك السياسات، مع عدم إغفال دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والقوى الاجتماعية المؤثرة في تشكيل وتكوين السياسات الثقافية لأي دولة. ففي بعض الدول تتميز السياسات الثقافية بالشفافية وتصدُر وتُطبَّق من قبل جهة مسئولة عن إصدار خطط توضح دور الدولة في تطوير الحياة الثقافية. وفي دول أخرى كالولايات المتحدة مثلًا، لا يوجد للدولة تأثير واضح على تشكيل وتطور السياسات الثقافية على عكس بعض الدول الأوروبية. حيث هناك آثار واضحة على دور الدولة في تطور الثقافة.
جاءت الأفكار التي أدت لتطوّر مفهوم السياسات الثقافية من مصادر متعددة كالمفكرين والفلاسفة والمُنظرين والممارسات العادية للمجتمعات المختلفة والأحداث التاريخية والتراث الإنساني المادي والمعنوي. كما شاركت المحاكم والمجالس التشريعية والكنائس والهيئات الدينية على مر القرون في اتخاذ قرارات تتعلق بالسلوك المجتمعي واللغة والدين والملبس و-حتى- كيفية دعم الفنون وباقي الأنشطة الثقافية، وعلى مدار التاريخ قامت المجتمعات بتشكيل ثقافتهم وتحديد سياستها وأطرها، كما طوروا سُبل التعبير عن أفكارهم وتطلعاتهم ومخاوفهم وطقوسهم واحتفالاتهم.
السياسات الثقافية كمسؤولية اجتماعية للدولة
وتشير الدراسة الى أن السياسات الثقافية مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق الدولة، هي فكرة حديثة نسبيًا، ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذا لا يعني عدم وجودها قبل ذلك فما كان يحدث في ألمانيا أثناء فترة حكم "أدولف هتلر" من الدعوة إلى الفكر النازي واستخدام وسائل الإعلام للترويج له، يعتبر تدخلًا واضحًا من السلطة السياسية في تشكيل سياسة ثقافية عبر التوجيه المباشر. ما يعني أن السياسات الثقافية ليست بالضرورة تؤدي إلى هدف إيجابي، يعمل على تنمية الشعوب ورُقيّهم، بل يمكن أن يتم استخدامها لخدمة مصالح وأيدلوجيات دول ما أو مجموعة أفراد بعينهم.
يمكن قياس إيجابية السياسات الثقافية نظريًا بمدى عقلانيتها، أو ما يعني، القدرة على التنظيم وفقًا لقواعد معينة، والتي يتم من خلالها تحديد الأهداف المناسبة لفترة زمنية معينة، وتحديد أكثر الوسائل فعالية لتطبيق هذه الأهداف في وقت معين. إلا أنه تبقى هناك إشكالية تتعلق بتحديد الأهداف، وحتى يتم تحديدها، يجب أن يتم دراسة المجتمع جيدًا وتحديد أهم المشاكل الاجتماعية والثقافية. ماذا يٌميّز هذا المجتمع؟ ما هي سماته؟ ما هي أنواع الفنون المختلفة المُمَارسة فيه؟ وما الذي يحتاج منها لدعم أو تطوير؟، كما يجب -أيضًا- تحليل العملية التعليمية ومدى جدوى الطرق المُتبعة والأدوات المستخدمة ومدى تطورها وكفائتها.
كما ذكرنا، يمكن للسياسات الثقافية أن تكون أداة لسيطرة السلطة على عقول وثقافة الشعوب، ويمكن من خلالها التحكم في شكل المجتمع وسلوكه، لذا في بعض الأحيان تختلف الأهداف المُحرِّكة للسياسات الثقافية مع الهدف المرجو منها، وهو ما يؤثر بدوره على عملية تطوير حياة الفرد والمجتمع بأسره في حال استغلال كافة الموارد ذات التأثير في تشكيل السياسات الثقافية لخدمة أهداف وأيدلوجيات النظم الحاكمة بشكل أساسي، أو لخدمة أهداف تجارية بحتة لصالح شركات بعينها، وهو ما يُعرف بثقافة العلامات التجارية.
