القاهرة 11 اغسطس 2015 الساعة 10:04 ص
كنا أنا والصديق الشاعر محمد أبودومة نستقبل الشعراء العرب الذين يستضيفهم معرض القاهرة الدولي للكتاب، وكان محمود درويش واحدا من أبرز نجوم هذه الفاعلية الكبرى، يحرص على الحضور واللقاء بالشعراء والاستماع إلى جديدهم، وكان يحب السهر حتى ساعات الفجر الأولى، كان مفتونا بمصر وشوارعها ونيلها وصخبها، وكانت له ذكريات كثيرة فيها من سنوات شبابه الباكر، كان يحدثنا عن حبه الأول في القاهرة، حب غامض لا تستطيع أن تقف على تفاصيله مهما طالت كلماته عنه، لكنه كان يشعر بحنين غريب إليه، وكان يقول : هل لو مشيت في الشارع الجلاء يمكنني أن أقابلها مصادفة؟
قلت له مرة : نحن نحتاج إلى الذكرى ربما أكثر من احتياجنا إلى كينونتها المتحققة، لكنه كان غارقا في الأسى حتى الثمالة.
كانت مصر بالنسبة المرفأ الآمن لروحه المؤرقة، وكان يكفيه أن يجلس في شرفة الفندق المطل على النيل بالساعات الطويلة وكأنه في حضرة من يهوى.
مرة قال لي أنت تكثر في شعرك من التدوير العروضي فاحذره، الغريب أنه هو نفسه مدور عروضي كبير، جملته الشعرية ربما تأخذ منه القصيدة كلها، حتى أنك لتتساءل كيف يلقي شعره بلا استراحة موسيقية لالتقاط الأنفاس؟
قلت له مرة : صوتك فيه شبه من صوت جمال عبد الناصر؟ اندهش جدا لهذه الملاحظة التي أسعدته كثيرا حتى أنه ظل لفترة طويلة يسأل أصدقاءه : هل صوتي يشبهه حقا؟
وكان يعجبه إلقائي للشعر.
في يوم شديد الحرارة مثل يومنا هذا، في التاسع من أغسطس منذ سبع سنوات فارقت روحه جسده العليل، ليفتح لشعره باب الخلود على مصراعيه.
***
في مصر
شعر : محمود درويش
في مصر
في مصرَ، لا تتشابَهُ الساعاتُ...
كُلُّ دقيقةٍ ذكرى تجدِّدُها طيورُ النيل.
كُنْتُ هناك. كان الكائنُ البشريُّ يبتكرُ
الإله/ الشمسَ. لا أحَدٌ يُسَمِّي نفسَهُ
أَحداً. ((أنا اُبنُ النيل – هذا الاسم
يكفيني)) . ومنذ اللحظة الأولى تُسَمِّي
نفسك ((ابن النيل)) كي تتجنَّب العَدَم
الثقيل. هناك أحياءٌ وموتى يقطفون
معاً غيومَ القُطْنِ من أرض الصعيد،
ويزرعون القمحَ في الدلتا. وبين الحيِّ
والمَيْتِ الذي فيه تناوُبُ حارسين على
الدفع عن النخيل. وكُلُّ شيء عاطفيٌّ
فيك، إذ تمشي على أطراف روحكَ في
دهاليز الزمان، كأنَّ أُمَّكَ مِصْرَ
قد وَلَدَتْكَ زَهْرَة لُوتسٍ، قبل الولادةِ،
هل عرفت الآن نفسَكَ؟ مصرُ تجلسُ
خلسةً مَعَ نفسها: ((لا شيء يشبهني))
وترفو معطفَ الأبديَّة المثقوب من
إحدى جهات الريح. كُنْتُ هناك. كان
الكائنُ البشريُّ يكتب حكمة الموت / الحياة.
وكُلُّ شيء عاطفيٌّ، مُقْمِرٌ ... إلاّ القصيدةَ
في التفاتتها إلى غدها تُفَكِّر بالخلود،
ولا تقول سوى هشاشتها أمام النيل.