القاهرة 20 نوفمبر 2014 الساعة 03:11 م
الحية وابن عرس والفئران :
اتفقتْ الحية مع ابن عرس على أنْ يتعاونا معًا لمحاربة الفئران.. ولكن بعد فترة اختلفا.. ونشب بينهما صراع عنيف.. وكانا على وشك الموت من شدة القتال.. وعندما رأتْ الفئران ذلك خرجتْ من جحورها.. وتحرّكتْ بحرية.. ولم تعد تخاف منهما.. فلما شاهدتْ الحية ذلك هى وابن عرس.. أوقفا القتال بينهما.. واتحدا من جديد لمواجهة الفئران .
000
التعليق : المغزى فى هذه الحكاية 1- أنّ أى خلاف بين أى حليفيْن لا يجب أنْ يتحول إلى صراع ، والصراع لا يجب أنْ يأخذ شكل القتال 2- أنّ أى تحالف بين طرفيْن من البشر (طالما أنّ الحكاية موجّهة للبشر) يجب أنْ يكون على درجة من (المبدئية) وليس لمجرد أهداف وقتية أو مصالح شخصية 3- أنّ الإخلال بالتحالف يعطى الفرصة للعدو المشترك بأنْ يستعيد عافيته ويفعل ما يشاء ضد المُـتحالفيْن ، وهذا ما حدث عندما خرجتْ الفئران من جحورها ، بعد أنْ رأتْ القتال بين الحية وابن عرس .
000
الأفعى وطريق الخلاص :
وقف دبور على رأس أفعى.. راح يلسعها بضربات قوية ومتواصلة.. شعرتْ الأفعى بالألم.. ولا تعرف كيف تتخلص من الدبور.. فكــّرتْ أنّ أفضل طريقة للانتقام منه أنْ تلقى بنفسها تحت عجلات عربة.. فتدهسها هى والدبور فى نفس الوقت.. وقالت لنفسها : أنا أتخلص من الألم والدبور يموت.
000
التعليق : عندما يتعرّض الإنسان لأى مشكلة ، لا يجب عليه اختيار الطريق الذى يراه ســهلا ، فى حين أنّ هذا الطريق سيكون فيه نهايته ، كما فعلتْ الأفعى ، وإنما عليه أنْ يبحث عن الطرق الآمنة ، التى تـُحقق له التخلص من مشكلته ، وفى نفس الوقت تـُبقى على حياته.
000
الأفعى التى اختارتْ أنْ تعض المبرد :
وكما فى الحكاية السابقة ، عالج إيسوب نفس الموضوع ولكن بصورة مختلفة : والحكاية أنّ الأفعى دخلتْ دكان أحد الحدادين ، وبينما أعجبها شكل المبرد بلمعانه ، استفزها بروز أسنانه ، فراحت تلعق المبرد بكل قوتها.. وعندما سال الدم من فمها.. اعتقدتْ أنه دم المبرد ، فعاودتْ عملها من جديد.. وبعد فترة شعرتْ أنها لم تعد قادرة على الاستمرار.. وأنّ قواها بدأت تنفد.. ولكنها كانت فى شدة الغيظ من المبرد.. فقد اعتقدتْ أنه يتحداها.. فراحتْ تعضه بأسنانها.. وبعد أنْ تكسّرت أسنانها.. وقفتْ تبكى وهى تشعر بالندم لأنها تحدّتْ المبرد.. فقال لها المبرد : إنّ لدى القدرة على أنْ أقرض بأسنانى كل قطع الحديد.. فماذا تفعل أسنانك معى ؟
000
التعليق : ولأنّ إيسوب كان يكتب للبشر وليس للحيوانات ، فإنه قــدّم درسًا بليغـًا لكل الحمقى الذين لا يعرفون طبيعة العدو الذى يُواجهونه. ولم يُـفكروا فى دراسة امكانياته ، وهل تلك الامكانيات تتناسب مع امكانياتهم أم لا؟ وأنّ من يفعل ذلك يجلب على نفسه العار والهزيمة ، لأنه تحدى مَنْ هو أقوى منه مِنْ جهة ، وتغافل عن خصائص قوته من جهة ثانية. ولعلّ اختيار إيسوب ل (المبرد) كرمز لتلك القوة كان مقصودًا ، فرغم أنّ المبرد مجرد قطعة من الجماد ، والجماد إذا لم تكن هناك دراسة بمعرفة خصائصه ، فقد يكون سببًا فى دمار من يقترب منه ، والجماد هنا رمز للشخص العدو أو للدولة العدوة ، ويُحيط بهما الغموض والأسرار، وعدم الإعلان عن القوة الحقيقة التى يمتلكها الفرد أو الدولة. وهذا ما حدث كثيرًا فى تاريخ البشرية ، سواء على مستوى الأفراد الطبيعيين أو على مستوى الدول ، نتيجة (الحماقة) التى صوّرها إيسوب فى تلك الحكاية البديعة رغم بساطة شكلها . ومع مراعاة أنّ الغرور (توأم) الحماقة. فلولا الحماقة ، ما وُجد الغرور، ولولا الغرور، ما وُجدتْ الحماقة.