فوجود سياسة ثقافية لا يعني بالضرورة أن الدولة تقوم بدورًا إيجابيًا في سد الحاجات الثقافية للمجتمع بل يحتاج الأمر لنظرة أعمق؛ فهناك العديد من المصطلحات كالهوية الثقافية والعادات والتقاليد يمكن أن يتم استخدامها بشكل لا يؤدي لمنفعة عامة.
في رُبع القرن الماضي بدأ الفكر النيو-ليبرالي أو ما يُعرف بالليبرالية الاقتصادية في الظهور والتأثير على السياسات الثقافية بما يشمله من مبادئ تُرسّخ للنظام الرأسمالي وتدعو لمزيد من تقليص دور الدولة وفتح مجال أكبر للقطاع الخاص، مما أدى إلى ظهور مشاكل تتعلق بغياب رقابة الدولة على الهيئات الخدمية والثقافية، خاصةً في الدول النامية، بالإضافة إلى تخفيض النفقات على الخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية وهو ما جعل السياسات الثقافية تتحول إلى سياسات تجارية تعتمد على الربح بشكل أساسي.
تأثير الثقافة على المجتمع والفرد
وتؤكد الدراسة على إن الأنشطة الثقافية هي جزء من السلوك البشري المُمّيِز للإنسان، فبتطور الإنسان وتطور عقله وتعقيده؛ تطورت احتياجاته، ونظرًا لاختلاف الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى والتي تتمثل احتياجاتهم في الاحتياجات الأساسية (الفسيولوجية)، أصبح للإنسان هرم احتياجات أكثر تعقيدًا عن باقي الكائنات الحية، يمتاز بأنه دائم التطور، وفي حالة سد بعض الاحتياجات فالطبيعة البشرية تؤدي إلى ظهور احتياجات أكثر تعقيدًا، وهو ما عبّر عنه بوضوح ما يُسمى بتسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات.
فبعد الاحتياجات الأساسية تأتي الحاجة للأمن؛ وهي تشمل سلامة الجسد والصحة والممتلكات والوظيفة والموارد والأخلاق والقواعد. وبعدها تأتي الحاجات الاجتماعية وما تشمله من الحاجة للعلاقات الأسرية والصداقة والأُلفة الجنسية. ثم الحاجة للتقدير وتشمل تقدير الذات والثقة والإنجازات والاحترام المتبادل بينه وبين الآخرين. وينتهي الهرم بالحاجة لتحقيق الذات ويشمل ذلك الابتكار وحل المشاكل وتقبل الحقائق.
الثقافة هي نتاج لكل هذه الاحتياجات بداية بالحاجة للأمن وصولاً للحاجة لتحقيق الذات، فالحاجة للأمن أدت إلى تطور أنماط من اللغات للتواصل وأشكال للوظائف والمهن وتقسيم الموارد وتنظيم الملكية. والحاجات الاجتماعية أدت إلى كل السمات التي تتميز بها المجتمعات والطرق التي يعبرون بها عن تطلعاتهم ومخاوفهم واحتفالهم وشكل وطبيعة ومميزات العلاقات البشرية، أما الحاجة للتقدير وتحقيق الذات فهي الحاجات المُحرّكة للتطور العلمي والتكنولوجي وظهور العلوم المختلفة وكذلك عملية استكشاف الكون وتفسير الطبيعة والفلسفة، وظهور الفنون بكل أشكالها.
افترض الفيلسوف "ليون باتيستا البيرتي" إن النشاط الفني ظهر عندما مر الأسلاف على قطعة من الحجر ينقصها تعديل بسيط ليصبح شكلها شبيهًا بشكل شيء آخر كوجه إنسان أو أي شكل آخر مما أنشا داخل شخص ما الحاجة إلى إجراء هذا التعديل وهو ما تطور ليصبح فن النحت.
الثقافة تشمل كل الأنشطة التي يقوم بها الإنسان في هذا العصر وفي العصور الماضية. ومن الصعب تخيُل عدم وجودها في مجتمع، فعدم وجودها يعني عدم وجود كل ما طوّره الإنسان وابتكره واخترعه، وفقدان كل ما نعيشه من تقدُم علمي وتكنولوجي وفني ونظام اجتماعي بل أن عدم وجود الثقافة يعني عدم وجود المجتمع.
