القاهرة 18 ديسمبر 2014 الساعة 12:29 م
تناقض غريب.. نمارسه ونعايشه..
تناقض بين طرف يحاول أن يبني ويعمر.. يحاول أن يصحح الأخطاء. ويقيم العدل.. يحاول أن يقيم دولة قائمة علي القانون. وحسن الإدارة.
وطرف يعمل بكل الوسائل الشريرة والفاسدة.. لمنع هذه المحاولات.. بل ويذهب في مشروعه وخططه. إلي القتل والتخريب والدمار.
هذا التناقض الفج.. بل والمخجل.. يحاول البعض أن يجعل منه صراعاً.. أو تنافساً.. أو محلاً للمقارنة. أو المفاضلة. أو الاختيار.
بين.. هذا الساعي والفاعل من أجل نُصرَة الأوطان..
وبين المخطط والمدبر. من أجل إبقاء الأوضاع علي ما هي عليه.
بل المؤكد. لأسوأ ما تعايشه وتحياه.
خاصة.. أن الخيار الثاني "مستورد".. مدبر. ومحاك بأيدي وعقول. ومخطط الأعداء.
هل يمكن لإنسان سوي.. أو إنسان طبيعي. أن يضع هذين الخيارين. علي كفة واحدة؟!.. أو أن يطلب من طرف ثالث. أن يفاضل بينهما؟!
هل يعقل.. أن يخرج علينا البعض.. ليتحدث عما أطلق عليه. "مصالحة وطنية"؟!
مصالحة. بين من. ومن؟!
مصالحة. بين القاتل المحترف.. والمخرب المأجور.
وبين من يبذل الجهد. والفكر. والعرق.. لإنقاذ وطنه وشعبه وأمته.
إن هذا الخبل العقلي.. وهذا العبث الإنساني.. وهذا التزييف المخطط والممول. والمأمور من الخارج.
والذي يخرج علينا كل حين.. وحسب التعليمات.. ليقذفنا. ويرمينا بحجمه. ويخرافاته. وبنصائحه التافهة.
يخرج علينا.. وعلي غير موعد.. وبعد أن هرب. من أرض "المعركة" التي قدمته. وأعلنته نائباً لرئيس الجمهورية.. وبعد أن منحته ما لا يستحق.
خرج الدكتور البرادعي.. ووسط "أهله وعشيرته".. في مدرسة "فليتشر" بالولايات المتحدة الأمريكية.. ليبعث إلينا في مصر.. ومن هناك من أمريكا.. قراءة عظيمة وفذة.. تقول:
إن دول "الربيع العربي".. غارقة في مستنقع الطائفية والصراعات.. لن نكذبك يا "دكتور".. ولن نرفض رؤيتك ووجهة نظرك.
لكن دعنا نسألك.. إذا سمحت نيافتك: ماذا فعلت أنت من أجل إخراج "دول الربيع" من المستنقع.. وماذا قدمت من أفكار ومن حلول. ومن مخططات. طوال أكثر من ثلاث سنوات. كنت "سابحاً".. خلالها. علي سطح الأحداث في مصر.. منذ اندلاع ثورة 25 يناير.. إلي ما بعد ثورة 30 يونيه.. وذلك خلال فترة حكم المجلس العسكري.. وحكم الإخوان. ثم بعد إسقاط حكم الإخوان. وثورة الشعب؟!
بصراحة.. لا نذكر لك إلا "سياسة الهروب".. وسياسة الاختفاء.. و"الهجرة".. غير معروفة الهدف. إلي بلاد برة.
واللافت أن أحداً لم يتعرض لك.. ولم يطلب رحيلك.. خاصة أنك كنت من الموافقين علي كل ما تم من إجراءات. أو ثورات.. سمها ما شئت.. بما في ذلك إسقاط مرسي. وإبعاد الإخوان عن الحكم.
قد نذكر لك أنك الوحيد الذي وقف "مدافعاً" عن الإخوان في احتلالهم لميدان "رابعة".. وميدان النهضة.. ولم توافق علي "تصفية الاعتصام" إلا بعد أن تمكنوا.. وكان ظنكم. أنهم لمنتصرون.
* * *
إلي جانب هذا التناقض. وهذه الحيرة التي نعايشها.. ظاهرة أخري لا تقل غرابة.. وهي هذا التوافق. والتآلف. والتآلف!!
بين من يدعون الإسلام. ويتحدثون باسمه. ويعلنون الحرب في سبيله.. وبين من يقتلون المسلمين في كل مكان.. ويطاردونهم أينما وجدوا.. ويغزون بلادهم. وينهبون ثرواتهم.. ويحطمون كل مقومات العيش في بلدانهم.
لقد غزوا العراق. ودمروه. وقتلوا علماءه. وخربوا مصانعه. ثم قسَّموه إلي دويلات.
نفس الشيء حدث في سوريا.. ومازال المخطط. لم ينته بعد.
ثم كم من المسلمين قتلوا. وأبيدوا. وشردوا. وأعيقوا في أفغانستان؟!!
ليس هذا فقط. بل وفي كل "شق" أو جهة يتواجد بها مسلمون. أو دولة مسلمة.. فالسياسة واحدة. والمصير واحد.
إذن.. كيف والحالة هكذا وأسوأ.. يمكن أن يتصور أحد. أن يتم تحالف وتآلف بين هذه القوي الاستعمارية الغاشمة.. وبين من يدعون ويرفعون شعار الإسلام "راية".. وهدفاً؟!
