القاهرة 04 اكتوبر 2015 الساعة 02:19 م
د. عبدالغفـار مكـاوي.. مترجماً
بانـوراما كاشـفة
يقول درايـدن: يبدو لي أن السبب الحقيقي في أننا لا نحصل إلا على مترجمات قليلة، هو قلة الذين لهم جميع الكفايات المتطلبة للترجمة وضآلة الثناء والتشجيع على مثل هذه الناحية المهمة من الثقافة، ومع ذلك فقد ظهر خلال العصور مترجمون بارعون رفعوا مقام هذا الفن ومنحوه شيئاً من الإجلال والحركة. يأتي اسم المبدع والمترجم والكاتب والباحث الأستاذ الدكتور عبدالغفار مكاوي ليحتل مكاناً متميزاً وسط هذه الكوكبة في هذا الحقل الأدبي والثقافي المهم جداً، وحيث إن المترجم فنان فهو إلى جانب اطلاعه اللغوي ينبغي أن يكون متحلياً بروح الفـن ومطلعاً على الموضـوع الذي يقـوم بترجمتـه.
وتتضمن الترجمة إلى جانب ترجمة الألفاظ والمعاني ترجمة أسلوب الكاتب وروحه، فقد توفرت كل هذه الخصائص لدى مترجمنا القدير وسوف نقف عند بعض المحطات في حياة د. عبدالغفار مكاوي لنتبين تلك البذور الفكرية والإبداعية، والتي جعلت شجرة الترجمة عنده تثمر بالكثير من إبداعاته، فالترجمة إبداع من إبداع أو إبداع على إبداع، لأن الإلهام فيها ضروري ومن دونه تغدو ميتة لا روح فيها، والفرق بين الترجمة الملهمة والاعتيادية كالفرق ما بين الشعر والنظم.
في عام 1937 دخل عبدالغفار مكاوي المدرسة وبدأ وعيه يتفتح على حب اللغات والاهتمام بالفنون، وفي عام 1947 عندما قرأ (آلام فيرتر) لشاعر الألمان الأكبر جوته راوده إحساس غامض –كما يقول– بأن مصيره سوف يرتبط بهذا الشاعر الفيلسوف، لم يعلم في ذلك الحين أنه سوف يرتبط كذلك بالأدب والفكر الألماني.
كما أقدم على تعلم اللغة الإيطالية في معهد (داني الليجيري) بالقاهرة والحصول على منحة لمدة ثلاثة أشهر عام 1953 للدراسة بجامعة (بيروجيا للأجانب)، ثم التركيز من عام 1954 إلى عام 1957 على دراسة اللغة الألمانية مع الالتحاق بمدرسة الألسن، كما أنه حصل في عام 1957 على منحة لمدة عشرة شهور للدراسة في ألمانيا، وهكذا نرى أن حب اللغات ودراستها وعشق الفنون قد تجذر وتأصل في وجدان وفكر مترجمنا القدير الذي درس الإنجليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية، لكن اللغة الألمانية تأتي في المرتبة الأولى من حيث الإتقان والإجادة والتجويد، بل استأثرت بنصيب الأسد في مترجماته التي نقلها إلى العربية عشقه الأول، والتي امتزجت بروحه منذ الصغر وأيام النشأة الأولى، ومنذ البدايات عشق د. عبدالغفار مكاوي الشعر والمسرح وكتب الشعر ومازال يكتب المسرح، وارتبط عنده المسرح بالشعر منذ البداية، واعتقد أن فن المسرحية الشعرية هو المعادل لوجدانه وفكره إبداعياً، وقد نحى الإبداع جانباً لأسباب سوف نوردها بعد ذلك، أما المسرح فقد ألقى فيه بنصيب لا بأس به، وهذا يفسر اتجاه د. عبدالغفار مكاوي إلى ترجمة الشعر والمسرح فقد استأثر الاثنان بالنصيب الأكبر من مترجماته، فهل كان التركيز عليهما ترجمة نوعاً من التعويض الإبداعي؟ أو بمعنى آخر أفرغ طاقته الإبداعية في ترجمة الشعر والمسرح، وكان هذا العشق تميز مترجماته، فهو لم يترجم أعمالاً قد فرضت عليه أو تم تكليفه بها دون رغبة منه، وإنما العكس هو الذي حدث، فقد أحب واختار وترجم فتفرد، وهذه أول خصيصة من خصائصه كمترجم، وقد نطلق عليها (العاطفة) هذه العلاقة الخاصة جداً بينه وبين العمل المترجم، بل ومؤلفه، والتي تجعله يتعايش معه ويتشرب روحه، حتى إن د. عبدالغفار مكاوي يصف هذه العملية بأنها أشبه ما تكون بتناسخ الأرواح، وهنا يكمن الإبداع وتصبح الترجمة – بالفعل – إبداعاً على إبداع؛ لأن المترجم لا ينقل إلينا ألفاظاً وعبارات وإنما ينشئ لنا روح العمل في لغتنا العربية.
