القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 11:13 م
• شِعريَّةُ السَّرديَّاتِ الحَيَاتيَّةِ المَعِيْشَةِ فى دِيوَانِ: عِيد النَّسَّاج
يأتى دِيوانُ: (عِيد النَّسَّاج)، لمحمَّد عيد إبراهيم (1955- )، بعدَ مَرْحَلةٍ منْ التَّجريبِ الشِّعرى الخاصِّ، بَدَأهَا بديوانِهِ: (طَوْر الوَحْشَة)، عام: 1980، وَفيْهَا أرْسَى مَلامحَ خِطابٍ شِعرى يقومُ على تثويْرِ بنيَةَ الخِطابِ الشِّعرى؛ عَبْرَ تفجيْرِ أنظمَتِهِ التَّركيبيَّةِ، وَإقامَةِ خِطَابِهِ الخّاصِّ على شَظَايَا عَوَالِمَ لغويَّةٍ مُهَدَّمَةٍ، و" تشظِّى الأسلوبِ، والتَّفتيتِ، والانقطاعَاتِ، والهَذيَانِ، وتحطيمِ التَّركيبِ اللغوى المألوفِ، وَحَذْفِ الكثيرِ منْ عناصِرِ الجُملةِ، وَالإبقَاءِ على شَظَايَا نحويَّةٍ مِنْهَا؛ وبالتَّالى إحْدَاث التَّشتيتِ الدَّلالى، وَالتَّوقُّفِ أطْوَل أمَامَ بِناءِ الخِطابِ، ثمَّةَ احْتفاءٌ وَاضِحٌ ببنيَةِ التَّشظِّى، وَبكِمْيَاءِ اللغَةِ، وَبآليَّةِ الكُولاجِ، وَبالحَدَاثةِ الدَّاديَّةِ، وَهَذا الأدَاءُ يقودُ إلى تقدُّمِ الحُضورِ الشَّخصَانى لِلغَةِ؛ تشكيلاً وَإيقاعًا، على إنتَاجِ الدّلالاتِ، فى خِطابِ محمَّد عيد إبراهيم، تقدُّمًا لافتًا، يُميِّزُ خِطابَهُ عنْ بقيَّةِ شُعرَاءِ جِيلهِ، "(1)
وفى دِيوانِ: عِيد النَّسَّاج تتبدَّى ظاهرَةٌ لافتةٌ فى خِطابِ عِيد الشِّعرى؛ تتمثَّلُ فى تقدُّمِ الحضورِ الإنسانى على الحضورِ اللغوى، وَيُجسِّدُ الحضورُ الإنسانى حفاوةٌ وَاضِحَةٌ بالشَّخصى وَالمَعِيشِى وَبسرديَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ بتفاصِيلِهَا الحَيَّةِ الدَّقيقَةِ.
يحضُرُ الشَّخصى وَاليومى وَالمَعِيشى على نَحْوٍ كثيفٍ فى شِعريَّةِ القَصِيدِ النَّثرى، مُنذُ عِقديْنِ؛ لاسْتعَادَةِ إنسانيَّةِ الإنسَانِ؛ الَّذى سَحَقتْهُ نظريَّاتُ البنيويَّةِ وَمَا بعدَهَا، كمَا سَحَقتْهُ جَحَافلُ العَوْلمَةِ المُتوحِّشَةِ، فى سَعْيهَا الضَّارى لِسَحْقِ الهُويَّاتِ وَالمَلامِحِ الخَاصَّةِ لِصَالحِ مَشْروعِهَا الاسْتِعْمَارى الأوْحِدِ.
