القاهرة 24 مايو 2015 الساعة 12:03 م
في العام 1869، وكان فردريك نيتشه لا يزال شاباً في الخامسة والعشرين من عمره، وهو كان في الوقت نفسه قد تمكن من الحصول على وظيفة أستاذ استثنائي في جامعة بال، وذلك بعد فترة يسيرة من حصوله على الدكتوراه، كما كان قد بدأ ينشر بعض الدراسات والقصائد ذات البعد الرومانطيقي والفكري. وهكذا دخل نيتشه الحياة العملية، بجد واجتهاد، خصوصاً أنه إضافة إلى ذلك راح يدرّس ست ساعات أسبوعياً في مدرسة ثانوية. وهو، ما إن استقر في عمله وفي إقامته في بال، حتى حقق واحداً من أحلام صباه الفنية إذ قام بزيارة إلى الموسيقي الكبير الذي كان في ذلك الحين ماليء الدنيا وشاغل الناس ريتشارد فاغنر، في منزل هذا الأخير في بلدة تريبشن على ضفاف بحيرة «كاتركانتون». زاره أولاً كمعجب، لكنه سرعان ما صار صديقه - على رغم فارق السن - ودخل في حميمية حياته العائلية، الى درجة ان فاغنر عهد الى نيتشه بالإشراف على طباعة مذكراته. وفي ظل ذلك المناخ، الذي ازدوجت فيه لدى الفيلسوف الشاب مصادر إلهامه بين الأصول الإغريقية القديمة التي كان غارقاً فيها، وبين تأثيرات نظرة فاغنر الى التراجيديات القديمة والتاريخ الجرماني العابق بالأساطير التي كان معلم الموسيقى والفن الأوبرالي الكبير هذا يستقي منها ضروب إلهامه، ولد كتاب نيتشه الأول «ولادة التراجيديا». والحال أن تفكير نيتشه بالخطوط الرئيسة لكتابه الثوري هذا، تضافر في الوقت نفسه الذي كان فاغنر يلحن «غرام سيغفريد» تحية لزوجته كوزيما، ما يفترض بالطبع ان نيتشه وجد في اشتغال صديقه على موضوع يربط الحب بالأساطير الجرمانية بالتراجيديا الإغريقية، دافعاً يحركه لوضع دراسته. والحال ان نيتشه واصل التفكير بالكتاب ووضع مخططاته له، حتى بعدما تطوع الى جانب البروسيين للقتال ضد الفرنسيين في حرب العام 1870. وهكذا حين أطل عليه العام 1872 وقدم الفيلسوف الشاب، - أمام دهشة الجميع - ترشيحه لمنصب بروفسور فلسفة في الجامعة، كان قد أنجز «ولادة التراجيديا» ونشره مهدياً إياه بطبيعة الحال إلى صديقه الموسيقي ريتشارد فاغنر. والحال ان الكتاب شكل صدمة للأوساط الجامعية نتيجة مواقفه الحاسمة والمتطرفة، والتي ما كان يمكن ان تعجب، في ذلك الحين، أحداً غير فاغنر، خصوصاً ان خبراء الدراسات الإغريقية انتفضوا غاضبين معلنين ان هذا الكاتب إنما يفتري على الفكر الإغريقي ويحمّله أكثر مما يمكنه أن يحتمل فارضاً عليه من خارجه أفكاراً وفرضيات بالكاد يمكنها ان تلائم التراجيديا الحديثة. غير أن نيتشه لم يأبه لتلك الانتقادات طالما انه نال موافقة فاغنر على كل ما جاء في الكتاب. وهكذا إذ ساند فاغنر وزوجته كوزيما وبعض الأصدقاء المقربين، باكورة أعمال نيتشه، وقف ضد الكتاب طابور طويل عريض من الأساتذة والمفكرين. والحقيقة أنه كان ثمة، في «ولادة التراجيديا» ما يقلق أصحاب الأفكار الجامدة، طالما ان الكتاب لم يكتفِ، كما كانت جرت العادة، بأن يؤرخ أو يحلل نتاجات المسرح الإغريقي التراجيدي، بل ربطها بجذورها الميتافيزيقية والفلسفية، وحبسها ضمن اطار الصراع الأبدي بين نظرتين الى الوجود والمسرح والفكر: النظرة الأبولونية والنظرة الديونيسية، وكان هذا أمراً لا يغتفر بالنسبة الى جهابذة التعليم الجامعي في ذلك الحين. بل ان نيتشه لم يكتفِ بالتحليل العميق، فغاص انطلاقاً من وجهة نظر تقف ضد الرؤى الأبولونية التي كان يدافع عنها عالم راسخ مثل فنلكمان، مرجحاً كفة الرؤى الديونيسية التي تجعل من نزعة التشاؤم والشغف قطباً مركزياً في الأدب الإغريقي.