ورغم هذا الإبداع الذي يتحقق أحياناً في عملية الترجمة، فإن عملية التطابق بين النص الأصلي والترجمة صعبة التحقيق، فدائماً يوجد ما يسمى بفائض الترجمة، وهذا الفائض يكون لمصلحة النص الأصلي، وأحياناً يكون لمصلحة الترجمة، لأنه يجوز للمترجم أن يضيف إلى المعنى الأصلي شيئاً من عنده لتقويته، وهو ما يعرف بالمعنى المضاف إضافة تركيبية، أو يحذف معنى ثانوياً لا رئيسياً إذا وجد أن ذلك يضعف من قوة النص الأصلي، وهذه الحكمة في الزيادة أو الحذف من خلال توخي الدقة هي ما يميز منهج د. عبدالغفار مكاوي في الترجمة، فإذا كانت بعض الألفاظ أو التراكيب تعود إلى أصول لاتينية أو يونانية فإنه يقوم بعملية التحقق والتحقيق، وسوف نعرض لذلك بشيء من التفصيل في تناولنا لإسهاماته في ترجمة الشعر والمسرح، ولن نتعرض لإسهامه في مجال ترجمة الفلسفة والفكر، ولعل ذلك يكون موضوعاً آخر للبحث في مرة قادمة.
ترجمـة الشعـر:
أصعب ما يمكن ترجمته هو الشعر؛ لأنه يحتاج إلى ملكة خاصة ويؤكد هذا المعنى د.عبدالغفار مكاوي نفسه فيقول: (أجل! إن ترجمة الشعر أشبه بالمخاطرة في أرض حرام في منطقة غامضة تقع على الحدود الغامضة أيضاً بين الإنشاء أو الإبداع الخالص، وبين النقل الحرفي الدقيق والأمين، والسبب بسيط فهي تحاول إعادة إبداع عمل سبق إبداعه)، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار الإمكانات الخاصة جداً بمترجمنا القدير ومنها عشقه لكل من العربية والألمانية وتمكنه فيهما، فضلاً عن عشقه الخاص لترجمة الشعر والذي بدأت رحلته معه منذ البدايات، وهذا ما عبر عنه د. عبدالغفار مكاوي، فيقول (توقفت عن الشعر تماماً بعد تعرفي إلى صديق العمر المرحوم صلاح عبدالصبور واقتناعي بعدم أصالة موهبتي فيه، وإن لم يمنع هذا من مواصلة قراءتي له واهتمامي الدائم بعد ذلك بترجمته ودراسته ونثر بعض مقطوعاته خلال مسرحياتي المتواضعة).
ويمكن القول إن ترجمة الشعر بوجه خاص لا يجوز أن يقترب منها إلا شاعر كبير في لغته، أو على الأقل إنسان سكنته حساسية الشعر، وأعتقد أن مترجمنا القدير يمثل الحالة الثانية، فهو مسكون بالشعر منذ النشأة الأولى.
