القاهرة 23 يناير 2015 الساعة 05:28 م
كانوا كثراً أولئك المثقفون الذين وضعوا، خلال الثلث الأول من القرن العشرين على الأقل، آمالهم كلها في الاشتراكية، بخاصة في الثورة الروسية حين اندلعت في عام 1917. بالنسبة إليهم كانت هي، بامتياز، الثورة التي «ستقلب العالم رأساً على عقب»، «ستحقق العدل وتسحق المستغلين»... وما إلى ذلك من أفكار كبيرة ومشاريع إنسانية. كذلك، ومن الناحية الإبداعية والفكرية، كانت بالنسبة إليهم الانقلاب الجذري الذي سيحرر الأفكار والمفكرين من ربقة رأس المال. من هنا، ما إن تحقق الانتصار على أعداء كثر، مع بداية سنوات العشرين، حتى بدأ المثقفون يطالبون الثورة أن تفي بوعودها... انتظروا سنة وسنوات. ذهب لينين وجاء ستالين. ذهبت الدول المجزأة وجاء الاتحاد. ذهب الأغنياء وجاء الفقراء. ثم... لا شيء، بل بالأحرى عادت الأوضاع تنذر بأنها ستكون أسوأ مما كانت عليه. وإزاء هذا الوضع الذي لم يكن المثقفون يتوقعونه، راح كثر منهم ينشقون ويسلكون دروب المنافي، أو يُجبرون على سلوك دروب السجون والمستشفيات العقلية ومعسكرات الاعتقال. وانتحر البعض، وصمت البعض الآخر، فيما تواطأ كثر منهم مع السلطات الستالينية المهيمنة ففقدوا كل بريق. وكما حدث داخل الاتحاد السوفياتي حدث خارجه: كانت الخيبة كبيرة في أنحاء عدة من العالم آمن أهل النخب فيها بأن «الفجر قد بزغ أخيراً» لكنه في الحقيقة لم يبزغ. بالكاد أطل برأسه، ثم اختفى تماماً. وأحس مثقفون في شتى أنحاء العالم بأنهم خدعوا، فراحوا يعبرون عن ذلك كتابة ونشراً وانشقاقات عن أفكارهم وأحزابهم. وحتى الذين عندوا منهم، وعميت عيونهم عن رؤية ما يحدث على أرض الواقع، سرعان ما زاروا «بلاد الأمل المستقبلي الكبير» ليعودوا أكثر خيبة. والحال أن أية صفحات ستبدو قاصرة عن الاتساع لأسماء هؤلاء كلهم، أو حتى لتفصيل الأسباب التي أدت إلى الغضب والثورة والانشقاق. ولكن، يمكن القول أن حقبة الخيبة الكبرى، كانت وصلت ذروتها، بين بدء محاكمات موسكو وانتهائها، أي بين الإرهاصات بداية الثلاثينات، وانطفاء أضواء الأمل كلياً في العالم 1939. وإذا كان هناك عمل أدبي يمكن القول أنه قادر على أن يؤطر هذه المرحلة، فهذا العمل هو روايتان لفكتور سيرج، أولاهما صدرت في عام 1931 وعنوانها «مدينة تم الاستيلاء عليها»، والثانية صدرت في عام 1939 في عنوان «إن كان منتصف الليل حلّ في القرن».
> للوهلة الأولى قد لا يكون ثمة رابط منطقي بين الروايتين، إذ إن أماكنهما وأزمانهما لا تلتقي تماماً... بل إن حجم الغضب الذي يعبر عنه فكتور سيرج إزاء ما يحدث في كل من الروايتين ليس هو نفسه... مع هذا، فإن قراءتهما معاً، وبالنظر إلى أن سيرج كان مناضلاً سياسياً ومنشقاً أيديولوجياً أكثر منه كاتباً روائياً، تعطينا فكرة عن بدايات الانشقاق الإيجابي في الأدب السوفياتي من الداخل. ذلك أن سيرج (وعلى عكس منتحرين من أمثال ماياكوفسكي ويسينين ومايرهولد، أو متواطئين من أمثال إيليا أهرنبورغ وميخائيل شولوخوف، وكثر من كتاب العالم الثالث والعالم العربي في شكل خاص، أو منشقين متأخرين مثل بوريس باسترناك)، قرر أن يخوض معركته في شكل مباشر، ليقدم في الرواية الأولى أدباً يشهد على ما كانت عليه البدايات وتضحياتها، وفي الرواية الثانية أدباً يندد بما حدث بعد ذلك، وكيف غدرت الدولة بالثورة... قبل زمن بعيد من بروز منشقين صاخبين من طينة آرثر كوستلر وألكسندر سولجنتسين.