والثقافة يجب أن ترتبط بالحرية فلا يوجد نتاج ثقافي ذُخر ومميز إلا بوجود قدر كبير من الحرية، والسياسة الثقافية الأمثل هي التي تهدُف لأن يقوم الإنسان بإنماء عقله واستخدامه الاستخدام الأمثل، ولا يحدث ذلك إلا بخروج الإنسان عمّا سماه "مانويل كانط" بالقصور، أي عدم قدرة الإنسان على استخدام إدراكه دون قيادة، فيجب ألا يكون هناك نمط تعمل السياسة الثقافية على إخراجه من الأفراد، بل يجب أن تعمل على تشجيع كل الأفراد على استخدام فهمهم الخاص، وتوفير كل الوسائل والموارد المتاحة لاستخدام ذلك الفهم الخاص الاستخدام الأمثل. حيث الهدف أن يقوم الأفراد بفعل الأشياء فقط للرغبة في القيام بها، يعبرون عن أنفسهم دون قيود ويستمتعون بحياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية دون حسابات، وهو ما يعتبر أحد تعريفات النشاط الاجتماعي.
منظور تاريخي وثقافي وسياسي
وتشير الدراسة الى ان مصر تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا ولها امتداد آسيوي؛ حيث تقع شبه جزيرة سيناء في داخل قارة آسيا. وهي دولة عربية يتحدث سكانها اللغة العربية (اللهجة المصرية) ويدين أغلب سكانها – والبالغ عددهم 88 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2015م- بالدين الإسلامي إلا أن هناك تعدُد عرقي وديني (مسيحيين وبهائيين ويهود وملحدين ونوبيين وأمازيغ وأرمن،..). يتركز سكان مصر في مساحة تُعد 7?7% من إجمالي مساحة مصر وهي وادي النيل ودلتاه وامتداد البحرين الأبيض والمتوسط.
وبالمرور على تاريخ مصر والنظر إلى التغيرات الثقافية والمجتمعية ومدى تأثرها بالظروف الاقتصادية والسياسية، وكذلك تغيُر شكل النظام السياسي واختلاف توجهاته وأهدافه؛ يمكننا أن نجيب على بعض الأسئلة الهامة، وكذلك بناء صورة أكثر وضوحًا حول ما إذا كانت السياسات الثقافية المُتبعة والتي تم إتباعها هي نتاج أهداف للنظم الحاكمة التي تسعى بشكل أساسي لإخراج نمط ما من الشعوب يتماشى مع سياسة الدولة القائمة. أم هي بغرض المنفعة العامة ومنفعة الفرد للاستفادة بكل الموارد المتاحة في محاولة للوصول لحياة أمثل، وما إذا كان يتم التخطيط للسياسات الثقافية وفقًا للزمان والظروف الخاصة به؟ أم أنها كانت تتأثر بالظروف المحيطة وتأخذ شكلها بدون خطة واضحة؟. كما يمكننا -أيضًا- أن نرى علاقة نمو الثقافة وازدهارها بوجود سياسات ثقافية، والأهم هو إمكانية رصد العلاقة بين ثقافة المجتمع ومساحة الحرية المتاحة.
تُعد مصر من أقدم الحضارات على وجه الأرض؛ فمنذ 25 ألف سنة ق.م تعرضت المنطقة للتصحر مما فرض على السكان الانتقال إلى وادي النيل والاستقرار وبناء مجتمعهم. اعتمد ذلك المجتمع على الزراعة والصيد وتربية الحيوانات والتعدين وصناعة الفخار. وبمرور الوقت أصبح لهذا المجتمع ثقافة متكاملة وعظيمة، حيث تقدّم المصريون القدماء في الطب والأدب وعلم الفلك وكذلك الفنون؛ كالنحت، الموسيقى، الرقص وصناعة الحُلي، كما ابتكر المصريون القدماء الألعاب اللوحية والألعاب الكروية ومارسوا أنواع مختلفة من الرياضات. كما حرص المصريون القدماء على تسجيل حضارتهم لأحفادهم وابتكروا اللغة الهيروغليفية وهي مكونة من رسوم تحمل معاني معينة تم كتابتها على الجدران وعلى أوراق تم صناعتها من نبات البردي.