بدأت رحلة د. عبدالغفار مكاوي مع ترجمة الشعر بترجمة بعض قصائد الشاعر والكاتب المسرحي الشهير برتولد بريخت، وقد نشرت في مجلة (المجلة) عام 1958 ثم توالى اهتمام المترجم وانشغاله ببريخت بعد رجوعه إلى الوطن في أواخر سنة 1962 فترجم عدداً كبيراً من مسرحياته وأشعاره التي ظهرت في سنة 1967 تحت عنوان (قصائد من بريخت) وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب عام 1999 بعنوان (هذا هو كل شيء) قصائد من بريخت عن دار شرقيات بمقدمة ثانية للمترجم، ومعها مقدمة الطبعة الأولى أيضاً، وإذا أردنا أن نستكشف بعضاً من جماليات هذه الترجمة فقد تساعدنا قصيدة (عن الرجال العظام) في ذلك.
عن الرجـال العظـام (1926)
–1–
الرجال العظـام يقولون أشياء كثيرة غبيـة
يتصـورون أن جميـع النـاس أغبيـاء
والنـاس لا تقـول شيئاً وتتركهـم يعملـون
بهذا يـدور الزمـن دورتـه
–2–
لكن الرجـال العظـام يأكلـون ويشربـون
ويملـؤون البطـون
وبقيـة النـاس تسمـع عن أعمـالهم
ويأكلـون كذلـك ويشربـون
احتـاج الإسكـندر الأكـبر لكـي يعيـش
إلـى مدينـة بابـل العظيمـة
ولقـد وجـد أنـاس آخـرون
لم يشعـروا بأنهـم فـي حاجـة إليهـا – أنـت واحـد منهـم
–3–
كوبرنيكـوس العظيـم لم يخلـد للنـوم
كـان فـي يده منظـار مقـرب
ظـل يحسـب حتى عـرف أن الأرض تـدور حـول الشمـس
فاعتقـد عندئـذ أنه فهـم السمـاء (بشكل أفضل)
–4–
برت بريخـت العظيـم لم يفهـم أبسـط الأشيـاء
وراح يفكـر فـي أصعبها: كالعشـب على سبيـل المثـال
أخذ يمتـدح نابليـون العظيـم
لأنـه كان يأمـل مثلـه الطعام
–5–
الرجـال العظـام يتصرفـون كأنهـم حكمـاء
يتصـرفون كأنهـم حكمـاء
ويتكلمـون بأصوات مرتفعـة – مثل الحمام
والرجـال العظـام ينبغـي تكريمهـم
لكن لا ينبغي تصديق ما يصدر عنهم من كلام
وتوالت الترجمات بعد بريخت، فقد قرأ المترجم بعض أغنيات سافو أول شاعرة غنائية في تاريخ الأدب الغربي، والتي قال عنها (انجذبت إليها عن غير وعي متأثراً بحبي القديم لعلي محمود طه وأشعاره وأغنياته إلى شاعرة الحب والجمال، وظهرت ترجمة الشذرات الكاملة عن دار المعارف سنة 1966)، لكن المشروع الأكبر كان كتاب (ثورة الشعر الحديث) والذي استغرق حوالي ست سنوات من العمل الضمني، ولم يقم د. عبدالغفار مكاوي بالترجمة الحرفية في هذا المشروع، وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعنوان (ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر) عام 1998 عن دار أبوللو، ومن خلال مقدمة الطبعة الثانية نستطيع أن نتعرف إلى الدوافع والأهداف المرتبطة بهذا السفر الضخم الذي جاوزت عدد صفحاته الستمائة، يقول د. عبدالغفار مكاوي في هذه المقدمة (فأما عن الاختيار فقد التزمت بفترة زمنية محددة لا يتجاوز منتصف القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية، والكتاب لا يفكر في تقديم لوحة شاملة أو بانوراما – تضم كل أعلامه – لأن مثل هذه المحاولة تخرج عن هدف الكتاب، ثم أنها تفوق قدرة إنسان واحد وحياته، ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار بودلير ورامبو ومالارميه، بالنصوص الواردة في متن الدراسة ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من فيرلين حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار وحتى تكون المختارات تطبيقاً للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة).
