القاهرة 14 اغسطس 2015 الساعة 05:00 م
أحسن الفنان عزالدين نجيب عندما بوّب الدراسات والمقالات التى كتبها قبل وبعد يناير2011فى كتابه (الثقافة والثورة) الصادرعن هيئة الكتاب المصرية عام 2013. والسبب فى رأيى أنها تدل على انحيازه للجماهير الشعبية، فى ضفيرة واحدة مع نقده لمؤسسات الدولة الثقافية، وبالتالى عندما أقرأ ما كتبه بعد ذاك التاريخ أشعر بالاتساق والمصداقية، عكس كثيرين عندما أجْمَعْ كتاباتهم (قبل وبعد زلزال يناير) أجد تناقضًا فاضحًا ينز بالانتهازية بين تملق السلطة (أيام مبارك) ثم تملق الشباب الذين ثاروا عليه.
محاور الكتاب يلضمها خيط واحد هو الدفاع عن التعريف العلمى للثقافة، التى هى بنت الواقع فى بيئة اجتماعية مُحدّدة وأنتجها أبناء تلك البيئة. لذا كان همه هو الدفاع عن (المشروع الوطنى للثقافة المصرية) ويعتمد على جناحيْن: الأول خصوصية الثقافة القومية المصرية. الثانى رفض تقليد الثقافة الغربية، خاصة التى تتنافى وتتناقض مع مجموع أنساق قيمنا المصرية. ولأنه يستهدف الارتقاء بالمستوى الثقافى خصّص فصلا شرح فيه أنّ المشهد الثقافى المصرى اتسع أفقيًا ولكنه انكمش رأسيًا ((وأنّ الحفر فى الآبار لا يتعدى مستوى أشبار بحثا عن رؤى إبداعية)) لذا ركز فى فصل آخر على أنّ الثقافة ((هى صناعة الوجدان القومى التى تقوم بتأكيد قيم عليا يرتضيها الضمير الوطنى)) وبعد شيوع مصطلح (النظام الكونى الجديد) فإنّ الخطورة تتمثل فى ((تذويب الهوية الخصوصية لأية أمة)) فإذا كانت الثقافة (الوطنية) تعبير عن الوجدان الشعبى، يأتى الخوف من ((النخبة المثقفة التى قد تنساق (بمبرر) الحداثة وراء محاكاة قيم وأساليب الغرب دون مواءمتها مع ثقافتنا)) وفى فصل ثالث شرح كيف أنّ شعبنا جعل من الفن أداة لتأكيد ذواتنا القومية، وهو ما انعكس على الغزاة مثل السلطان سليم الذى ارتكب جريمة ترحيل الحرفيين المصريين (50حرفة) إلى استانبول كأسرى حرب. وكان هدفه أنْ ((يضرب عصفوريْن بحجر واحد، فمن ناحية كان يستنبتْ هذه الفنون فى بلده، ومن ناحية أخرى كان يُقصى عن مصر فنانيها الذين يُعبّئون الشعب ضد المحتل)) ورغم الأثر السلبى لتلك الجريمة، لم يتم القضاء على الخصوصية الثقافية لشعبنا ((لأنّ أعمال الفنانين الشعبيين استمرتْ بأنماطها التشخيصية وهى تصور الملاحم البطولية)) وبهذا ((أفلتتْ الثقافة الشعبية من هيمنة الثقافة الرسمية)) ولأنّ المؤلف اهتم بظاهرة التواصل الحضارى لشعبنا (وليس الانقطاع الحضارى كما حدث لشعوب عديدة) لذا تناول فى أكثر من فصل دور الفن فى مصر القديمة. ولم تكن مصادفة أنْ ينفض محمود مختار تراب الزمن ليقول (أنا حفيد الفنان المصرى القديم) وحتى أبناء الحرف التقليدية (وأغلبهم من الأميين) أبدعوا ((بعض آيات الجمال من خامات البيئة وفق التقاليد المتوارثة منذ آلاف السنين))