> الرواية الأولى («مدينة تم الاستيلاء عليها») تعود بنا إلى المدينة التي كانت تسمى بتروغراد، في عام 1919. هي صارت لاحقاً لينينغراد، ثم عادت بطرسبرغ. ولكن في، عام 1919، بعد عامين من اندلاع الثورة البولشفية كانت لا تزال تسمّى بتروغراد. والرواية، من خلال هذه المدينة، تقدم لنا لوحة بانورامية شاملة وتفصيلية واقعية للحياة في الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين. فما الذي كانت عليه صورة تلك الحياة: بكل بساطة كان الجوع مخيماً وإلى جانبه السوق السوداء والنهب والسرقة تستشري، كانت هناك الحرب الأهلية، والمؤامرات وشتى ضروب التخريب المتعمّد. صحيح أن المسؤولين البولشفيين كانوا يجهدون ليلاً ونهاراً، متحركين في الأبنية والقصور القديمة، لكن الآخرين كانوا يجهدون أيضاً - وربما أكثر - في الأكواخ والأزقة المظلمة. كان الجوع من نصيب الجميع، لكن المسؤولين الحزبيين كانوا يدبرون أمورهم في شكل أفضل... طعامهم كان أكثر إن لم يكن أفضل. لكن هذا ضروري، كما يقولون، فهم عليهم أن يبقوا أقوياء لكي يوزعوا المؤن العشوائية القليلة بين الناس، ويعززوا من عضد القوات التي تفتقر إلى كل شيء، ويحددوا العمل والجهد للعمال المنهكين، والذين كانوا يتطوعون للعمل، حماسة واندفاعاً وبطونهم خاوية. ولأن للحرب منطقها، كان من المنطقي أن تكثر أعمال المصادرة والاعتقال والإعدام. ثم فيما كان العمال الثوريون يقاتلون ويعملون ويسقطون صرعى على جبهة القتال أو على جبهة العمل، كان آخرون، باسم العمال هذه المرة، يتمتعون بالسلطة، ليكوّنوا من أنفسهم تلك الجماعة البيروقراطية التي ستحكم البلد طوال عقود تالية... بالنار والحديد.
> هذا كله يصفه الثوري فكتور سيرج في هذه الرواية القاسية الساخرة. ويبدو، بالأحرى، أن من خلال وصفه هذا إنما يمهد لكتابة الرواية الثانية، بعد ثماني سنوات. هذه المرة أيضاً يكتب سيرج باسم الثورة. أو لنقل بالأحرى، باسم نقاء ثوري كان سيرج يرى أن ستالين وفريقه لا يعرفان شيئاً عنه. وإلا «لماذا قرر ستالين أن يلعب في إسبانيا وغيرها من بلدان أوروبا تلك اللعبة التي كان الثوار الشيوعيون أول ضحاياها؟». هذا السؤال كان سيرج لا يتوقف عن طرحه. من هنا، كان من الطبيعي له، ونحن الآن نعيش سنوات ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية مباشرة، أن يهدي كتابه هذا («إن كان منتصف الليل حلّ في القرن») إلى «الثوريين الإسبان، ضحايا الاستخبارات السوفياتية، سواء كانوا أسرى الآن لدى فرانكو ونازييه، أو كانوا لا يزالون يحاولون استئناف النضال». في الحقيقة أن سيرج وضع في عبارات الإهداء هذه، معاني سياسية وفكرية عدة، وكان أول المثقفين الذين أشاروا إلى تواطؤ ما، مباشر و/ أو موارب، بين الاستخبارات السوفياتية وفرانكو. أما الرواية نفسها، فإنها شديدة التعقيد، ذلك أن سيرج إنما أراد أن يضع في فصولها عشرات الأحداث السياسية، وعشرات الحكايات والشخصيات. وكأنه أراد منها أن تكون - بدورها - صورة بانورامية لواقع «الأحلام الاشتراكية وما آلت إليه» في العالم كله. من هنا، امتلأت الرواية بعشرات المعارضين الشيوعيين لستالين من الذين نُفوا أو اقتلعوا من ديارهم، لكنهم مع هذا يواصلون نضالهم للبقاء. وليس للبقاء البيولوجي - على قيد الحياة - فقط، بل كذلك للبقاء الثوري النقي. من هنا، يناضلون ضد ستالين، ولكن أيضاً ضد النازية في ألمانيا، وضد الفاشية في إسبانيا... وضد الضعف الذي يعيب بعضهم، والخيانات التي يحاولها البعض الآخر. هنا، من أجل التعبير عن هذا كله يمزج فكتور سيرج بين المصائر الفردية والأحداث الكبرى... ويطالعنا أبطاله (ومنهم كوستروف وروديون وألكين) وهم يتقاطعون مع التطورات الدرامية للوضع السياسي العام... وكل هذا على خلفية الديكتاتورية التي كانت بدأت تفرض نفسها على قمة السلطة في موسكو.
> والحقيقة أن فكتور سيرج، يتحدث عن هذا كله حديث العارف الخبير. فهو كان منذ بداياته ثورياً ينشط ضمن التيار الفوضوي، ثم انضم إلى الثورة البولشفية، قبل أن ينتفض ضد ستالين حين صار جزءاً من المعارضة اليسارية للزعيم السوفياتي. وفي عام 1933، اعتقل سيرج ثم رُحّل إلى المنفى، لكن تدخل كتّاب أجانب مرموقين من أمثال رومان رولان وأندريه جيد وأندريه مالرو، أدى إلى إطلاق سراحه. ومع هذا لم يصمت الرجل. ففكتور لفوفتش كيبالتشيش (1890 - 1947) وهذا هو اسمه، لم يكن من الذين يخلدون إلى الصمت والهدوء... لهذا، نجده يواصل الكتابة ليصدر في سنواته الأخيرة كتابين هما «قضية تولاييف» و «مذكرات ثوري» يمعن فيهما في التنديد بستالين ونظامه.