هل واشنطن. وبرلين. ولندن.. وغيرها من أعضاء التحالف الغربي. دُعاة وإسلاميون؟!
وهل أنقرة. والدوحة.. وغيرهما.. هم "حملة الرسالة الجدد"؟!
هل لهم علاقة بهذه المهمة النبيلة.. بالتاريخ. أو بالجغرافيا. أو بالإيمان والعقيدة؟!
وإذا كان.. فلماذا كل هذا "الفجور" المتحرك بأقصي سرعة في جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي. من ليبيا.. إلي اليمن.. وأفغانستان.. وباكستان.. بل وكل مكان؟!
لماذا.. كل هذا "التوحُّد".. والتكتل ضد مصر؟!
بينما مصر.. لم تبادر أحداً بعداوة.. ولم ترفع "شعاراً" أو دعوة ضد أحد!!
مصر ضاقت بما قاست.. وبما أصابها من فقر. وجهل ومرض. طوال أكثر من أربعين عاماً.. ولم يبق للناس. وللشعب أي قدر أو مساحة من صبر.. أو تحمل.. فخرج أهلها جميعاً. ثائرين علي ما هو قائم.
خرجوا مطالبين بالعيش الكريم. والحياة الطبيعية.
لم يرفع أحد من أهل مصر.. في ثورتهم الأولي في 25 يناير ..2011 ولا في ثورتهم الثانية في 30 يونيه ..2013 شعاراً واحداً ضد أحد. حتي ولا أمريكا. والغرب الاستعماري.. وبالطبع.. ولا حتي تركيا.. عبَّر شعب مصر عن نفسه.. وعن أهدافه:
عيش. حرية. عدالة اجتماعية.. وكرامة إنسانية.
هل "كفر المصريون".. حينما ثاروا علي الظلم.. والظلم "المحلي". الداخلي علي وجه الخصوص؟!
هل أساءوا لطرف. أو داسوا عليه؟
* * *
المسألة بالتأكيد.. أكثر تعقيداً..
المسألة بالتأكيد حسابات الكبار ومخططاتهم..
المسألة. تم اختصارها في تكليف "الخونة".. والعملاء بمهام التخريب والفوضي.. ومن خلال تجهيز هذه العصابات والقوي والجماعات الكافرة.. بالمهام "القذرة".
لكن.. لابد أن نتوقف هنا قليلاً.. لنعيد قراءة المشهد. بشمولية. ومن جميع أبعاده وجوانبه.. لنضع أيدينا علي الحقائق.
صحيح أن المصريين قاموا بثورتين عظيمتين..
وصحيح أن الشعب المصري.. شعب متميز وقادر..
لكن غير الصحيح.. أن "الثورة" لها مفاهيمها.. ولها قواعدها. وأصولها.
"الثورة" ليست مجرد خروج عام وشامل. لشعب من الشعوب. يرفض بكل الإصرار والجدية. الوضع الذي هو فيه.. والسياسات التي تُدار بها شئونه.
الثورة. من هنا يمكن أن يتسع مفهومها.. وتتعدد أهدافها.
وبهذا التعدد والاتساع لمفهوم الثورة.. يمكننا القول:
إن هناك أكثر من فهم.. وأكثر من معرفة للثورات.. والثورة في دول حصلت علي قدر واف. ومعقول من المعرفة.. ومن العلم. ومن التنظيم.
الثورة في دول استطاعت أن تبني وتؤسس. منظمات. وجماعات وأحزابا.. دول تراجعت فيها الأمية.. وتقدمت فيها. ولو بقدر معقول الخدمات الصحية.. وتبلورت خلال مسيرتها. سواء كانت مسيرة إيجابية. أو مسيرة متعثرة.
في مثل هذه الدول المالكة للخبرات. وأيضاً القيادات. والمؤسسات.. تأتي الثورة حاملة معها. قادتها. وزعماءها. وبرامجها الإصلاحية والثورية.
لكن الثورات.. مثل ثورتي مصر.. جاءتا وقد أجهز النظام السابق علي كل المقومات البشرية. والمجتمعية. والإنسانية. والتنظيمية والإدارية.
جاءت "الثورتان" بعد أن قضي النظام السابق علي كل النخب. وكل الأفكار.
قضي أيضاً علي القدرة علي التنظيم. والتجمع وراء أهداف ورؤي ومخططات.. حتي من بقي من النخب العلمية والفكرية.. لم تكن لديه القدرة. أو حتي الرغبة علي العمل وعلي الحركة.
جاءت الثورتان.. ولم يكن لهما قيادة.. ولم يكن لهما برنامج عمل واضح ومحدد.
من هنا تسلل "المدعون".. وحاول سرقتها العملاء والمأجورون.. واختلط "الحابل بالنابل".. فإذا كان الشباب قد لعب دوراً مهماً وأساسياً. في تفجير الثورتين.. إلا أن هذا الشباب الثائر. لم تكن لديه المعرفة الكافية لتولي المسئولية.
ولم يستطع أن يكمل دوره. بالتعرف علي الواقع الصعب. ومحاولة المشاركة في إصلاحه.. بل وتصور البعض منهم. أن النزول لميادين الثورة. كاف لأن تنتقل إليهم مسئولية الإدارة والحكم.
أيضاً لم تدرك جماهير كثيرة.. ونُخب متعددة أن القضية صعبة ومعقدة.. وتحتاج إلي فكر وإبداع وعمل.. ولا تحتاج أبداً إلي سباق حول منصب أو مكانة.. وهذا حديث آخر.