عندما دعته هيئة قصور الثقافة للمشاركة فى مؤتمر حول (حاضر ومستقبل الحرف التقليدية) كتب عزالدين نجيب بحثـًا عرض فيه الداء والدواء. أما الداء فهو عدم اهتمام وزارة الثقافة بالحرف المصرية التراثية. وبعد أنْ قدّم بحثه فوجىء باتصاليْن أحدهما من أمين عام المؤتمر، والثانى من مدير مديرية الثقافة بالإقليم يطلبان منه حذف فقرات النقد الموجهة للوزارة من البحث أو كتابة بحث آخر، وعندما رفض تم استبعاد البحث وصاحبه. مثال آخر عندما دعاه المجلس الأعلى للثقافة لإعداد ورقة عمل حول (الفنون التشكيلية والنهضة) وبعد أنْ أعدّ بحثه وسلمه للمسئول ذهب إلى الموعد المُحدّد فإذا بالقاعة خالية من المناقشين ومن الجمهور(شىء أشبه بمسرح العبث)
وفى الكتاب دراسة كتبها قبل يناير2011ركز فيها على التظاهرات الرسمية ذات الطابع الشكلى البحت. وتكرار إذاعة الأغانى المُمجّدة لضابط يوليو52ثم ينفض المولد. ورأى أنّ ذاك المثال يستدعى الجدل والحوار أو العمل الجماعى وبمراعاة أنّ المصريين نجحوا فى مشروعهم الخاص فى الغربة ((وهم يُواجهون أقسى التحديات وأصبحوا روادًا فى التفوق والعصامية)) أما سبب الإخفاق الجماعى ((أننا لم نعد يجمعنا مشروع واحد أو حلم لنهضة الوطن. والجماعة الإنسانية لا تصنع مشروعها أو حلمها بقرار من مسئول، بل تصنعه لحظات مصيرية عظيمة كالزلزال، تضع الأمة أمام خيار وحيد: أنْ تكون أو لا تكون)) وضرب مثالا بما فعله شعبنا فى ثورة برمهات/ مارس1919. وذكر أنّ الديمقراطيات العظيمة هى التى صنعتْ الدول العظيمة حيث حق الاختلاف. وأنّ الحقيقة ليست فرضًا وحيدًا أو حكرًا أبديًا ((وكذلك السلطة وكرسى الحكم. فلا يضير الحزب الحاكم أنْ يجلس قادته فى مقاعد المعارضة)) (مبدأ تداول السلطة)
وفى البحث الذى قدّمه لمؤتمر الفنون التشكيلية بهيئة قصور الثقافة فى فبراير2008 أفاض فى الحديث عن (التغريب فى الفن التشكيلى) وهو هنا كانت لديه الشجاعة الأدبية لينتقد مُروّجى (التغريب) وعلى رأسهم وزير الثقافة فاروق حسنى. وأنّ ذاك التغريب الذى تبنـّته أجهزة الدولة الرسمية أدى إلى ((التخلى عن الكثير من أطر(الفن) وأنواعه وأجناسه التاريخية، لتحل محلها الأشكال التكنولوجية، غرائبية المضامين)) وانتقد (فى فبراير2010) وزارة الثقافة التى تـُنفق ملايين الجنيهات على صالونات الشباب والبيناليات الدولية وورش العمل المقامة للتجريب كل عام. وباسم (التجريب) يتم (تسفيه كل شىء : من القيم الجمالية حتى القيم المعنوية والأخلاقية) وإذا كانت الدولة (ممثلة فى وزارة الثقافة) تـُشجّع المُعادين للقيم الجمالية والأخلاقية، فإنّ هؤلاء الشباب ((سيُشكلون على شاكلتهم أجيالا أخرى قادمة. بما يعنى أنّ الدولة تـُضيّع المستقبل كما ضيعتْ الحاضر. وأنّ ذلك يتحقق الآن بالفعل)) وضرب أمثلة من تلك الأعمال التى فاز بها البعض (الجائزة الكبرى مائة ألف جنيه) رغم مستواها الفنى الردىء وتوجهها اللا أخلاقى. وذكر أنّ تلك الأعمال التغريبية (غير الفنية وغير الأخلاقية) تابعة لقناعات وزير الثقافة، وأضاف ((أدرك أننى بما أكتبه أمثل الصوت النشاز وسط جوقة المزامير. لكننى أدرك كذلك أنّ ما أقوله هو صوت الصامتين غير المُتكيفين، وهم الأكثر عددًا وأنّ صمتهم- رغم سلبيته- لا يخلو من حكمة مصرية تقول إنّ دوام الحال من المُحال))
