القاهرة 14 يناير 2015 الساعة 01:18 م
طرح المفكروالمترجم أ. شوقى جلال فى أكثرمن كتاب رؤيته للنهضة والخروج من المأزق الحضارى الذى تعانى منه مصروالدول العربية. وفى أحدث كتاب له (أركيولوجيا العقل العربى) الصادرعن دارالعين للنشر2009 يستهله برصد أسباب التخلف وعوامل النهضة ، إذْ أنّ الإنسان فى المجتمعات المتخلفة يُسلّم إرادته للسماء إلى حد النفى ، بينما تجربة الشعوب المتقدمة أثبتتْ إتساع مساحة إرادة الإنسان ومسئوليته لإحداث فعل النهضة. وهذا لايعنى إنكار دورالسماء ولكن للتأكيد على دورالعقل المبدع والمتجدد للإنسان فى توجيه شئون الدنيا وهوما يُعرف بالعلمانية.
ويتضافر مع دورالعقل المبدع تعظيم دورالخصوصية الثقافية لكل شعب ، لأنّ المجتمع الذى يفقد خصوصيته تغدو حياته ((تكاثرًا أميبيًا وإطرادًا عفويًا سقطتْ عنه إرادة الفعل)) وإذا كان البشر فى كل المجتمعات الإنسانية يستخدمون ذات المناهج العلمية والمعادلات الرياضية ، فإنّ ((كل حضارة لها خصوصيتها الثقافية)) (ص 18، 179)
وبناءً على ذلك فإنّ التعبيرالدينى فى المجتمع البدوى مغاير للتعبيرالدينى فى المجتمع الزراعى المستقروهو ما يعنى أنّ الوعى الاجتماعى الدينى فى المجتمعات الإسلامية متباين وليس كما يظن البعض أنه خصوصية واحدة. فالمجتمع الزراعى الذى عرف الاس
وإذا كانتْ خصوصية كل شعب يُلخصها التعريف العلمى لمفهوم الثقافة القومية ، أى مجموع أنساق القيم التى أبدعها شعب من الشعوب عبرتاريخه الممتد ، وإذا كان الدين الواحد يصطبغ بالثقافة القومية ، لذلك وُجد (الإسلام المصرى) و(الإسلام الباكستانى) إلخ إزاء هذه الحقيقة كان أ.
شوقى جلال محقًا عندما نصّ على أنه من الخطأ القول إنّ الخصوصية أوالهوية القومية مطلقة مثل القول بوجود (أمة إسلامية) لها هوية واحدة مطلقة ((ونلحظ هنا إغراقًا فى المطلقات ، إذْ كلمة (أمة) مطلقة دون اعتبارللزمان والمكان والتاريخ الاجتماعى. ويكشف هذا عن وجه أيديولوجى سي
اسى غيرعلمى فى طرح القضية.. ودعوة إلى ردة سلفية)) (27- 28). تقرارعرف- بالتالى- مفهوم (الوطن) بينما المجتمع البدوى الذى عرف الترحال لا يعرف المؤسسات المستقرة ولا الوطن. وأنّ الانتماء يكون لعقيدة وليس إلى وطن. وليس غريبًا أنْ نجد الدعوات المنبثقة عن هذه البيئة تناهض دائمًا الانتماء للوطن وتؤكد الانتماء للعقيدة. ومع ملاحظة أنّ هذا التصور تغيّرمن حيث الشكل بعد ظهورالنفط حيث اقترن بالاستقرارالاجتماعى نتيجة متغير اقتصادى (ص 25،
26).
ترتّب على ذلك أنْ ساد المجتمعات العربية الانحطاط الحضارى والقهروالاستبداد وأصبح الشيوخ هم حفظة وسدنة النص وهم عقل الأمة ومرجعها فى كل شئون الدنيا والآخرة. ولذا فإنّ ثقافة النص هى ثقافة التسلط والخضوع والتبعية. وبالتالى تُكرّس للشرالمطلق ، أى الطاعة المطلقة التى هى آفة وسرطان أى تقدم. فالطاعة المطلقة تقضى على أهم سمة للإنسان وهى قدرة الجدل مع الواقع ، وهذا الجدل لايتم إلاّ بواسطة (الشك) و(النقد) إذْ أثبتتْ تجارب الشعوب أنّ هاتين الملكتين (الشك والنقد) كانتا رافعة التقدم وبهما تطوّرتْ المجتمعات الإنسانية من مرحلة إلى مرحلة أرقى. وإذا كان الإيمان بالنسبى يعنى التعددية الخلاقة ، فإنّ الإيمان بالمطلق يعنى الأحادية التى تُرسخ للجمود والثبات والتخلف. لذلك يُصرأ. شوقى جلال على أنّ الا
نطلاق الحقيقى للحضارة مؤسس على نظرة نقدية تُدعم مشروع النهضة وتُسلحنا برؤية علمية عن ال (نحن) فى التاريخ وعيوننا على المستقبل ، وليس ال (نحن) فى المطلق الذى يُكرّس للثبات وبالتالى نكون تكرارًا ممسوخًا للسلف (من 31- 34).