> وفي الحقيقة كان «ولادة التراجيديا» وفق تعبير مؤرخ فرنسي لحياة نيتشه «عملاً عصياً على التصنيف من إبداع أستاذ في علم الفلسفة جعل من نفسه فجأة فيلسوف أهواء وشغف». وهذا المؤرخ نفسه لا يفوته ان يقول ان «ولادة التراجيديا» كان حقاً، عملاً مقلقاً بالنظر الى ان «نيتشه بدلاً من أن يركز فيه على التفريق بين نشاطه الجامعي (في دراسة العلوم القديمة) وهواجس ثقافية وليدة لديه (موروثة من شوبنهاور ومستقاة من فاغنر في آن معاً)، اختار أن يخلط كل ذلك في مزيج متفجر». وهكذا نجد في هذا الكتاب «تصوراً سوداوياً متشائماً للوجود، موروثاً من شوبنهاور، وقد تجسد في صلب اليونان القديمة وسط صراع بين اندفاعتين طبيعيتين متناحرتين، يأتي التوتر الناتج من تناحرهما ليرسم الأطر المتحركة للإبداع الإنساني: وهاتان الاندفاعتان هما، هنا: ديونيسوس، سيد السكر والنشوة الاحتفالية، وأبولون، سيد الحلم والمظهر الفرداني الجميل». وهكذا يرينا نيتشه في هذا الكتاب كيف ان الفن، وبالتحديد التراجيديا الإغريقية، انما يجد نفسه مكلفاً وظيفة ميتافيزيقية، باعتباره الثمرة الأسمى المتولدة من التزاوج المتنافر بين قوتَي الطبيعة هاتين». وهنا يرى نيتشه ان الفن انما يأتي في مواجهة الرعب الناشئ عن غياب أي معنى للحياة، ليبرّر الوجود نفسه. والفن في هذا «يأتي في تعارض تام مع العلم الذي، منذ سقراط، لم يكف عن إفقار الثقافة الغربية بفعل حاجته الدائمة الى رفع الحجاب عن الحقيقة». ومن هنا يرى نيتشه انه، «في مواجهة الإفراط في التنظير للحداثة، نجدنا في حاجة حقيقية الى فن شامل يكون قادراً على إحداث تجديد تام في الثقافة التراجيدية في ألمانيا». وبالنسبة الى نيتشه ثمة اسم لهذا الفن، وهذا الاسم هو ريتشارد فاغنر.
> وللوصول الى هذا الاستنتاج يشرح لنا نيتشه في فصول كتابه كيف ان الفن «خاضع في الوقت نفسه للتأثير المزدوج لأبولون وديونيسوس، حيث ان تأثير أبولون يدعو إلى التأمل الجمالي لعالم متوهم ومثالي، عالم يأتي فيه جمال الأشكال محرّضاً على الهروب من طريق مبدأ الصيرورة. أما على العكس من هذا، فإن تأثير ديونيسوس، يدفعنا إلى أن نرى في الصيرورة هذه موقفاً تناقضياً: وهذا الموقف يتمثل في الشعور بحاجة لا تقاوم، إلى الخلق مدغومة بجنون مدمّر». وفي رأي نيتشه، فإن هذين التوجهين يتقاطعان مع «غرائز فنية موجودة في الطبيعة نفسها». ومن تقاطعهما أو تناحرهما هذا ولدت «التراجيديا الإغريقية». فبالنسبة الى الإغريقي كانت الصيرورة الأبولونية تعني تعويد ذوقه على كل ما هو «متوحش وقاس ومجهول» والحصول على معنى التوازن. ومن هنا فإن «الحس الأبولوني الخالص بالجمال هو الذي ولّد الأنساب الإلهية الأولمبية، من قلب نسب التيتان المظلم، بمعنى أن الفنون التشكيلية في ذلك الزمن إنما ولدت من ذلك المنبع المنير: ولدت كلها من رحم التأمل الهادئ والمجرّد في بعض الصور، حيث أتت كل صورة، في لغتها، مترجمة لعالم بصري معين. وعلى العكس من هذه الفنون التأملية، كان مصير الموسيقى التي تتجلى بصفتها إرادة للتعبير عن نشوة الفن وثمالته: وهكذا، نجد، في رأي نيتشه أن التراجيديا، تحت تأثير حلم أبولوني، وجدت طبيعتها الاحتفالية الصاخبة تتحول لترتدي سمات الكناية وذلك على يد رفاق ديونيسوس. وهكذا يخبرنا نيتشه كيف ان ديونيسوس، سيظل، وحتى مجيء يوريبيدس، العنصر الأساس والمؤسس في لعبة الفن الحقيقية. ذلك ان «جماليات يوريبيدس، المستلهمة من سقراط، تحمل الى التراجيديا بذرة مدمّرة...». وبهذا يكون نيتشه أوجد تصوّرين جديدين إضافيين في هذا العمل الاستثنائي: تحليل الأسرار الديونيسية لدى الإغريق، واعتبار سقراط في جذور الانحطاط الإغريقي، معتبراً إياه وللمرة الأولى مفكر الانحطاط الأول.
> إن هذا كله يفسر لنا بالطبع الدوافع التي جعلت غلاة دارسي الحضارة الإغريقية يهاجمون كتاب نيتشه هذا منذ صدوره، لكن الكتاب عرف طريقه إلى قرائه بقوة، بل كان العمل المؤسس للكثير من الكتب التالية التي أصدرها فردريك نيتشه (1844 - 1900)، ذلك الفيلسوف الألماني الذي أسس للحداثة الفكرية في القرن العشرين، وعاش حياة مجنونة متقلبة، ووضع العشرات من الكتب والدراسات التي لا تزال تُقرأ على نطاق واسع، بل تولد في كل مرة يعتقد فيها كثر أن نيتشه انتهى. ومن مؤلفات نتيشه المهمة «هكذا تكلم زرادشت» و»غروب الآلهة» و»ما وراء الخير والشر» و»إرادة القوة» وغيرها من أعمال تجعل منه أديباً وفيلسوفاً في الوقت نفسه