نستنتج من ذلك أن هذا الكتاب لم يستند إلى الترجمة وحدها، وإنما تداخلت معها عناصر أخرى مثل الفكر النقدي والاختيار المنهجي والقدرة على الربط بين ما هو تنظيري وما هو تطبيقي والذوق الخاص للمترجم المؤلف، ويؤكد هذا المعنى د. عبدالغفار مكاوي في مقدمة الكتاب (إنني تذوقت الكتاب الذي اعتمدت عليه واعترفت بفضله عليّ وديني الكبير نحوه، وإنني لم أترجمه حرفياً وإنما التزمت بعرضه التاريخي والموضوعي وخصائصه الأساسية؛ لإيماني بأن أهل هذا الشعر أدرى به منا وأكثر قدرة على تفسيره ووضعه في سياقه الحضاري واللغوي والفكري والاجتماعي والعلمي المتطور، ثم أضفت إليه من مراجع مختلفة وزدت عليه، ويكفي في هذا الصدد أن أقول إن متن الكتاب الأصلي مع استثناء المختارات الشعرية الملحقة به لا يصل إلى مائة صفحة أصبحت عندي سبعمائة، وأذكر أنني أرسلت نسخة من الطبعة العربية في أوائل السبعينيات للأستاذ فريدريش وشرحت له مدى تصرفي في الكتاب مع التقيد التام بالمعلومات الواردة فيه، وردّ علي بما يفيد تفهمه وتقديره). ثم اتجه المترجم بعد ذلك إلى شاعر الوحدة والاكتئاب والحنين سفريد ريش هلدرين فترجم معظم أشعاره وأناشيده الكبرى في إطار شبه روائي ضم سيرة حياته المأسوية.
ثم كتاب (قصيدة وصورة) والذي ضم عدداً كبيراً من الترجمات الشعرية، وكان موضوعه تأثر الشعراء عبر العصور أو تراسلهم مع الفنون التشكيلية، وصدر عن عالم المعرفة في الكويت عام 1987 وكتاب (حكمة بابل) الذي صدر عن نفس السلسلة، وضم كل نصوص ما يعرف في علم الأشوريات باسم أدب الحكمة البابلية وهي قصائد طويلة تغنى فيها أصحابها المجهولون برثاء النفس والظلم الواقع عليهم، ويستمر مترجمنا القدير في رحلته لاستكشاف مناطق شعرية جديدة حتى يصل إلى الشاعر الإيطالي جوسيبي أنجاريتي، والذي ولد بالإسكندرية في عام 1888 ومات في ميلانو عام 1970، هذا الشاعر الكبير الذي يعد رائد التجديد في الشعر الإيطالي في القرن العشرين، والذي أسس مع زميليه اتجاهاً شعرياً عرف باسم (الهرميتيزم) أو الألغاز، وصدر الكتاب بعنوان (يا أخوتي – قصائد مختارة من شعر أنجاريتي) في سلسلة آفاق الترجمة عام 2000، ومن قصيدة بعنوان (سماء صافية) يقول الشاعر:
بعد الضباب الكثيف
تتجلى النجوم
واحداً بعد الآخر
أتنفس النضارة
التي تغدقها علي
السماء الصافية
أدرك من جديد
أنني صورة زائلة
تندمج في دورة أبدية
وقد اعتمد مترجمنا القدير في هذه المختارات على الترجمة الألمانية التي قامت بها الشاعرة الكبيرة إنجبورج باخمان والدراسة التي ألحقتها بها، مع الحرص على قراءة الأصل الإيطالي بمساعدة القاموس والترجمة ومراعاة الدقة والأمانة والتعاطف إلى حد التقمص مع روح النص وجسده. وفي سلسلة آفاق عالمية أيضاً صدر كتاب الزيتونة والسنديانة عام 2001 وهو مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه (هكذا تكلم عبد الله)، وفي دراسة مهمة يقدم بها د. عبدالغفار مكاوي ترجمة الكتاب، يقول: (زيتونة وسنديانة، ربما كانت هذه الاستعارة أصدق وصف لحياة عادل سليمان قرشولي وإنجازه الأدبي الثقافي ورسالته التي كرس لها جهوده ووهبها وجوده، هذا الشاعر السوري الأصل الذي يعيش ويعمل ويعلم ويبدع ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الشعرية والثقافية في مدينة ليبزيج الألمانية منذ ما يقرب من أربعين عاماً متصلة). لقد قدم د. عبدالغفار مكاوي جهداً عظيماً وإسهاماً رائعاً في ترجمة الشعر، وأعتقد أنه من الصعب تقييم هذا الجهد من خلال مقالة واحدة، فمترجمنا القدير لم يقبل على عمل إلا وأعطاه حقه من العمل والصبر والجهد والدأب، وأصبح ذلك سلوكاً راسخاً عنده وأسلوباً خاصاً به.