أنشأ المصريون القدماء دولة قوية تحت ظل قانون يعمل على تمييز الخطأ من الصواب ويهدف لوجود حلول سلمية للنزاعات، وعرِفوا نظام المحكمة حيث يقوم المتهم فيها بالدفاع عن نفسه.وكجزء من تلك الثقافة العظيمة كان للمصريون القدماء عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم ودينهم الذي تميّز بتعدد الآلهة، وتوجَّه بعد ذلك إلى توحيد الإله. في 332 ق.م ضعفت الدولة الفرعونية الحديثة و غزا الإسكندر الأكبر مصر، كان ذلك بداية عصر الدولة البطلمية في مصر، وأصبحت الإسكندرية عاصمة للدولة الجديدة ومركز للثقافة والتعليم، وبُنيت مكتبة الإسكندرية كأهم وأقدم مكتبة عامة في التاريخ، حيث حوت المكتبة كتب وعلوم الحضارتين الفرعونية والإغريقية، حيث اندمجت الثقافتين معًا وتداخلت المعتقدات والعادات والتقاليد للحضارتان ليكونوا مزيجًا ثقافيًا متجانسًا أثّر على المصريين ثلاثمائة سنة.
استمرت الدولة البطلمية حتى هزيمة ماركوس انطونيوس والملكة كليوباترا السابعة على يد أغسطس قيصر سنة 31 ق.م وأصبحت مصر ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية، لتدخل الثقافة الرومانية في ذلك المزيج الثقافي.
انتشرت الديانة المسيحية في الإسكندرية وأصبحت الديانة الرسمية بمصر بعد ذلك، ففي سنة 391 أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول تشريعًا بمنع الطقوس الوثنية، وتم تحويل المعابد المصرية إلى كنائس، وبدأت تتلاشى العادات والتقاليد المصرية القديمة، وتحولت اللغة إلى القبطية وهي آخر تطور للغة المصرية القديمة، ومع مرور الوقت بدأ فقدان القدرة على قراءة المخطوطات الهيروغليفية.
في عام 641 ميلادية هُزِم الرومان من قبل جيش إسلامي بقيادة عمرو بن العاص، وأصبحت مصر ولاية إسلامية؛ وبدأ المجتمع في تعلُّم اللغة العربية حتى أصبحت اللغة السائدة، والدين الإسلامي هو الدين الرئيسي، وكان ذلك بداية الدولة الإسلامية في مصر حيث الثقافة المختلفة بشكل كبير عن الثقافة التي كانت سائدة في مصر قبل ذلك.
بعد ذلك حكم الأمويون والعباسيون مصر استكمالاً للدولة الإسلامية، وتم تأسيس الدولة الطولونية والتي انتزعها الفاطميون، وكان لكل ذلك تأثيره على الثقافة العامة. وأصبحت القاهرة هي عاصمة الدولة وتم بناء مسجد الأزهر سنة 972م ليصبح مركز تعليمي هام وأول جامعة لتعليم المذهب السني والشريعة.
ظلّت مصر تمر بفترات انتقالية متعاقبة؛ فبعد دولة الفاطميين أُسست الدولة الأيوبية، ومن بعدها العصر الإخشيدي وتولي المماليك لمناصب الدولة، حتى دخل العثمانيون مصر وأصبحت ولاية عثمانية.
استمرت مصر كولاية عثمانية حتى قدوم الحملة الفرنسية ( 1798 – 1801 ) والتي حملت من بين ما حملت علماء وفلاسفة وأول مطبعة عرفتها مصر. حيث يُذكر أن "نابوليون بونابارت" كان مهتمًا -بشدة- بالإعلام والتسويق الثقافي للحملة، وكانت الطريقة المُتّبعة لتبرير الاحتلال وتسهيله هي توضيح احترام الحملة للثقافة المصرية والدين الإسلامي، وهو ما تحوّل بعد أن انتقلت الحملة لاحتلال عسكري صريح.
خلال الحملة الفرنسية على مصر فُكَت رموز حجر رشيد الذي فسَّر اللغة الهيروغليفية، وهو ما أعاد الاعتبار والاهتمام مجددًا بالآثار المصرية، حيث أصبحت هناك آفاق أخرى جديدة بعد وجود إمكانية لتفسير وفهم كل الكتابات المتروكة من تلك الحضارة، كما ظهر -آنذاك- كتاب وصف مصر، وأُنشئت حينها مكتبة تضم أهم الكتب في هذه الفترة وهي ما عرفت بعد ذلك باسم المجمع العلمي.
