القاهرة 29 يونيو 2015 الساعة 01:04 م
لا أحد يشك فى أننا نعيش «عصر العولمة» العالم ـ كله هكذا ـ يقال أصبح أشبه بالقرية الكبيرة الواحدة حيث يعرف كل شخص ما يحدث للآخرين بل بمجرد حدوثه ويشترك الجميع فى التأثر بما يحدث فى أقصى أطراف العالم أو (القرية) ولدى الجميع فرصة التعبير عن عواطفهم أو آرائهم فيما يحدث.
هذا التطور نحو العولمة قديم بلا شك بل لعل تاريخ العولمة هو تاريخ الحضارة الإنسانية نفسها ما نحب منها وما نكره، فتبادل السلع والأفكار بين الأمم صورة قديمة من صور العولمة لكن كذلك الاستعمار تعمير القارة الأمريكية بالعمالة الوافدة من بلاد أخرى أملا فى تحقيق مستوى اعلى من المعيشة صورة من صور العولمة لكن قيام مجموعة من الأشخاص (يقال إنهم من بلاد آسيوية) بتفجير البرجين الشهيرين فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2001 فراح ضحية ذلك آلاف من الابرياء هو ايضا من قبيل العولمة (إذا صدقنا الرواية الرسمية).
لكن معدل العولمة ارتفع بشدة فى الاربعين سنة الأخيرة بما حفلت به هذه الفترة من ثورة الاتصالات والمعلومات وانتشار نشاط الشركات متعددة الجنسيات فى مختلف انحاء الأرض وأنا اعتبر نفسى شاهدا جيدا على هذا الانتقال من عصر إلى عصر إذ مازالت أذكر كيف كان الحال فى صباى وشبابى فيما يتعلق بطريقة الانتقال من بلد لبلد وبوسائل الاتصال بين شخصين يقيمان فى دولتين مختلفتين مقارنة بما أصبح عليه الحال الآن.
كان سفرى إلى انجلترا لأول مرة فى مطلع الخمسينيات بالباخرة التى استغرقت رحلتها عشرة أيام من بورسعيد إلى لندن ثم سافرت بعد ذلك بعشرين عاما بالطائرة ومعى ابنى الذى لم يتجاوز عمره حينئذ شهرين ولم ينقطع هو واخوته منذ ذلك الوقت عن السفر بالطائرة حتى زاروا من البلاد مازلت أطمع فى رؤيته.
كان أخواى اللذان ذهبا إلى لندن للدراسة فى أواخر الاربعينيات يرسلان إلينا خطابات بانتظام وكانت هذه الخطابات هى الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا لمعرفة اخبارهما فلا أذكر قط أن دق جرس التليفون فى بيتنا لنتلقى مكالمة من أيهما. كان الاتصال التليفونى بين مصر وانجلترا فى ذلك الوقت ممكنا تكنولوجيا لكنه كان بالغ المشقة والتكلفة لا عجب أن كانت لهفتنا على لقائهما بهذه القوة عندما عادا بالباخرة إلى مصر وسافرنا بالقطار لاستقبالهما على رصيف الباخرة بالإسكندرية.
إن ما حدث من تطورات منذ ذلك الوقت له بالطبع جاذبيته وسحره وهو قطعا من سمات العولمة لكن اتذكر من حين إلى آخر بعض الاشياء التى كانت تصلنا بالعالم الخارجى فى صباى وشبابى ولم تعد موجودة الآن برغم العولمة أو أصابها ضعف شديد مما جعلنى اتساءل عن حقيقة عصر العولمة هذا وعما إذا كان ما حدث هو فى الحقيقة عولمة بعض الاشياء دون غيرها وأن العالم قد اصبح قرية كبيرة واحدة فى تقوية بعض الصلات لكن على حساب صلات اخرى مهمة.
> > >
أذكر فى صباى ومطلع شبابى أشياء مدهشة لا أجد ما يقابلها الآن كانت الحياة الثقافية فى البلاد العربية أكثر توحدا والصلات فيما بين بلد عربى وآخر أشد قوة فى هذا الميدان مما هى الآن. كنا نسمع ونعرف عن أدباء وشعراء سوريا ولبنان أكثر مما نعرف الآن بل كنا نقرأ جدلا ومناقشات مستفيضة بين أديب مصرى وأديب سورى أو عراقى وكانت المجلات الثقافية المصرية تصل إلى اليمن أو المغرب أكثر مما تصل الآن هل يمكن أن نتصور أن الحياة الثقافية العربية قد أصبحت أكثر محلية وتقوقعت كل دولة عربية وانكفأت على نفسها فى عصر يفاخر بأنه عصر العولمة؟
شيء مماثل حدث فى معرفتنا بدول أخرى غير عربية. أذكر أننا فى مصر فى الأربعينيات من القرن الماضى كنا نسمع بكثرة أسماء عظماء الهنود مثل غاندى ونهرو ويتردد اسم شاعر الهند طاغور أكثر مما نسمع الآن بل كنا أكثر تأثرا بما نسمع من أخبارهم مما نحن الآن بما يمكن أن نسمعه عمن حل محلهم من زعماء أو أدباء.
