القاهرة 26 مارس 2015 الساعة 01:11 م
اعترف أني احترت ماذا أكتب هذا الأسبوع.. فهناك أكثر من حدث مهم يستحق التناول. وعلي رأس هذه الأحداث بالطبع القمة العربية التي تنعقد في شرم الشيخ بعد 48 ساعة من الآن. وتوقيع اتفاق المبادئ في الخرطوم حول سد النهضة بين الرئيسين السيسي والبشير ورئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين.
القمة العربية. وجدتني قد سبقت إلي الكتابة عنها تفصيلاً منذ وقت مبكر.
ففي مقال بعنوان "نهاية العرب" نشر في هذا المكان في 6 نوفمبر 2014 أي منذ نحو خمسة شهور. وإزاء تعاظم خطر الإرهاب الذي يمثله تنظيم "داعش" وتداعي دول الجوار العربي: تركيا وإيران وإثيوبيا علي العالم العربي وهو في أضعف حالاته. كتبت بالحرف الواحد أقول:
"لا أظن أن العالم العربي واجه خطرا أشد من هذا الخطر. ولا ظروفا تستدعي التوحد أكثر من هذه الظروف.. إنه ليس خطر داعش. لكنه خطر ما بعدها.. فهي مجرد أداة".
"ومع ذلك لم يتحرك أحد للدعوة إلي قمة عربية طارئة لمواجهة هذا الخطر. والتصدي لأطماع دول الجوار التي تتداعي إلينا كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها".
"ولا أحد تحرك للدعوة لتكريس القمة العربية العادية المقررة في مارس القادم لبحث هذه القضية. وأن تكون هي كل جدول الأعمال".
ولم أترك سوي أسبوع واحد يمر بعد هذا المقال. حتي عاودت الطرق علي الفكرة مرة أخري وهي ساخنة. وذلك في مقال بعنوان "سبعين الجامعة العربية" نشر في 20 نوفمبر 2014 دعوت فيه الجامعة العربية بمناسبة العيد السبعين لانشائها إلي أن تجعل من قمتها العادية في مارس 2015 "قمة الموضوع الواحد. وهو مستقبل النظام الاقليمي العربي. بدلا من قمة المائة موضوع التي تنتهي عادة بمائة قرار لا ينفذ منها شيء".
وختمت هذا المقال بأن الجامعة العربية "تستعد لبلوغ عامها السبعين في أدق وأحرج الظروف التي تمر بها. ويمر بها العالم العربي. وليس أمامها خيار سوي أن يكون هذا العام تدشينا لدور جديد نشط يضع أسس نظام إقليمي عربي قوي وقادر. أو أن يكون بداية النهاية للجامعة.. ونهاية العرب".
وما دعوت إليه قبل خمسة شهور. هو ما تقرر بعدها. إذ توافق الرأي العربي علي أن تتصدر قضية "الأمن القومي العربي" الذي هو جوهر النظام الاقليمي. جدول أعمال القمة المرتقبة.
وعندما أطلق الرئيس السيسي دعوته إلي تشكيل قوة عربية موحدة. كتبت في 26 فبراير الماضي و5 مارس الحالي مقالين حول هذه الفكرة. وكل التساؤلات المحتملة التي يمكن أن تحيط بها.
لا جديد - اذن - يمكن قوله حول القمة العربية. وعلينا أن ننتظر فقط لنري من سيحضر. ومن سيعتذر. ومن سيتعذر مجيئه. ومن سيوافق ومن سيتحفظ.
لقد دعا الرئيس السيسي إلي "قمة بلا خلافات" حتي ترتقي إلي مستوي التحدي الذي تواجهه الأمة العربية.. وذلك لا يتحقق. بين العرب بالذات. إلا بمعجزة.
***
أما وثيقة إعلان المبادئ حول سد النهضة. والتي تم توقيعها في الخرطوم بين قادة مصر والسودان وإثيوبيا.. فبصرف النظر عما تضمنته من مبادئ فلا يوجد ضمان قوي وأكيد للالتزام بها. إلا في حالتين لا ثالثة لهما:
الأولي - أن تتحول إلي معاهدة دولية تتضمن في صلبها نصا بعدم المساس. تحت أي ظرف - بالحقوق التاريخية للدول الموقعة عليها في مياه النيل.
الثانية - أن تشعر إثيوبيا بأن لها مصلحة حقيقية في احترام حقوق مصر المائية. سواء مصلحة إيجابية من خلال شراكة استراتيجية. أو مصلحة سلبية من إدراك أن هذه الحقوق تحميها في النهاية قوة ردع في حال أي مساس بها.
في دول العالم الثالث. لا يمكن الاعتماد في القضايا المصيرية التي تمس أمن وحياة الشعوب كقضية مياه النيل. علي الثقة فقط في قيادة. ولا الارتكان إلي حسن النوايا.
فلا توجد استراتيجيات ثابتة في هذه الدول لا تتأثر بتغير الأنظمة والحكام.. فكل نظام أو حاكم يأتي بتصوراته المختلفة.. بل إن توجهات الحاكم أو النظام الواحد يمكن أن تختلف في بداية الامساك بالسلطة عنها في منتصف فترة الحكم أو في نهايته. تحت ضغط مستجدات داخلية أو اقليمية أو عالمية.