فشلت الحملة وتركت مصر بعد ثلاثة سنوات تعرَّف فيهم الشعب المصري على الثقافة الأوروبية بعلومها وأدبها وفنونها بعد الحكم العثماني الذي كان يُجرِم الاتصال بالغرب.
طوال ذلك التاريخ الثري والحافل لم ينشأ ما يمكن أن نطلق عليه "سياسة ثقافية” -بالمعنى الأكاديمي- ولكن؛ كانت لكل حقبة سمات ثقافية مميِّزة ومقدسات وعادات وتقاليد وأعراف وعلاقات اجتماعية وتوجهات دينية وأشكال مختلفة من العلاقات البشرية، خلقت في مجملها إطار ثقافي. بعض تلك الأطر كانت مرنة والبعض الآخر جامد. ولكن نستطيع بمد الخط على استقامته أن نؤكد أن تداخل كل تلك الثقافات المتنوعة وانصهارها في بوتقة المجتمع المصري مع تفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية متغيرة، ومع توالي النظم السياسية واختلاف توجهاتها وأهدافها، كان لابُد وأن يُفرِز كل ذلك مُكوِّنًا ثقافيًا ذا خصوصية، وهو ما سعت دولة محمد علي لتأطيره وتنظيمه. وشهدت مصر لأول مرة سياسات ثقافية تضعها الدولة وترعاها. ولكن بأي أهداف؟ وتحت أي قيود؟.
محمد على والدولة الحديثة
وتستطرد الدراسة تُعد فترة حكم محمد على هي بداية ظهور سياسات ثقافية لمصر على الرغم من عدم وجود سياسة ثقافية واضحة ومحددة، كان الهدف المُحرِِّك بالنسبة لمحمد علي هو دولة قوية وجيش قوي يُمكّنه من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وقد أدرك محمد على أنه لحدوث ذلك يجب أن يهتم بالتعليم والثقافة لخدمة مشروعه.
بدأ ذلك من خلال إرسال البعثات التعليمية لأوروبا؛ ففي عام 1813م أُرسلت أول بعثة تعليمية إلى إيطاليا، حيث قام الطلبة بدراسة العلوم العسكرية والهندسة والطباعة، تلاها 8 بعثات أخرى لدول أوروبية مثل فرنسا والنمسا وانجلترا.. وعلى الرغم من أن أغلب البعثات كانت تتعلق بدراسة العلوم التطبيقية المفيدة للدولة بدرجة ما، إلا أن بعض الطلبة قاموا بدراسة الفنون الجميلة. وكان محمد علي يأمر كل طالب عائد من بعثة دراسية بترجمة كتاب في التخصص الذي قام بدراسته للغة العربية، ومن ثم تُرجمت أمهات الكتب في الطب والهندسة والزراعة والعلوم العسكرية في ذلك الوقت.
استكمالًا للتنمية الثقافية؛ أنشأ محمد علي العديد من المدارس الابتدائية والعليا (الكليات)، بعد أن كان التعليم في مصر قبل ذلك يقتصر على الكتاتيب والأزهر ، وفي عام 1816م أُنشئت مدرسة الهندسة ومن بعدها في عام 1827م أنشئت مدرسة الطب، لتتوالى عملية إنشاء الكليات لتشمل مختلف التخصصات، حيث تم إنشاء مدرسة للصيدلة وأخرى للطب البيطري ومدرسة الهندسة العسكرية، مدرسة المعادن، مدرسة الزراعة، مدرسة المحاسبة، مدرسة الفنون والصنائع، ومدرسة الترجمة (الألسن).
بعد نجاح المدارس العليا التي وصل عدد الطلاب فيها 4500 طالب، قام محمد على بإنشاء ديوان المدارس، وأولى إدارته للطلاب العائدين من البعثات، وقرر المجلس بدوره إنشاء خمسون مدرسة ابتدائية أربعة منها بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية وخمسة وأربعون مدرسة توزع على باقي الأقاليم.
