القاهرة 24 نوفمبر 2014 الساعة 01:56 م
ماقبل الطوفان
تكاليف إنقاذ سفينة نوح !!
في الصورة تبدو السفينة على وشك أن تجنح في الطمى
وتحتك برواسب القاع ، ومخاطر الجنوح نتحسب لها ألف
حساب وحساب ، ولايصح ولاينفع أن تسير الأمور كما
تسير الآن !!
( 10 يناير 2013 )
لم يعد محتملا أو مقبولا ، أن ندير رؤسنا عن الخريطة المجسدة والمجسمة للمشهد المصري العام ، وبتضاريسه كما تبدو أمامنا ، وبعد عامين من ثورة 25 يناير ، وقد ذهبت بل واختفت تماما بقيايا النشوة في الرؤوس ، وجاءت لحظة الحقيقة ، والقلق على المستقبل يكاد يسد الأفق ، والأجواء مزدحمة بالشك والتوتر ، والأمة المصرية منقسمة بالفكر والفعل على نفسها ، ولأول مرة في التاريخ الحديث تنقسم مصر على نفسها ، وبالصورة التي نراها الآن ، وأصبح الكل ــ أو الغالبية تحديدا ــ لا يعرف من أين ، وإلى أين تسير مصر ، أو إلى أين هي قاصدة ؟ وعوالق الشك تحيط بكل ما يجري ويحدث ، وشواهد الحال تدل على أن مصر على حافة الهاوية ، وليس أسوأ من الاقتصاد سوى السياسة .. وصعوبة الموقف الاقتصادي وخطورته ، لا تقل عن التصدع والشروخ والسيولة في الوضع السياسي ، والتناقض الحاد والتخاصم في المواقف وخطورته !! الوضع الاقتصادي مأزوم ، والوضع السياسي في مـأزق .. والتدهور الاقتصادي ينطبق بذات القدر على الشأن السياسي .. ومصير الأزمة الاقتصادية ينذر باحتمالات الفوضى وثورة جياع .. ومصير الأزمة السياسية الداخلية ينبئ بأن الإقصاء قد يكون بديلا عن العيش المشترك ، وبعد أن تحول الخلاف في الرأي وفي تقدير المواقف والحسابات ، إلى عداء ، وأصبح الاستقطاب عنوان لعدم الثقة بين الذين في الحكم ، والذين في المعارضة !!
.....
وفي الصورة تبدو السفينة على وشك أن تجنح في الطمي ، وتحتك برواسب القاع ، وعلينا ــ وقتئذ ــ أن نتحمل تكاليف الخروج من الطين الرخو !! ومخاطر الجنوح التي نخشاها ، ونتحسب لها ألف حساب وحساب ، قد تطل علينا في هذه المرحلة مع ظروف لم تتمكن فيها مصر من المحافظة على مجرد وحدتها الشكلية !! وكثيرا ما يخطر ببالي في هذه الأحوال ، العرض المسرحي ( بعد الطوفان ) وضم فنانين من كافة أطياف المجتمع ، فالمخرج ليبرالي ، والبطل إخواني ، وباقي الممثلين تتنوع إنتماءاتهم بين تيار شعبي ، وليبراليين ، ويسارين ، وأحداث المسرحية التي تم عرضها على مسرح " ساقية الصاوي " تبدأ بالبطل ( نوح ) وهو مستغرق في النوم مع أحلامه ، ثم جاءه من يخبره بأنه تولى حكم مصر بعد الثورة ، وفي إنتظاره طوفان سيقضي على الجميع ، وانشغل " نوح " بالاستعدادات لمواجه الطوفان فقط ، ولم يتفرغ لإصلاح البلاد ، وبناء مؤسسات الدولة ، وظل الحال على هذا النحو ، حتى بدأت الفوضى تضرب الوطن ، والإنشقاق يكسر وحدة المجتمع .. و"نوح" لا يرى أمامه في الحلم إلا ضغوط اقتراب موعد الطوفان ، ولا شيئ غيره ، وكيف يقهر الطوفان ، ولا يستمع لكلام العامة وتحذيراتهم ، وبدأ يمارس سياسة الاستبداد ، وإدارة شئون البلاد بمفرده ، فهو لا يطمئن لأحد غيره في مواجهة الطوفان ، وحتى تقع الواقعة ، وقام الطوفان ، وانتفضت الجماهير ، وتقرر نهاية " نوح " في الحلم !! والمسرحية التي قام بتأليفها وإخراجها وتمثيلها مجموعة من الشباب ، مستوحاة من عمل أدبي هو " عملية نوح " للكاتب على سالم ، ولكنها تتناول بالرمز وبصورة أقرب إلى الهزلية ، الواقع الراهن في بر مصر ، والصراع الدائر في الشارع السياسي ، وترسل رسالة مفادها ، أن الوضع المتأزم الذي نعيشه يحتاج إلى توحيد الشعب .. وحسب ما جاء في كلمة العرض : " الشعب هو صاحب الإرادة .. الشعب وحده يقهر أي طوفان " وأن الأزمة الراهنة قريبة من الحافة ، لكن إرادة الشعوب تحضر في اللحظة قبل الأخيرة ، وأن إرادة الشعوب هي " سفينة نوح " التي لم يدشنها أصلا في المسرحية وغابت عن أحداثها !!