إن إعلان المبادئ الذي تم توقيعه. يمثل فقط خطوة علي الطريق. وهو طريق طويل ومتعدد المراحل من المفاوضات حيث يسكن الشيطان دائما في التفاصيل.
وأي اتفاق سواء كان إعلان مبادئ أو معاهدة لا يتم التوصل إليه إلا عبر تنازلات متبادلة ولابد لكي يظهر إلي النور. أن يشعر كل طرف قدم تنازلا في نقطة ما. أنه حصل في مقابله علي ثمن في نقطة أخري.
صورة القادة الثلاثة عقب توقيع الاتفاق مفرحة. لكن في دول العالم الثالث. لابد من قراءة الواقع علي الأرض. وتشابكات المصالح وتعقيدات العلاقات والمؤثرات الاقليمية والدولية.
لا أشك في التزام مصر.. فحضارتها تضعها من حيث الالتزام واحترام تعهداتها في مصاف أكثر دول العالم تقدما.. وفي ذاكرتي صورة ثلاثية قديمة. لقادة مصر وسوريا وليبيا: السادات وحافظ الأسد ومعمر القذافي بعد توقيع اتفاقية الاتحاد العربي بين الدول الثلاث.. ولم تكن مصر هي التي نقضتها بعد ذلك.
***
علي أن هناك ما شد انتباهي. واعتبرته لا يقل. بين أحداث هذا الأسبوع. عن القمة العربية المرتقبة. أو توقيع وثيقة إعلان المبادئ حول سد النهضة. بل ولا ينفصل عنها.
لقد أدلي الرئيس الأمريكي أوباما. بما أظنه أخطر اعترافين يمثلان إدانة بالغة للسياسات الأمريكية. سواء في عهد سلفه جورج بوش الابن. أو في عهده هو شخصيا.
الاعتراف الأول. هو قوله. إن تنظيم "داعش" نشأ نتيجة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وهي نتيجة مباشرة. لكنها "غير مقصودة"!!
مضمون الاعتراف ذاته ليس جديدا فرجل الشارع البسيط في أي دولة عربية يدرك هذه الحقيقة. ليس بالنسبة لداعش فقط ولا بالنسبة لغزو العراق.. بل يدرك يقينا أن أمريكا هي "أم الإرهاب الدولي" وهي صانعته ومحركته وتستخدمه كرأس حربة لتدخلها في شئون ومصائر الدول الأخري.
لكن قيمة الاعتراف. أنه يصدر رسميا - ولأول مرة - علي لسان الرئيس الأمريكي نفسه.
وإذا كان البعض قد اعتبر هذا الاعتراف إدانة للغزو. وللرئيس الأسبق جورج بوش الابن الذي قاده. فإن أوباما قد أدان نفسه - ربما دون أن يقصد أيضا - باعترافه الثاني.
لقد أعلن أوباما في سياق نفس التصريحات التي أدلي بها لموقع "فايس" الأمريكي أن "التحالف الدولي للحرب علي داعش سيدفع التنظيم بعيدا إلي خارج العراق".
وأضاف أوباما مبررا ذلك. بأن "التحدي المتمثل في ايقاف التطرف لن يحدث ما لم تكن هناك حلول سياسية للصراعات الداخلية التي تؤثر علي العديد من بلدان الشرق الأوسط".
وهذا الاعتراف الثاني. غاية في الخطورة.. وأوباما يكرر به نفس ما فعله بوش. ويكشف في نفس الوقت تناقضات السياسة الخارجية الأمريكية.
إن أوباما يقرر بذلك. أن هدف التحالف الدولي ليس القضاء علي "داعش" وانما دفعها خارج العراق.. دون أن يقول: إلي أين.. وكأن خارج العراق هذا فضاء سرمدي لا حياة فيه ولا دول ولا شعوب.. أي أن المسألة كلها تصدير الأزمة ونقل الخطر إلي دول أخري.
لقد غزا بوش أفغانستان لضرب تنظيم القاعدة فخرج التنظيم منها لينتشر ويتمدد بارهابه حتي وصل إلي المغرب مرورا باليمن والعراق وغيرها. ويصبح أشد خطرا.
وحين يدفع أوباما تنظيم داعش إلي خارج العراق. فسوف يبحث التنظيم لنفسه عن ملاذات في دول أخري مثلما الحال الآن في ليبيا وغيرها ليهدد كل الدول المجاورة. ويخلق ظروفا تستدعي الحاجة لتدخل أجنبي جديد.
ثم كيف يري أوباما أنه لن يتم وقف التطرف ما لم تكن هناك "حلول سياسية للصراعات الداخلية التي تؤثر علي العديد من بلدان الشرق الأوسط" بينما الواقع يؤكد أن أمريكا هي صاحبة الدور الأكبر دائما في اشعال هذه الصراعات. أو استثمارها وتوجيهها لصالح أهدافها؟!