القاهرة 11 مايو 2015 الساعة 03:26 م
ربما كانت الطرائف "المحزنة" تحمل قدرا من مصداقية التعبير عن مؤشرات كانت على طريق النكبة العربية الأولي، منذ منتصف القرن الماضي تقريبا .. وصحيح أن السنوات واللحظات الأشد تعقيدا بأزماتها ، هي الأكثر استدعاء لضرورات تنشيط الذاكرة بالعودة إلي الماضي ، ومع مراعاة أن الماضي نفسه مفتوح رغم مرور الحقب والقرون .. وبامتداد تلك الحقب فإن العالم العربي هزم نفسه أكثر مما هزم أعداءه !!
والقصة تبدأ قبل سنوات من ذكرى النكبة العربية الأولى 15 مايو / آيار 1948، ولكن فصولها كانت على نفس المسار الخاص بقضية فلطسين، وهي إضافة تستدعي نفسها بكل طرافتها المثيرة للدهشة والتأمل ، وإن كانت كاشفة في جانب منها لصورة الأحوال العربية التي صاحبت عقد مؤتمر فلسطين في لندن سنة 1938 وكانت الدول العربية المستقلة ثلاث هي ، مصر والسعودية واليمن ، وكان الأمير محمد عبد المنعم رئيسا لوفد مصر ، ويساعدة على ماهر باشا ، ويرأس الوفد السعودي الأمير فيصل ، ويرأس الوفد اليمني الأمير سيف الإسلام أحمد ، ويروى الدكتور السيد أبو النجا ــ رحمه الله ــ وهو شاهد عيان، حين إستعان به الوزير السعودي الشيخ حافظ وهبة ليقوم بالترجمة : أن اللحظات الأولى من جلسة افتتاح المؤتمر الدولي ، شهدت احتجاج الوفد اليمنى على أن مكانه بعد الوفد السعودى ــ وكان بين المملكتين خلاف ــ وتدخل على ماهر شارحا للأمير سيف الإسلام أن ترتيب الوفود بحسب الحروف الأبجدية ، ولكنه لم يقتنع ، فتنازل الوفد المصري عن مكانه للوفد اليمني ،
وانتهت المشكلة ، وألقى وزير الخارجية البريطاني " إيدن " كلمته ، ورد عليه على ماهر باشا باسم الوفود العربية ، وفجأة وقف الأمير سيف الإسلام ، دون أن يدعوه أحد ، وقال : " أيها السادة ، إن الخلاف القائم بين الإنجليز والعرب ، سببه العفاريت !! " وكانت المفاجأة صادمة بالدهشة والحيرة والارتباك لأمين عام الوفد اليمني الدكتور أحمد فريد رفاعي ، ولكنه تصرف بسرعة ، وقف يتحدث كأنه يتولى ترجمة كلام الأمير ، وقال : " إن حسن النية كفيل بإزالة سوء التفاهم بين الإنجليز والعرب " وواصل سيف الإسلام كلامه : " إن العفاريت ألقت علىّ الطوب مرة ، فرددت في سرى ( قل هو الله أحد الله الصمد ) فجرت العفاريت وجريت في إثرها وأنا أقول ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) حتى اختفت " وهنا ترجم فريد رفاعي قائلا : " إنه مهما يكن من اختلاف وجهات النظر فإن على كل طرف أن يضع في اعتباره وجهة نظر الطرف الآخر ، لتلتقى النظرتان عند حل مشترك " . واستعد سيف الإسلام لكى يستأنف كلامه ، فنظر فريد رفاعى إلى على ماهر باشا ، وقال له : " أنا استنفدت كل ما عندى من اختلاقات فأسعفنى ياباشا " فقام على ماهر وربت على كتف سيف الإسلام راجيا أن يجلس ، ولكنه أبى وخرج غاضبا من المؤتمر ، وكان الصحفيون يقفون في الخارج ، وعندما رأوا الأمير يخرج مبكرا ، سألوا فريد رفاعى ، وكان معه ، عن السبب ، فقال " إن سمو الأمير يرفض أن يساوم على حقوق العرب " وظهرت الصحف البريطانية في الصباح وعلى صدرها هذا العنون " أمير اليمن لايقبل التفاوض في حقوق العرب " !!
• وبعد عشر سنوات.. كانت رائحة البارود بدأت تفوح على ربى فلسطين وتلالها، وقبل أن تبدأ العمليات العسكرية بين الجيوش العربية والقوات اليهودية ليلة 15 مايو / آيار 1948 كان واضحا أن الدول العربية تتقدم نحو ساحات فلسطين بخطى متثاقلة، وبحسابات خاصة تختلف أكثر مما تتفق، وعوالق شك في النوايا، وقبل كل هذا لم تكن الجيوش العربية تملك فكرة واضحة عن القوة العسكرية للدولة اليهودية، ولا حتى فكرة واضحة تنسق إستراتيجية عملها في فلسطين، وربما كان أسوأ أو أطرف ما يعبر عن الموقف والإستعداد العسكري العربي قبل الحركة في ميادين القتال، هو ما حدث قبل أسبوع من بدء القتال، في واقعة كانت أكثر تعبيرا عن الحالة العربية العسكرية وقتئذ، وهي من العلامات المثيرة للتأمل رغم طرافتها المحزنة :
• كانت اللجنة العسكرية لجامعة الدول العربية تستعد لعقد اجتماع برئاسة اللواء العراقي " إسماعيل صفوت " باشا ، الذي أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية ، وفي الصباح خرج " صفوت باشا " من فندق شبرد الذي يقيم فيه في القاهرة ، ليتريض قبل أن يحضر الاجتماع ، وبالقرب من الفندق ( وكان موقعه وقتئذ وسط القاهرة بالقرب من ميدان العتبة ودار الأوبرا القديمة قبل حريق القاهرة في 26 يناير 1952) وشاهد "الباشا" بجوار سور الأزبكية، مجموعة صغيرة من المارة يلتفون حول رجل يلعب معهم لعبة " الثلاث ورقات " ووقف القائد العام للجيوش العربية يشاهد ما يجرى ، ويبدو أن اللعبة أثارته فشارك فيها، وفي عشرة دقائق كان قد خسر كل ما معه من نقود 286 جنيها، ولم يكتف " صفوت " باشا بخسارة أمواله ، وإنما دخل في مشادة مع لاعب " الثلاث ورقات " وصلت إلى قسم بوليس الأزبكية ، وتعطل القائد العام للجيوش العربية عن حضور اجتماع اللجنة العسكرية، وحين وصل إليها متأخرا كانت تفاصيل حادثة النصب التي وقع ضحيتها قد سبقته إلى مقر الاجتماع !!
ودلالات الواقعة "الطريفة" وما سبقها من واقعة "العفاريت" لم تكن بعيدة ــ بالطبع ــ عن المؤشرات المبكرة للنكبة القادمة، وحين تلقت شعوب الأمة العربية صدمة الحدث الأكبر، وهو قيام دولة إسرائيل وسط العالم العربي وفي قلبه.
...............................