في عام 1820 أنشأ محمد علي المطبعة الأميرية لطبع ونشر الأوراق الحكومية والكتب الأدبية والعلمية والترجمات التي قام بها العائدون من البعثات. وصدرت جريدة الوقائع المصرية عام 1828م والتي تخصصت بعد ذلك في الفنون والثقافة العامة.
اهتم محمد علي -أيضًا- بالآثار وأدرك أهميتها؛ حيث قام بتسجيل الآثار المصرية الثابتة وإصدار فرمان يمنع تهريبها خارج البلاد وأنشأ أول متحف مصري للآثار المصرية بالأزبكية.
وظهرت في هذه الفترة أنواع جديدة من الفنون والأدب لم تكن منتشرة في مصر من قبل ذلك كالمسرح والمقال الصحفي وفن الكاريكاتير بالإضافة إلى الفنون الموجودة كالشعر والزجل والنثر الأدبي.
على الرغم من الازدهار الثقافي في عصر محمد علي إلا أن حرية التعبير لم تكن مكفولة بشكل كبير؛ حيث صدر أول قرار بمصادرة كتاب في عصر الدولة الحديثة سنة 1823م حين صودر كتاب "ديانة الشرقيين" بدعوى أن الكتاب يدعو إلى الإلحاد ، وبناء على ذلك القرار تم منع الأجانب -دون المصريين- من نشر أي كتاب بمطبعة بولاق دون استصدار تصريح بنشره من الباشا نفسه.
وهنا بدأ محمد علي يكشف عن الوجه الآخر لدولته، ذلك الوجه راعي الذوق والأخلاق والآداب العامة، وبدأت الدولة تتدخل للتقييد، وهو ما سوف يضطرها لاحقًا لاستخدام قوة القانون لفرض الثقافة التي ترضى عنها وتخدم مشروعها.
من بعد محمد علي اهتم الخديوي إسماعيل بالثقافة وذلك بداعي ولعُه الشخصي بالثقافة وحبه للفنون، فأكمل مسيرة جده؛ حيث قام بتحويل العديد من الكتاتيب إلى مدارس نظامية، وفي ذلك الوقت، تولى علي باشا مبارك، منصب وكيل وزارة المعارف العمومية -ديوان المدارس- وهو من أصدر أول لائحة لتنظيم المدارس والتي تم إقرارها من قبل الخديوي عام 1868م حيث شهدت زيادة ميزانية التعليم، وأُنشئت مدارس جديدة في القاهرة وباقي الأقاليم، وشهدت هذه الحقبة إنشاء أول مدرسة للبنات سنة 1873م (مدرسة السنية). بالإضافة إلى إنشاء مدرسة دار العلوم بهدف تخريج أجيال من المدرسين.
كما تأسس في عصر الخديوي إسماعيل الجمعية الخيرية الإسلامية التي قامت بفتح العديد من المدارس للنوعين. وغير ذلك كان هناك العديد من الإنجازات في مجال الثقافة في عصر الخديوي إسماعيل منها إنشاء الجمعية الجغرافية ودار الآثار سنة 1875م لنشر الأبحاث والاكتشافات الجغرافية والعلمية بشكل عام ، إنشاء دار الكتب سنة 1870م بهدف تجميع المخطوطات النفيسة التي اقتصرها السلاطين والأمراء على أنفسهم.، ظهور الجرائد وانتشارها؛ كجريدة الأهرام التي نشأت عام 1875م، ومجلة روضة المدارس التي كانت تهدف إلى إظهار أهمية التعليم ونشر الثقافة، إنشاء المسارح؛ المسرح الكوميدي بالأزبكية سنة 1868م ومسرح زيزينيا وألفيري بالإسكندرية ، انشاء دار الأوبرا المصرية سنة 1869م.
لم تختلف فترة حكم الخديوي إسماعيل عن فترة حكم محمد علي من حيث حرية التعبير المتاحة، حيث تم رصد أول قرار منع لعرض مسرحي في عصر الدولة الحديثة في مصر سنة 1870م، عندما اعترض الخديوي إسماعيل على مسرحية الضُرتان ليعقوب صنّوع وذلك لرؤيته أن المسرحية تحتوي على إهانة لمتعددي الزيجات وهو ما رأه إساءة لشخصه.
