القاهرة 15 يناير 2015 الساعة 02:19 م
• لا يمكن القول إن الفيلم وثق مسيرة تاجر مخدرات كولومبي وإنما رسم ملامح «الطاغية» أو رجل الأعمال الذي يرى نفسه «دولة داخل الدولة» !
أهمية هذا الفيلم الذي يحمل عنوان «اسكوبار : الفردوس المفقود» أنه متعدد الأوجه والقراءات؛ بحيث يمكنك أن تراه مجرد واحد من أفلام السيرة الذاتية يحكي قصة «بابلو اسكوبار خافير» ( 1 ديسمبر 1949 ـ 2 ديسمبر 1939) الذي كان يُنظر إليه بوصفه «الأب الروحي» لتجارة المخدرات ثم الكوكايين في كولومبيا، والقاتل الذي لا يرحم من يقف في طريقه. بينما أمكنني قراءة الفيلم الذي تفرغ مخرجه اندريا دي ستيفانو خمس سنوات لانجازه، بوصفه وثيقة مرئية ترسم بوعي وذكاء ملامح «الطاغية» أو «الديكتاتور» !
إذ لا يمكن القول إن الفيلم الذي شاركت بلجيكا، فرنسا وإسبانيا في إنتاجه، وعُرض في افتتاح برنامج «سينما العالم» بالدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، اكتفي بالحديث عن «بابلو اسكوبار خافير» - أدى الدور ببراعة فائقة الممثل بينيسيو دل تورو - كواحد من أباطرة المخدرات في كولومبيا والعالم، بل هو «الطاغية» .. الناعم والثعبان، الذي يعيش حياة اجتماعية لا تخلو من مشاعر إنسانية جارفة تجاه زوجته وأولاده وعائلته، ولا يفَوت مناسبة من دون أن يُجزل العطاء على أهل وطنه، الذين يشعرون بالامتنان والتقدير لأياديه البيضاء؛ فقد كان أكثر حنواً على الفقراء، وشيَد لهم المساكن والمدارس والمستشفيات التي لم تفكر الدولة في بنائها ، وأغلب الظن أنه كان يرى نفسه «دولة داخل الدولة» !
«الشعب يريد»
الحقيقة التي لا شك فيها أن المخرج الذي تصدى لكتابة السيناريو، نجح في رسم شخصية «بابلو اسكوبار خافير» بإبعاد متعددة ومتناقضة ؛ فالرجل الذي يغني لزوجته،التي تهيم به حباً، ويلهو كالطفل مع صغاره، يتباهى ـ في المقابل ـ بأنه يمتلك السيارة التي قُتل بداخلها الزوجان الشهيران «بوني» و«كلايد»،اللذان روعا جنوب الغرب الأمريكي في ثلاثينيات القرن الماضي، بل أنه أبقى عليها بالرصاصات ال 167 التي قيل إنها انهالت على السيارة، وهما في داخلها، وهو نفسه الذي لا يتورع عن اللجوء إلى العنف، والبطش بمن يُهدد مصالحه، وهو ما فعله عندما حرض أتباعه على اغتيال وزير العدل الكولومبي بعد أن تجرأ وتساءل عن سر نفوذه، وفكر في فتح ملفاته؛ فالازدواجية سمة وملمح في الرجل، الذي لم يأبه للتقاليد، وبارك علاقة الحب بين ابنة أخيه الكولومبية الحسناء «ماريا» - كلوديا ترايساك – والأمريكي «نيك» - جوش هاتشرسون -،الذي جاء بصحبة شقيقه وزوجته للترفيه، والاستقرار، والاستثمار في إحدى المدن الساحلية في كولومبيا، ورحب بانضمامه إلى العائلة، لكنه ـ كعادته ـ كان أول من أمر أتباعه بالتخلص منه، كما فعلها من قبل مع شقيقه وزوجته وطفلهما، لكي يأمن خطره في حال إذا ما فكر في إفشاء مكان الثروة التي خبأها في أحد المناجم النائية، قبل أن ينفذ «اسكوبار» صفقة مشبوهة مع الدولة !
اختار المخرج أن تدور الأحداث عام 1991 في حين غيَب الموت «اسكوبار» في 2 ديسمبر 1939، ومن ثم تحرر المخرج من قيود كثيرة، وأضاف من عندياته الكثير للشخصيات والمواقف الدرامية،غير أنني توقفت كثيراً عند مشهد نجاح الحكومة في ملاحقة «اسكوبار»، وإجباره على تسليم نفسه للسلطات، في إطار صفقة مشبوهة يقضي خلالها عقوبة السجن لفترة زمنية قصيرة، ثم يغادره معززاً مكرماً؛ فالاتفاق لا يأتي على هوى «الشعب»، الذي خرج في مظاهرات غاضبة، يُطالب بعدم الاقتراب من «الديكتاتور»، وراح يهتف بحياة «الطاغية»،الذي قتل ودمر وسفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ، لكنه إبتاع حب الناس، وربما ثقتهم، بهداياه وعطاياه، ما دعا السلطات الأمنية إلى ترتيب لقاء بينه والرعية في «إستاد الكرة» ليُطمئنهم على نفسه، ويؤكد لهم أنه في «أيد أمينة» بل يُعرب عن ثقته أنه «صاحب اليد العليا»،وهو المشهد الذي بدأ المخرج / كاتب السيناريو وكأنه يسخر منه، ويواصل مع نهاية فيلمه،الدعوة إلى ضرورة البحث عن «الفردوس المفقود»،والعمل على إسقاط «الطغاة» .
أبرز ما يميز فيلم «اسكوبار : الفردوس المفقود» نجاحه في التخلص من الشكل التوثيقي للشخصية الحقيقية، وإضفاء المزيد من الخيالات التي أكسبتها خصوصية جديدة ، فضلاً عن الاختيار البارع لطاقم الممثلين؛ خصوصاً بينيسيو دل تورواالذي جسد شخصية «بابلو اسكوبار خافير»، ولم يقترب من الشخصية فحسب، وإنما تلبسته بشكل لا يُصدق؛ فهو الشيطان الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة، وتحكمه لغة العنف، وتسيطر عليه مشاعر الارتياب، وتغليب المصلحة الشخصية في أجواء من المؤامرات والمتاهات التي تهدد إمبراطوريته لكن المخرج / كاتب السيناريو ركز اهتمامه على هذه الشخصية الرئيسة، وكاد يُسقط من اعتباره بقية الشخصيات الدرامي، حتى يُخيل للمتابع أنه وقع في غرام «اسكوبار»، وهي أسوأ فضيلة كرستها السينما !