تتبدَّى سَرديَّاتُ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، وَسَرديَّاتُ التَّاريخِ الشَّخصى، فى خِطابِ: عِيد النَّسَّاج، عَبْرَ سَرْدٍ بَصَرى شِفَاهى، يتوسَّعُ فى تفاصِيلِهِ الدَّقيقَةِ، وَتحضُرُ فيْهِ مَشَاهِدُ الحَيَاةِ اليوميَّةِ وَالواقِعِ المَعِيشِ على نَحْوٍ لافِتٍ، يَمْتلِكُ السَّاردُ فيْهِ عينًا لاقطةً، وَمِنْهُ قولُهُ فى نصِّ: المَرْأة وَالكلْب:
" فى الحَديقَةِ، يمشِى يوميًّا، عِنْدَ تنفُّسِ الصَّباحِ، رَجُلٌ وَكلبٌ وَامْرَأةٌ. الرَّجلُ طويْلٌ، ليْسَ طويلاً بالضَّبطِ؛ بلْ يميلُ إلى الطُّولِ، بكتفيْنِ مُعَضَّلتَيْنِ، أقْرَعُ، وَمُؤخّرَة دبَّابَة، وَالكلبُ ضَخْمٌ نقيض العَادَةِ، "بيتبول دوج" أوْ الألمانى الفَجُّ العنيفُ. أمَّا المَرْأةُ فقصِيْرَةٌ نِسْبيًّا، هيفاءُ، مُدْبِرَةٌ، عكسَ الرَّجُل؛ فمؤخرتُهَا مُنْسَابَةٌ سَيَّالةٌ مَسْحُوبَة .."(2)
وَمِنْهُ، كَذلكَ، قولُهُ، فى نصِّهِ: بغداد 1975:
"على خُطى بغدادَ أمْشِى، حَرٌَََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََسَخيْفٌ، 65 دَرَجَةً، تُلقِى سَعِيْرًا بحِجْرِكِ، وَفى ظَهْرِكَ خِنْجَرٌ رَطْبٌ، وَجَنْبَ الوزَارَتِ جَنَّةٌ، أوَّلُ عَهْدِى بالتَّكييفِ، مِنْ باعَةٍ فى الشَّوارِعِ أشْتَرِى المَاءَ، بالثَّلجِ وَرَائحَةُ الوَرْدُ فيْهِ .."(3)
وَعلى مِحْورِ الأدَاءِ الشِّعرى لسَرْديَّاتِ التَّجربَةِ تتبدَّى - على نَحْوٍ وَاضِحٍ - جَمَاليَّاتُ المَشْهَدِ، وَالصُّورَة البَصَريَّة، وَشِعريَّة التَّقريْرِ، وَيلتصِقُ الأدَاءُ الشِّعرى، على مِحْورِ اللغةِ، بحَالةِ المَشْهَدِ وَلُغتِهِ اليوميَّةِ البَسِيطَةِ وَفضَاءِ الرُّؤيَةِ اليوميَّةِ، كمَا فى نصِّهِ: عبد المقصود عبد الكريم، وَمِنْهُ:
"صُورَةٌ قديمَةٌ، عُمْرُهَا 40 عامًا، يبدو فيْهَا عبدُ المقصود عبد الكريم، أوَّلَ يميْنٍ، مُتأثرًا للغايَةِ، وَهُوَ يأكلُ سندوتشَ، وَيَدَاهُ مَعْقودَتَانِ على حِقويْهِ منْ الأمَامِ، بنصْفِ اللفَّةِ، يُمْنَى على اليُسْرَى، وَجْهُهُ مِثلُ نُجُومِ مُطْربِى "البلوز" فى خَمْسِينيَّاتِ أمريكا، بشَعْرٍ مُهوَّشٍ كثيْفٍ، وَمَلامِحَ غاضِبَةٍ ثائرَةٍ، مَعَ نظَّارَة وَاسِعَةٍ، فَوْقَ شَاربٍ كثٍّ غليظٍ كانَتْ البَنَاتُ تخافُ مِنْهُ أيَّامَ الجَامِعَةِ، وَتَحْتَ إبطِهِ اليُسْرى كتابٌ سَمِيْكٌ.