كان يعقوب صنّوع أحد رواد المسرح والصحافة الساخرة، بدأ مسرحه في سنة 1869م، تميّز بتقديم مسرحيات ورسوم ومقالات تنتقد سلوكيات المجتمع الخاطئة وتُحرِض ضد الاستبداد، ضمت فرقته النساء لأول مرة على خشبة المسرح. قدّم صنّوع أعمال ساعدت على إحداث ثورة اجتماعية آنذاك -كمسرحية أنسة على الموضة وغندورة مصر- وكان الخديوي -شخصيًا- قد صرَّح بإقامة مسرح قومي لعرض أعماله، شهد قرابة مائتي عرض، إلى أن قدّم مسرحية “الوطن والحرية” التي كانت تنتقد فساد القصر، فقام الخديوي بغلق مسرحه ونفيه إلى فرنسا سنة 1878م، حيث عمل على إصدار عدة جرائد من بينها (أبو نضارة، الوطن المصري، أبو صفارة، الثرثارة المصرية) كانت جميعها تحمل روح ثورية وتدعو للثورة قبل قيامها وبعدها.
وفي عام 1881م صدر أول قانون رقابة عرفته مصر وكان يعطي الحق للحكومة في مصادرة كل الأعمال سواء مكتوبة أو مرسومة أو معروضة ترى الحكومة أنها مخالفة لما تم تسميته (بالنظام العمومي والآداب والدين). تأثرت الثقافة بشكل عام في هذه الفترة بالظروف الاجتماعية والسياسية إلى أن قامت الثورة العرابية سنة 1881م بمشاركة واسعة من مختلف فئات الشعب، كان ذلك فترة حكم الخديوي توفيق الذي خضع لبعض المطالب الشعبية، ولكن الوضع لم يستمر على هذا الحال فترة طويلة فسرعان ما قدِم الاحتلال الإنجليزي عام 1882م واستمر حتى منتصف القرن العشرين.
وتسببت فترة الاحتلال الإنجليزي في حدوث اختلاف كبير في الثقافة المجتمعية السائدة كنتيجة طبيعية، فمن ناحية تم تأسيس مدرسة الفنون الجميلة والجامعة المصرية والجامعة الشعبية -التي تحولت بعد ذلك لقصور الثقافة-، ومعهد الموسيقى، وازداد عدد الجمعيات العلمية والأدبية مما أثر على إنضاج الفكر الأدبي والعلمي والفلسفي للمجتمع، وساعد على تشكيل فكر متحرر رافض للاحتلال وداعي للاستقلال. ظهر ذلك من خلال أعمال أدبية وفنية عديدة، وظهر بشكل واضح من خلال ازدهار حركة المسرح الذي امتلأ بالأفكار المتحررة ضد الاحتلال، حتى أُصدرت لائحة التيارات 1907-1911م والتي وضعت المسارح تحت رقابة الشرطة وأعطت الحق للشرطة في إغلاق المسارح إذا قامت بعرض ما يخالف الآداب والنظام العام بها.
ومن ناحية أخرى كانت هذه الفترة هي بدايات الثورة الصناعية في إنجلترا وهو ما انتقل بالتبعية من خلال الاحتلال البريطاني إلى مصر، وأدخلت مصر في السوق الرأسمالي العالمي، وفي سنة 1896م أنشئت شبكة ترام القاهرة الذي ربط بين أحياء القاهرة وبعضها، وسهّل ذلك التنقل إلى أماكن كان يصعب الوصول إليها في ظل ظلام الشوارع الجانبية وقلة المواصلات، ونُشِرَ كتاب "ترام القاهرة" للمؤلف محمد سيد الكيلاني لاحقًا في 1968م يشرح فيه أثر وجود الترام على حياة المصريين وثقافتهم في هذه الفترة، فقد ساهم وجود الترام في توسيع المجال العام والرأي العام وظهور النقاشات، ووجد ما عُرِِف -أيضًا- بالأدب الترامي ليملأ أعمدة الجرائد، كما ظهرت الحياة الليلية للمدينة بسبب قدرة المواطنين على السهر والتنقل بسهولة فكثُرت المسارح وصالات الرقص والسينما. كما سهل تنقل النساء وظهرت المطالبة بحقوق المرأة في هذه الحقبة كموضوع شاغل للرأي العام بعد نشر كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين سنة 1896م. كما شهدت تلك الفترة دخول القطاع الخاص في النشاط الثقافي وانتشار الصناعات الثقافية في مصر من طباعة ونشر وسينما ومسرح وفرق غنائية.