وفى 2010انتقد المنظومة السياسية لنظام مبارك لأنّ الدولة ممثلة فى وزارت التعليم والثقافة والإعلام والشباب وفى المؤسسات الجامعية والبحثية وغيرها استقالتْ من مسئوليتها عن بناء المواطن فكريًا وثقافيًا وذوقيًا)) وفى مقابل ذاك الانسحاب كان الفراغ الثقافى الذى سدّ مكانه ((الهوس الكروى والشطط الدينى والتفكير الخرافى)) لذا فإنّ ((تخلى الدولة عن هذه المسئولية يُعد إهدارًا للثقافة الشعبية)) لأنّ المقابل ((تهديد لمستقبل مصر)) وألقى اللوم الأكبر على وزارة الثقافة التى فشلتْ عبْر أكثر من 20سنة ((فى إنتاج منشط ثقافى مؤهل للعمل مع الجمهور عبْر قصور الثقافة وقطاعات الوزارة المختلفة)) وبالتالى ((لا حاجة للحديث عن رسالة ثقافية ليس لها وجود)) أما عن دور المثقفين فإنّ أغلبهم ((دخلوا حظيرة المؤسسة)) وأكلوا عسلها عبْر المناصب واللجان والجوائز والسفريات والمهرجانات. فكانوا فى الواقع ((مثل الدولة يستقيلون من دورهم التاريخى)) ويواصل نقده لأجهزة وزارة الثقافة فتحدّث عن قصور الثقافة التى هى فى أغلبها (أبنية عاجزة عن استقطاب الجماهير والتفاعل معهم) فتكون النتيجة ((أنشطة مظهرية جوفاء يغلب عليها الطابع المهرجانى أو الشعبوى))
وإذا كان الفنان عزالدين نجيب انتقد المحسوبين على الثقافة المصرية فى كتاباته قبل يناير 2011، لذا يكون نقده لهم متسقــًا مع موقفه المبدئى وهو ينقدهم بعد ذاك التاريخ وهو ما فعله فى دراسته عن الثقافة والسلطة من عبدالناصر إلى مبارك. وعن المتحولين من تأييد مبارك إلى التظاهر بتأييد الثورة كتب أنهم اكتسبوا القدرة على ازدواجية الخطاب بين إرضاء السلطة وإرضاء الرأى العام. وكما استفادوا أيام مبارك الذى مدحوا حكمه، استفادوا بالثورة التى أدانته، فمنهم من تولى رئاسة مكتبة كبرى تم تغيير اسمها لتواكب المرحلة الجديدة. وكتب عن الناقد (ج. ع) الذى قبل منصب وزير الثقافة فى حكومة أحمد شفيق وبمراعاة أنه ظلّ فى حظيرة فاروق حسنى لعدة سنوات فكان مصيره أنْ ((خسر الماضى والمستقبل)) أما عن الفنانين الذين يعملون فى صمت مع مرارة البؤس والنسيان بعد الموت، فكتب عن الفنان الذى حجز المستشفى جثمانه حتى يُسدد أهله نفقات علاجه. وعن الفنان الذى تعرّض للضرب والصدمات الكهربية بمستشفى الأمراض النفسية إلخ كما كتب عن غيرهم فى كتابه المهم (فنانون وشهداء)
وكما اهتم بالفنانين التشكيليين اهتم بالحرفيين ولذا كوّن لهم جمعية أصالة للحرف التراثية. وبعد أنْ تم وضع حجر الأساس لمدينة الحرف بالفسطاط تأتى كارثة تسليم المشرع للأمير تشارلز مقابل عدة ملايين من الدولارات (لا أحد يعرف دخلوا جيوب مَنْ مِن المسئولين المصريين) وتكون المأساة/ الكارثة أنّ الأمير الإنجليزى اشترط فى العقد أنْ يتولى (هو) ومن معه من الأجانب تدريب الحرفيين المصريين ((أحفاد شيوخ الحرف بالقاهرة