إن مقدمات الترجمات التي كتبها تعتبر بحق مثالاً لما يجب أن تكون عليه الدراسة النقدية، إنه يغوص في حياة الشاعر وتجربته الحياتية والظرف المكاني والزماني الذي يعيش فيه، فضلاً عن دراسة كافة المؤثرات أياً كان نوعها على إبداعه ومن خلال ما أبدعه الشاعر يرسم د. عبدالغفار مكاوي لوحة متكاملة الأبعاد ومتعددة الظلال والألوان للمبدع وإبداعه، إنه لا يستسهل ولا يستعجل ولا يبحث عن عائد سريع أو مردود عاجل، وإنما يكرس جهده وعمله ومواهبه من أجل أن تخرج الترجمة أقرب ما تكون إلى روح التمام والكمال – أقول أقرب لأن الكمال لله وحده.
ترجمة المسرح:
مارس د. عبدالغفار مكاوي المسرح تأليفاً وترجمة، فقد أحبه إلى درجة العشق، وقد ارتبط اهتمامه بالمسرح منذ البداية وحتى اليوم بدراسة الفلسفة وتدريسها، هو يعترف بذلك فيقول (ربما كان عشقي للسيرك في سنوات الطفولة هو الأب الشرعي لجنوني بالمسرح تأليفاً وترجمة ودراسة ومتابعة لعروضه في الداخل والخارج)، ولذلك حينما اتجه إلى ترجمة المسرح فقد أبدع وتميز ومعظم النصوص المسرحية قام بترجمتها عن الألمانية، وحين كان يعمل مترجمنا القدير في دار الكتب المصرية وقع في يده كتاب صدر بالفرنسية عن الشاعر والكاتب المسرحي بريخت وتضمن نص مسرحيته التعليمية (الاستثناء والقاعدة) مع عدد كبير من الكتابات النظرية عن ظاهرته اللافتة للأنظار، فقام بترجمة هذه المسرحية المثيرة والمستفزة عن الفرنسية، ووجدت طريقها للنشر في مجلة (الهدف) في نفس العام، ثم حصل على منحة بعد ذلك من ألمانيا الغربية وتوفر على دراسة الفلسفة والأدب الألماني الحديث لما يزيد على خمس سنوات، وبعد أن تمكن من اللغة الألمانية تتابعت الترجمات على فترات مقاربة (محاكمة لوكوللوس) مع (الاستثناء والقاعدة) عام 1965 و(السيد بونتيلا وتابعه ماتي) عام 1967، وقد صدرت كذلك ضمن كتاب عن المسرح التعبيري عام 1974، ثم ترجم في أثناء وجوده بجامعة الكويت في أوائل التسعينيات أوبرا ماهاجوني (ازدهار وسقوط مدينة ماهاجوني) ترجمة شعرية، أما الكاتب جورج بشنر (1813–1837) فقد ترجم مسرحياته الكاملة – وهي لا تزيد على مسرحية من خمسة فصول هي (موت دانتون) ومسرحيتين قصيرتين وقد صدرت هذه المسرحيات عن هيئة الكتاب في طبعتين كاملتين في سنتي 1979، 1992 ثم قام بترجمة مسرحية (توركواتو تاسو) لشاعر الألمان الأكبر جوته (1749 – 1832)، وقد صدرت عن سلسلة المسرح العالمي عام 1967 ثم قام بترجمة مسرحيتين لأبرز كتاب المسرح الألماني من الجيل الثالث بعد بريخت وهو تانكريد دورست (1925–) وهما مسرحية (خطبة الإدانة الطويلة أمام سور المدينة) فرناندو كراب أرسل إلى هذا الخطاب، وقد صدرا في كتاب ضمن المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة عام 1999.