.....
.....
وفكرة المسرحية تقول بأن الشعب المصري بحسه التاريخي ، يدرك تماما أن " باخرة مصر " لن تغرق ، ولكنها تواجه خطر الجنوح في رواسب الطمي ، وقد بدأت تحتك فعلا برواسب القاع ومستنقع الطمي الملئ بالأحجار ، وهنا المخاطر الحقيقية ، وأن تكاليف الخروج من الطين الرخو وإضرار الجنوح ، يكون حسابها بالوقت وبالأعصاب ، وماديا ومعنويا ، ولا يصح ولا ينفع أن تسير الأمور كما تسير الآن!! وفي ظني أن الحالة أو الأحوال السياسية الحالية لا تدعو للإطمئنان ، وبمقدار ما تثير من الخوف والقلق على المستقبل القريب ، وأن الحقائق قد واجهت الشعب المصري بما لم يتصوره ، وبعد عامين من الثورة التي فتحت أبواب البحث عن طريق لبناء مستقبل يتواءم مع الآمال العريضة التي هي مطالب الثورة وغايتها .. ويبدو أننا كنا نعتقد أن المسألة سهلة ، وهي غير ذلك تماما ، بل هي أعقد كثيرا مما يبدو على السطح ، وما هو قادم معقد ، وبعضه شائك ، والأسوأ أن هذا يحدث في وقت تتقرر فيه مصائر ، ليس في مصر وحدها ، بل في المنطقة من حولنا ، والتي يجري إعدادها لحدث كبير ، ولا أحد في المنطقة مدرك لذلك ، وفي لحظة مؤسسة وخطيرة جدا !!
ومع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير ، راح الداخل المصري يعيش أحوال سيولة خطرة ، ويواجه أزمة إقتصادية خانقة ، وتداخلت مشاعر الذين في حكم ، في تكييف القضايا ، وأصبح الأمر ملتبسا شأن غيره من الأمور في ظروفنا الراهنة ، وكأننا عدنا إلى حيث بدأنا وربما أسوأ ، وأخشى أن نكون محاصرين بثلاث خيارات ــ كما يرى البعض ويحذر ــ إما أن نعيد البداية من جديد ، كأي تلميذ راسب يعيد السنة الدراسية مرة أخرى ، خاصة وأن أسباب الضيق الاجتماعي قائمة ، والناس لا تثور بسبب طيب أحوالهم ، وهناء عيشهم ، وهدوء بالهم ، وإنما يحتجون لأن طاقتهم على الاحتمال لم تعد فيها بقية ، وأثقالهم زادت مما لم يعد محتملا !! وإما أن يقال للذين في الحكم ومن حولهم ، لقد أثبتم أنكم غير قادرين على شيء ، فاتركوا غيركم يتصرف .. والحيار الثالث والأسوأ ، ونأمل ألا يحدث ، أن تنشأ أحوال تسود فيها فوضى تفتح الباب إلى ما هو أخطر من الفوضى ــ لا قدر الله ــ خاصة وأن من هم في الحكم ، ويتحكمون في مفاصل الدولة ، عناصرهم ، وميليشياتهم ، وتاريخهم ، كل هذا ينبئ بأن حالة الاستنفار جاهزة للمواجهة ، وسبق للدكتور محمد بديع ، المرشد العام لجماعة الإخوان ، أن حث أعضاءها على الاستشهاد والتضحية دفاعا عن الشرعية وفي سبيل إقامة المشروع الإسلامي ، في رسالته نهاية الشهر الماضي 31/12 !!
.....
والحاصل أن الموقف الاقتصادي والسياسي صعب .. إقتصاد يهرول نحو الهاوية ، وسياسة تغيب عنها تماما " الحكمة " التي تضمن مصلحة الوطن وحده لا غير .. وإذا كان هناك مخرج ، فهو فقط من خلال الحوار والتشاور على أساس من الوضوح والثقة ، وكل طرف في هذه المرحلة مطالب بمراجعة خطاه ، شرط أن يكون صادقا وواضحا مع نفسه ومع الآخرين ، وشرط أن لا يكون هدفه مصلحة جماعة أو تيار بعينه ، وشرط أن يكون قادرا على البرهان الحقيقي ، ودون ذلك فإنه من المستحيل على أي بلد ، أن يتخذ قراره في شأن مستقبله وهي في حالة عصبية : سياسية ، واجتماعية ، وأمنية .. والتحدي الحقيقي أمام مصر الآن ، أن يبدأ الحوار ، وبمناقشاته ومجادلاته وتفاعلاته ، حتى يتوصل بالجهد الجهيد إلى تمهيد الطريق إلى المستقبل ، وأن يختصر الوقت حتى يستعيد الوطن توازنه ، والإنتقال إلى أحوال مختلفة ، يتوقف معها التدهور ، وتتفتح أبواب الأمل ..
.....
ومع غياب الحوار الوطني الجاد والموضوعي والمتوازن و" الحقيقي " فإن عملية البحث عن طريق المستقبل سوف تبقى عصّية أمامنا !!