" كُنَّا ثلاثَةً، فى الصُّورَةِ، أنّا الثَّانى، على اليَمِيْنِ أيضًا، وَيَسَارى فَتَاةٌ؛ تلْبَسُ شارلستونَ، تَحْتَ بلوزَةٍ باهِتَةٍ، لا أدْرِى مَا لَوْنُهَا؛ فالصُّورَةُ أبيضُ وَأسْوَدُ، شَاحِبٌ طَرَفُهَا .."(4)
وَيُشدِّدُ الأدَاءُ الشِّعرى هُنَا على شِعريَّةِ المَشْهَدِ، وَفوتوغرافيَّةِ السَّرْدِ الشِّعْرى، فى رَسْمِ لوْحَاتٍ سَرديَّةٍ شَديدَةِ الدِّقَّةِ، بسَرْدٍ بَصَرى موضوعى أقرَب إلى الأدَاءِ الحِيَادى الوَصْفى، وَيقترِبُ البنَاءُ الشِّعرى هُنَا منْ بناءِ اللوحَةِ حِيْنًا، وَمِنْ بنَاءِ اللقطَةِ السِّينمائيَّةِ حِيْنًا آخر، وأحيانًا يقتربُ من شعريَّةِ الحكاية كمَا فى نصِّهِ: رُكبتاى فى السَّطرِ الأخِيْرِ كالمَرَقِ، وَمِنْهُ:
"كِدْتُ أنْ أهجمَ اليومَ على النِّسَاءِ بالبَاصِّ، خَاصَّةً تِلكَ الطَّويلَة مُدَمَّكةَ الإليتيْنِ، ذَاتَ الحِجَابِ، حِيْنَ اقتعدَتْ مَحَلَّ العَجُوزِ الَّذى اسْتبدَلَ مَكانَهُ جَنْبَ الشُّباكِ، وَرَاحَ فى النَّومِ، قبلَمَا يتحرَّكُ البَاصُ فى عجِيْجٍ ..
كَانَتْ المَرْأةُ فى زَاويَةِ 45 دَرَجَةً يميْنَ الكُرسِى المُوَازِى لعينِى، برُبْعِ الإليَةِ اليُسْرَى مَدْلُوقًا فَائِضًا عَنْ حَاجَةِ الكُرْسِى ..
وَمِنْ النَّصِّ ذَاتِهِ:
وَظَلَّتْ امْرَأةُ البَاصِ شَاخِصَةً، وَتَرْفَعُ ذِرَاعيْهَا أحْيَانًا فتمسكُ الكُرْسِى الَّذى أمَامَهَا، حتَّى ينشدَّ الثَّديَانِ وَيَجْأرُ الدِّيكانِ منْ حَبْسَةِ البلوزَةِ؛ فتتضخَّمُ الحُمَّى "(6)
وَنظرًا لهيمنَةِ الوَعْى بتفاصِيْلِ الوَاقعِ المَعِيشِ، وَبالتَّفاصِيْلِ الشَّخصِيَّةِ، تُهيمِنُ شِعريَّةُ السَّردِ على الأدَاءِ الشِّعرى، وَقدْ يتغلَّفُ المَبْنى الحِكائى، بغُلالاتٍ مَجَازيَّةٍ شفافَّةٍ – عَبْرَ إقامَةِ فجَوَاتٍ سَرديَّةٍ مَحْسُوبَةٍ – وَهَذِهِ الغُلالاتُ المَجَازيَّةُ لا تحْجُبُ تداوليَّةَ الأدَاءِ الشِّعرى الشِّفاهى، ومنْهُ قولُهُ فى نصِّ: أخت المُلازم:
" نجوعُ إلى الحُبِّ، برغمِ أنَّ مُحَاولاتِنَا للحِفاظِ عليْهِ تفشلُ. وَهُوَ مَا دَارَ مَعَ أخْتِ صَدِيقى "المُلازمِ". فى مَسَاءٍ رَخِى، مَرَّةً، منْ سِنيْنَ، وَكُنَّا على بيرَةٍ، نروِى العُروقِ، يحكِى عَمَّا لا يُوافِقُ أقْدَارَ المُحِبِّيْنَ، ثمَّ بَكَى، مُبكِّرًا. عَمِلَتْ مُعَلِّمَةً 4 سَنَوَاتٍ إعَارَةً، بأرْضِ عُمَان، فى السَّبعينيَّاتِ، وَبَعْدَمَا عَادَتْ: تَمْلأُ فلوسُهَا طيَّارَةً ... عِمَارَةٌ فى ... غَيْر استديو خاصّ بمِصْرَ الجَديدَةِ، حَكَّ أنفَهُ! وَالحَقيقَةُ دُونَ ذلكَ بكثيْرٍ، بكثيْرٍ ... " (7)
وَفى الغَالبِ يَنْحُو الأدَاءُ اللغوى إلى التَّكثيفِ، فى التقاطِ تفاصِيْل دالةٍ فى بناءِ الخِطابِ الحِكائى، بلغةٍ دقيقةٍ، توصِيفيَّةٍ، كمَا فى قولِهِ فى نصِّ: أمس نِمْتُ مع القتيلةِ:
" زَوْجُ مَريْمَ منْ بقايَا الشُّعوبِ، حَشَّاشٌّ، مُطْرِبٌ شَعبى، مُروِّجُ مَمْنُوعَاتٍ، مُنافِسٌ لِلْعَطَنِ، لا يرعوِى أنَّهُ شَاذٌّ، وقاتلٌ أحْيَانًا . يَهْزَأُ أنْ تَنْضُوَ مَلابسَهَا، وينكحُهَا فى الفمِّ، تَسْتنِيْمُ. وَهى تُقبِّلُ مَاءَهُ، وَهى كالشَّرِّ تنغرِسُ فيْهِ، وَهى تُخفِّفُ نُورَهَا كيلا يخورَ على الفارغِ. تعطشُ منْ أفكارِهِ، وتحِنُّ إلى الكُتُبِ التى مَلأتْ بهَا أعْلى الأثاثِ فقدْ يتصدَّعُ ." (8)
ثمَّةَ رَسْمٌ لشخصِيَّاتٍ عديدَةٍ وَمُتباينَةٍ، من شخصِيَّاتِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، فى صورٍ سرديَّةٍ، أوْ سَرْدٍ مَشْهَدِى، أوْ أداءٍ شِعرى ينْحُو إلى الحِكائيَّةِ، يتبدَّى هذَا فى النُّصوصِ السَّابقةِ، كمَا يتبدَّى كذلكَ فى قولِهِ، فى نصِّ: عِيد النَّسَّاج:
"عِيدُ النَّسَّاجُ، فَحْلٌ منْ القُرَى، يكِدُّ نَهَارًا، وَيَسْهَرُ ليْلاً. شَارِبٌ كثٌّ مَقْسُومٌ مِثل هِتلرَ، وَشَفتانِ مُزمَّمتانِ كابْنِ أبى طالبٍ. وَجْهٌ وَامِضٌ، مِثْل أنور وجدى، ثمَّ انقلبَ مَعَ الأيَّامِ إلى نَمَطِ الرِّيحَانى." (9)
وَسَعْيًا إلى مُعَايشَةِ المَحْكَى المَعِيشِ، يلتحِمُ الخِطابُ بلُغةِ الوَاقعِ، مُشدِّدًا على شِعريَّةِ الأدَاءِ الشِّفاهى، وَهُو مَا يبدو فى لُغةِ سَرْديَّاتِ المَعِيشِ فى الخِطابِ، وَمِنْهُ قولُهُ فى نصِّ: عِيد النَّسَّاج:
"شحَّتْ الفلوسُ، (يعولُ 8 + 3)، وَلمَّا زادَ الضَّغطُ، مَالَ إلى صَاحِبِ دُكَّانٍ ليعملَ مَعَهُ."(10)
تكشِفُ هذِهِ النُّصوصُ عنْ حِرْصٍ وَاضِحٍ على بناءِ الشَّخصِيَّاتِ، وَحِرْصٍ على شَعْرَنةِ التَّاريخِ الشَّخصِى، وَمَشَاهِدِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ؛ عَبْرَ سَرْدٍ حِكائى يحتفِى بجزئيَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ، وتفاصِيلِهَا الصَّغيرَةِ الدَّالةِ، ويبدو النَّصُّ، فى هَذَا الأدَاءِ، وثيقَةً شِعريَّةً حَيَّةً، وَشهادَةً، وَمِرْآةً؛ تتمثَّلُ فيْهَا فصولٌ وَمَشاهِدُ من الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ، وشخوصٌ منْ مُدوَّنتِهَا الحَيَاتيَّةِ.
وَبهَذَا الأدَاءِ الشِّعرى القائمِ على شَخْصَنَةِ الخِطَابِ الشِّعرى، وَشِعريَّةِ الأدَاءِ السَّردى البَصَرى، وَسرديَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ بتفاصِيلِهَا الحَيَّةِ الدَّقيقَةِ، يُمَثِّلُ: عِيدُ النَّسَّاجِ، تحوُّلاً شِعريًّا وَاضِحًا فى مَسِيْرَةِ خِطابِ عِيْدِ الشِّعريَّةِ، وَإضَافةً إلى شِعْرِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ فى مَشْهَدِ القصِيْدِ النَّثرى الجَديدِ.