تساءلت عما إذا كان يصلنا الآن حقا فى عصر العولمة معلومات أكثر بسرعة أكبر عن الهند مما كان يصلنا فى أيام نهرو أو عن الصين بالمقارنة أيام ماوتسى تونج أو اندونيسيا وغانا وكينيا والبرازيل.. الخ. هل يمكن أن يكون السبب أن ما يحدث فى هذه البلاد اصبح أقل أهمية مما كان يحدث منذ خمسين أو ستين عما سواء لنا أو لغيرنا؟ أى أن يكون السبب هو أنه فى الوقت أصبح فيه الحصول على هذه الأخبار ممكنا بسرعة أكبر أصبحت رغبتنا فى معرفتها أقل مما كانت؟
> > >
ثم تذكرت شيئا آخر مدهشا منذ قرن من الزمان فى 1914 قام بعض المثقفين المصريين الذين لم يكونوا قد تجاوزوا الثلاثين من العمر بتكوين جمعية ثقافية سموها:
«لجنة التأليف والترجمة والنشر» لتشجيع هذه الانشطة الثلاثة بالضبط: التأليف والترجمة والنشر. وقد ظلت هذه اللجنة طوال الأربعين سنة التالية تقوم بدعم تأليف الكتب العلمية والأدبية والتاريخية وتعهد إلى مترجمين عظام يجيدون اللغة العربية كما يجيدون اللغات الأجنبية بترجمة مؤلفات مهمة أوروبية وأمريكية وآسيوية فعرفت عدة أجيال من المصريين بأعمال جوته الألمانى وبرنارد شو الايرلندى وهكسلى الانجليزى وأندريه جيد وأندريه موروا الفرنسيين ومارك توين الأمريكى وتولستوى الروسى وطاغور الهندى واصدرت السلسلة الشهيرة التى كتبها هـ ج ويلز عن معالم تاريخ الإنسانية بلغة عربية رائعة وترجمة لكتاب الداعية الإسلامى الهندى أبى حسن الندوي: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين».. الخ. لقد تربى وتثقف جيلى على قراءة مثل هذه الأعمال فى الوقت الذى كنا نتعلم فيه لغة عربية بالغة الرقى من قصص وروايات كامل كيلانى الذى حبب إلينا التراث العربى والإسلامى وجعله يكتسب احترامنا مثلما كانت الكتب الاخرى تكسبنا احترام الكتاب الكبار فى مختلف انحاء العالم لماذا يبدو إذن أننا فى عصر العولمة الرائع الذى نعيش فيه الآن قد قلت معرفتنا بما يحدث فى الحياة الثقافية فى الخارج حيث لا تأتينا عنها إلا أخبار سريعة مبتورة أو أخبار شخصية مثيرة لكنها قليلة الصلة بمضمون أعمالهم أو ترجمات سيئة يقدم بها اشخاص لا يحبون أو لا يفهمون ما يقومون بترجمته وفى الوقت نفسه فقدنا القدرة على التعبير عن أنفسنا بلغة عربية صحيحة فضلا عن تضاؤل اهتمامنا بالتراث العربى والإسلامي.
هل تفسير ذلك هو أننا وإن كنا نعيش فى عصر العولمة فإنه فى الحقيقة عصر عولمة الاقتصاد وعولمة تسويق السلع وسرعة نقلها عبر مسافات طويلة دون ان تنتقل الثقافة بنفس السرعة ربما لارتفاع وزنها؟ نعم الأفكار والمعلومات تنتقل بسرعة أكبر بكثير من ذى قبل لكن أى أفكار وأى معلومات بالضبط؟ هل هى فى الاساس الأفكار والمعلومات التى تسهل عمليات البيع والشراء وتسويق السلع؟ إذا كان الأمر كذلك فإن النفع الناتج عن العولمة لا يبدو واضحا تماما لي.