والمجتمعات التى تعيش شعوبها بلا رؤية وبلا مشاركة لخطط المستقبل ، يراها علماء الاجتماع أشبه بالقطيع الذى يسوقه (راعٍ) مطلق السيادة على رعيته.
فماذا عن الشعوب الرافضة لنمط القطيع والمشاركة- مع الحكام- فى النهضة ؟ عن هذا السؤال ينقل أ. شوقى ماكتبه كارل مانهايم ((يكون وجود المجتمع ممكنًا لأنّ أبناءه يحملون فى رؤوسهم صورة مشتركة عن هذا المجتمع.. تاريخًا وحاضرًا ومستقبلا)) (ص 39) والنهضة تعنى الوعى بمفردات الحضارة التى هى إبداع اجتماعى من شقين : مادى (أدوات وآلات الخ) ومعنوى (الإطارالفكرى والقيمى) وأثبتتْ تجارب الشعوب أنّ النجاح ارتبط بعمليات التخصيب المتبادل من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى ، بشرط أنْ تكون من موقع قوة الفاعلة الإبداعية الانتاجية. ولتحقيق ذلك يتطلب الوعى بصورة الذات عن الآخروصورة الآخرعن الذات ، وهذا الوعى هونوع من الجدل له شروطه الوجودية والحضارية ، مع استبعاد جرثومة الهيمنة التى توهم الذات بحق التميز. وأنّ الوعى بالوجود والوعى بالذات هوعلة الحركة الجدلية بين الذات وال (هو) أوالأنا والآخر. ومهما كان التناقض ، إلاّ أنه لا يصل إلى حد الإفناء ، لأنّ إفناء الآخرإفناء للوعى الوجودى للذات. ومن هنا أرى نفسى وأعى وجودى والعالم من خلال الآخر. إنه المرآة النقدية التأملية (من 40- 43) كلمات أ. شوقى جلال ذكرتنى بما قاله الفيلسوف هيجل الذى كتب ((أنْ تقتل فإنما تقتل نفسك)) إذْ أنّ فعل (القتل) الذى يبدو أنه حماية للذات
(فلا مفرللقاتل من أنْ يرى نفسه مقتولا فى ذات القتيل).
يرى أ. شوقى جلال أنّ (الذات) العربية مازالت تعيش داخل (قبو) التراث السلفى الذى يحجب عنها رؤية (الآخر) المختلف. واعتمد فى الفصل الأخيرعلى (إعلان المبادىء الصادرعن القمة العالمية لمجتمع المعلومات- جنيف 2003 وتونس 2005 الذى رصد إتساع الهوة بين العرب والتقدم ، فبينما تُخصص الدول العربية (كلها) حوالى نصف % من دخلها القومى للبحث العلمى (أغلبه مرتبات) فإنّ كوريا الجنوبية تُخصص 2,5% وإسرائيل 3% وأمريكا 3% ويطبع العرب (كلهم) حوالى 6آلاف كتاب (ترجمة وتأليفًا) فى السنة ، أى أقل من 2% على مستوى العالم ولاتزيد إصدارات العرب (كلهم) فى الترجمة عن 350 عنوانًا فى السنة بينما تُصدرإسرائيل 450 عنوانًا مترجمًا فى السنة. وتُترجم إسبانيا أكثرمن عشرة آلاف عنوان فى السنة يُلاحظ فيها الإهتمام بالعلم. يؤكد أ. شوقى أنّ النهضة لن تتحقق إلاّ فى وطن حر والوطن الحرلا يوجد إلاّ بوجود المواطن الحر. والمواطن الحرلا يوجد إلاّ فى مجتمع عقلانى ينبذ الثبات ويرفض تقديس تراث السلف ويحارب المطلق والأحادية لتعظيم النسبى والتعددية. ويكون المدخل لذلك مناهج تعليم وبرامج إعلام تتخلى عن (التلقين) وتقديس (النص) لتفسح المجال للعقل الناقد الذى ينطلق من (الشك) قبل التسليم العاطفى أوالعقيدى أوالأيديولوجى. وكان المؤلف موفقًا وهويُصدّر كتابه بكلمات (دانييل دنيت) الذى قال ((النوع الإنسانى هومن اكتشف الشك. يتساءل عن المستقبل. يُراجع تقديراته وحساباته. يدفعنا الشك إلى البحث عن علاج. عن التماس وسيلة للحقيقة. لهذا اخترعنا (نحن البشر) الثقافة)) أما أ. شوقى جلال فأهدى كتابه إلى ((من يعتمدون حرية الفكروالشك والاختلاف حقًا إنسانيًا مشروعًا مع الخطوعلى طريق البحث والتجديد والتمكين)).