التاريخية)) وفى النهاية ((لا طالتْ أيدى الحرفيين المصريين مال الأمير. ولا طالت الوزارة خبرات ذات قيمة. وما حدث هو إجهاض مشروع مدينة الحرف)) وهو المشروع الذى تبنته جمعية أصاله وسرقته الوزارة وسلمته للأمير الإنجليزى وهو ما كتب عنه كثيرًا المؤلف قبل وبعد يناير2011. إنّ شرط الأمير تشارلز أنْ يأتى أجانب لتدريب الحرفيين المصريين على (تراثهم) أشبه (تمامًا) بالاعتماد على راعى غنم لتعليم الزرّاع الزراعة، وهكذا كانت تدار مصر أيام مبارك. ولوعيه بتراث مصر الحضارى وخبرة جدودنا المصريين القدماء سواء فى الحرف أو فى المعمار كتب ((أرى أنّ مصر القديمة هبة الفنان الذى صاغ محتوى الرسالة الحضارية بحسه العبقرى وأهداها للخلود. وأتساءل: ماذا كان يمكن أنْ يصبح عليه شأن الفن فى مصر الآن لو لم تتكالب عليها موجات الغزاة الأدنى تحضرًا منها؟)) وربط بين ((ولاء التلميذ للأستاذ الأجنبى وصحوة الهوية المصرية تعبيرًا عن عبق المكان وحس التاريخ)) وعن الذين يدّعون أنّ عبودية الحاكم مستمدة من مصر القديمة، كتب أنّ هؤلاء تغافلوا ((النصوص المُسجّلة بالهيروغلفية وقامت على تقديس قيم العدل والحرية والمسئولية عن فعل الإنسان ومحاسبة الحاكم وتنظيم العلاقة بينه وبين المحكومين. وكذا النصوص التى سجّلتْ الثورات الشعبية)) وكتب أيضًا ((إنّ النظرة السطحية للتاريخ المصرى القديم لم تـُدرك الفرق بين العقيدة الدينية التى أعطتْ القداسة للملك باعتباره رمزًا للآلهة على الأرض وبين الطبيعة النهرية المتحضرة فى شخصية المصرى والمرتبطة بالعمل والخير وبناء الحضارة وجميعها لا تتحقق بغير الحرية))
وفى الجزء الأخير من الكتاب بعض النماذج من الحوارات التى تمتْ مع المؤلف مثل الحوار الذى أجراه معه أ. ماهر حسن وفيه تلخيص لمسيرة الفنان عزالدين نجيب النضالية. والمعارك التى خاضها مع مؤسسات الدولة لدرجة تحطيم مرسمه واعتقاله أكثر من مرة. وفى رده على سؤال حول إمكانية وصول جمال مبارك للحكم قال ((ربما أختلف مع من يقولون أنّ وصول جمال مبارك إلى السلطة هو أمر حتمى، إلاّ إذا كان النظام يتمتع بقدر هائل من الغباء، لأنه يرى حجم الرفض على مستويات الشعب والنخبة معًا، فلم يعد سوى المستفيدين القريبين، هم من يؤيدون وصوله للحكم، وهذا هو التطور الطبيعى: إننا كل يوم نزداد تبعية، سواء للمؤسسات (العالمية) أو للهيمنة الأمريكية)) ذاك ما قاله عام 2008وهو ما يدل على صلابة موقفه. وأنه لم يُغيّر رؤاه المنحازة للجماهير ضد السلطة الباطشة، ولذا تعاملتْ معه تلك السلطة على أنه من (الأعداء) فكان مصيره إما الاعتقال أو التجاهل التام لتاريخه الثقافى والنضالى (من مواليد 30/4/1940) فلم يحصل على أية جائزة من جوائز الدولة، بينما نالها كثيرون أقل منه موهبة وعطاءً للثقافة وللوطن، ولكنهم امتلكوا (موهبة) التزلف والتمسح فى الحاكم والسير فى ذيله. ورضوا لأنفسهم الدخول فى (حظيرة) وزارة الثقافة كما صرّح بذلك وزيرها (فاروق حسنى) أكثر من مرة.
***