الحركة الثقافية والتصدي للاحتلال
واستمرت الحركة الثقافية في مصر في التصدي للاحتلال من خلال الفنون كالمسرح والغناء والشعر، حتى نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914م والتي تحولت إلى موجة ثورية حقيقية بعد انتهاء الحرب سنة 1918م، حتى اندلعت ثورة 1919م وساعدت هذه الفترة الانتقالية في ظهور جيل من المبدعين مثل المطرب سيد درويش والفنان التشكيلي محمود مختار والأديب عباس العقاد، والمفكر طه حسين الذي أصدر كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" ليكون من أهم ثلاثة كتب طرحت فكرة السياسات الثقافية في تلك الفترة في مصر بعد كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" لرفاعة الطهطاوي وكتاب "القول التام للتعليم العام" ليعقوب أرتين وتوفيق الحكيم ويحيي حقي ونجيب محفوظ وفتحي رضوان.
في سنة 1952م نجحت حركة الضباط الأحرار في الوصول للحكم والإطاحة بالملك، وبدأ النظام الجمهوري، وعُرفت هذه الفترة بالمرحلة الشمولية حيث سيطرت الدولة على كل القطاعات من خلال بنية تشريعية تسمح للدولة فرض الرقابة على كل المؤسسات والتدخل في عملها؛ وهو ما أنعكس بالتأكيد على النشاط الثقافي الذي أممتّهُ سلطة 23 يوليو بعد تأميم المراكز الثقافية والصحف ودور النشر وشركات الإنتاج السينمائي والتي أصبحت تحت سيطرة الدولة بشكل كامل.
وتراجع دور العمل الأهلي في الثقافة حيث خضعت الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة لقيود مشددة من الدولة، وفي المقابل ظل تزايد دور الدولة في تحديد الإستراتيجية الثقافية؛ حيث تحولت الجامعة الشعبية إلى هيئة الثقافة الجماهيرية وكانت تهدف إلى جمع التراث الشعبي ودعم الفنون الشعبية وقامت الدولة بإنشاء العديد من بيوت وقصور الثقافة في المحافظات والمدن.
كانت السياسات الثقافية المُتّبعة في تلك الفترة تحمل شكل الدعوة إلى الاشتراكية والوصول للأفراد في القرى والمدن وتأكيد انحياز الدولة للفقراء، بجانب التأكيد على هوية مصر العربية ونشر الفكر القومي، والتقدير والاحتفاء بثورة يوليو وما أنجزته. انعكس ذلك على السينما والأدب ومختلف الفنون التي حوصرت في فلك الثورة وإنجازاتها دون السماح بأي مساحات حُرة للتعبير أو الإبداع الفني.
ومن هذا المنطلق ظهرت وزارة الإرشاد القومي سنة 1952م لتتولى بشكل أساسي مهمة صياغة العقل المصري، وتوجيه الوعي المجتمعي العام، وفي سنة 1958م تم تحويلها إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي وتُعد هذه الوزارة هي أول وزارة للثقافة في الدول العربية وفي القارة الأفريقية ومن أوائل وزارات الثقافة على مستوى العالم، وتولى الوزارة في ذلك الوقت الدكتور ثروت عكاشة كأول وزير للثقافة والذي كان له دور كبير في إنقاذ معبد أبو سمبل ومعبد فيلة، كما أنشأ أكاديمية الفنون سنة 1969م والتي ضمت ثلاثة معاهد: معهد السينما ومعهد الباليه ومعهد الموسيقى. وهو صاحب أول سياسة ثقافية لمصر صيغت ونُشرت بعنوان “السياسات الثقافية” ، وانفصلت وزارة الثقافة عن الإرشاد القومي سنة 1966م لتصبح وزارة الثقافة كيانًا قائمًا بذاته، وفي تلك الفترة نجحت وزارة الثقافة في استيعاب عدد كبير من الأفراد بشكل كاد أن يعوّض عن غياب النشاط الأهلي. إلا أنه في سنة 1967م حدثت النكسة، وفي الوقت الذي وقع فيه آلاف