وقد قام مترجمنا القدير بمراجعة عدد من المسرحيات منها (سور الصين العظيم) لماكس فريش، و(ماراصاد) لبيتر فايس، و(نزوة العاشق والشركاء) لجوته و(قتسام الظهيرة) لبول كلوديل.
لقد استطاع د. عبدالغفار مكاوي أن يكون صادقاً في ترجمة هذه المسرحيات، صادقاً في نقل الألفاظ، وصادقاً في نقل المعاني، بل وصادقاً في نقل ظلال المعاني وفي الأسلوب الذي تمثله تلك الظلال.
ومن مسرحية (فرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب) هذا الجزء الصغير الذي يحمل روح المواجهة بين فرناندو كراب وجوليا، تتكشف لنا إمكانات د. عبدالغفار مكاوي في ترجمة المسرح الذي عشقه.
فرناندو كراب: ألاحظ الآن يا جوليا أن قدميك جميلتان جداً.
جوليا: لن تحصل علي أبداً.. أبداً إلا إذا مت.
فرناندو كراب: ولكنك تحبينني يا جوليا.. أنت تحبينني الآن بالفعل! ولهذا ستتزوجينني.
جوليا: باعني! واشتريتني!
فرناندو كراب: تتصورين أنني أملك المال وأنك أنت السلعة.
جوليا: صارخة أجل! أجل!
فرناندو كراب: أنا لم أعرض على أبيك أي شروط عندما سلمته المال، لم أطالب بأي شيء أترفضين أن تحبيني؟
ولكن هذا مستحيل مستحيل أن يرفض حبي أي إنسان.
ومن خلال هذه القطعة السابقة نلاحظ أن المترجم قام بنقل الألفاظ والمعاني والأسلوب من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية، بحيث إن المتكلم باللغة العربية يتبين النص بوضوح ويشعر به بقوة كما يتبينها ويشعر بها المتكلم باللغة الألمانية.
هـوامـش البحـث
1– فن الترجمة: د. صفاء خلوصي، بغداد، 1982.
2– يا أخوتي (قصائد مختارة من شعر أنجاريتي) ترجمة وتقديم د. عبدالغفار مكاوي، آفاق عالمية، 2000.
3– الزيتونة والسنديانة (مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبدالله، ترجمة وتقديم د. عبدالغفار مكاوي، آفاق عالمية، 2001.
4– خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة، فرناندو أرسل إلي هذا الخطاب، تأليف تانكريد دورست، ترجمة وتقديم د. عبدالغفار مكاوي، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.
5– ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، د. عبدالغفار مكاوي، الطبعة الثانية، أبوللو للنشر، عام 1998.
6– هذا هو كل شيء قصائد من بريخت، ترجمة وتقديم د. عبدالغفار مكاوي، دار شرقيات، عام 1999.
7– سيرة ذاتية: معالم وخطوط أساسية، د. عبدالغفار مكاوي، ورقة عمل مقدمة إلى أحد المؤتمرات.
8– شذرات من سيرتي المسرحية: د. عبدالغفار مكاوي.
9– التكوين: سير ذاتية مختصرة، مجلة الهلال، سبتمبر 1990.