000
غزال يرى بعين واحدة :
ينشغل إيسوب بموضوع واحد وغاية واحدة ، فيكتب أكثر من مُعالجة للموضوع الذى يشغله ، فكتب معالجة جديدة تقترب فى مغزاها من الحكاية السابقة :
غزال فقد إحدى عينيه.. ولم يعد يرى إلاّ بعين واحدة.. خرج ليبحث عن رزقه.. رأى عشبًا نديًا بالقرب من شاطىء البحر.. وقف فوقه ليأكل.. وقبل أنْ يبدأ الأكل سأل نفسه : أمامى البحر وخلفى اليابسة.. فهل أصوب نظرى نحو البحر أم نحو اليابسة ؟ فكــّر قليلا ثم قال لنفسه : إنّ الصيادين عادة يأتون من ناحية اليابسة.. ومن النادر أنْ يأتوا من ناحية البحر.. استقرّ رأيه على هذا الاختيار.. فركـــّــز بصره (بعينه الواحدة) ناحية اليابسة وأهمل – تمامًا – النظر – ولو لمرة واحدة.. ناحية البحر.. ولكن جاءتْ مركبة عن طريق البحر.. وعليها بعض الصيادين.. الذين تمكــّــنوا من اصطياد الغزال.. الذى قال وهو يحتضر: لقد كنتُ أراقب الهجمات التى كنتُ أعتقد أنها تأتى من اليابسة.. ولم أهتم بالهجمات التى يمكن أنْ تأتى عن طريق البحر.
000
التعليق : أعتقد أنّ تلك الحكاية من أبلغ الحكايات التى كتبها إيسوب ، نظرًا للاسقاط الواضح فيها على بعض الدول (فى عصره) التى دخلت فى حروب وغزوات الخ وكانت بعض تلك الدول تحشد قواتها فى أماكن مـُـحدّدة ، على توقع أنّ العدو سيأتى بجيوشه من هذا المكان أو من هذه الجبهة ، مُـتجاهلة تمامًا (ولو على سبيل الاحتمال) أنّ العدو قد يأتى من الجهة التى تـُركتْ بدون أى حشد ، وهو ما حدث كثيرًا فى التاريخ القديم ، ففى تاريخ مصر القديمة واقعتان على درجة مهمة من الوعى بأهمية (الموقع) الواقعة الأولى حدثتْ مع تحتمس الثالث فى حربه ضد الآسيويين فى معركة (مجدو) ومجدو كانت مركزًا حربيًا منيعًا لوقوعها بين سلسلتىْ جبال لبنان وإشرافها على الطريق الموصل مصر ببلاد العراق ، وقد قال تحتمس الثالث ((لقد شرعتْ بلاد الفنحو الآسيوية تغزو بلادى)) وزحف تحتمس الثالث بجيشه فى بلاد موالية لمصر وغير معارضة ووصل إلى جبل الكرمل ثم سار على حذر، فلما بلغ مدينة (يوحم) علم باجتماع جيوش أعدائه بمدينة مجدو، فعقد اجتماعًا (مجلس عسكرى) من كبار ضباطه وتداولوا الأمر فى أحسن الطرق الممكن اتباعها لعبور جبال الكرمل والوصول إلى سهل (ازدريلون) وكان أمامهم ثلاثة طرق تـُمكــّن الجيش من عبور تلك المنطقة الجبلية : أولها يبتدىء من (يوحم) ويتجه إلى مدينة (عرونا) مخترقــًا الجبل المذكور وواصلا إلى أبواب مجدو. الطريق الثانى يتجه جنوبًا مارًا ببلدة (طناخ) على بعد خمسة أميال من الجنوب الشرقى لمجدو. والطريق الثالث شمالىْ ذلك ويمر مخترقــًا بلدة (زفتى) Zefti (وهى غير زفتى الشهيرة فى مصر) وينتهى بالشمال الغربى لمجدو، فاختار تحتمس الثالث الطريق الأول لقصره (رغم وعورته) أما ضباطه فأشاروا عليه باتباع أحد الطريقيْن الآخريْن لأنهما أوسع من الأول وقالوا له ((لو اتبعنا الطريق الأول فى زحفنا فإنّ خيولنا ستسير فرادى وكذا جنودنا فتكون مقدماتنا مشتبكة مع الأعداء ومؤخرتنا لا تزال فى عرونا)) أى فى الطريق الوعر الذى اختاره تحتمس الذى أصرّ على اختياره وخاطب ضباطه قائلا ((بأنه قد صمّم على تنفيذ فكرته وهم أحرار فى أنْ يوافقوه أو يخالفوه)) وخوفــًا من مفاجأة أعدائه له ورغبته فى تشجيع جنوده قاد جيشه قائلا ((سأسير أمامكم كى أظهر لكم الطريق فتقتفوا أثر قدمى)) فكان النصر حليفه فى تلك المعركة الشهيرة ، وخسر الآسيويون المعركة ، التى كانت فرصة سانحة لهم ، لأنهم لو كسبوا المعركة ((كان فى امكانهم سحق الم
صريين تمامًا)) وكان خطأ الآسيويين أنهم ظنوا أنّ تحتمس الثالث اتبع فى سيره طريق مدينة (طناخ) إلى مجدو، وهو الأمر الذى تجنبه تحتمس ، ولولا اختيار تحتمس للطريق الأول (الوعر) لاستحال على المصريين الانحدار من الجبال والوقوف جنوبى مجدو. وبعد آلاف السنين من تلك المعركة فإنّ اللورد اللنبى ، اختار نفس الطريق الذى اختاره تحتمس الثالث وذلك عام 1918م لما سار بخيوله خلف الجيش التركى الهارب (جيمس هنرى برستد – تاريخ مصر من أقدم العصور إلى العصر الفارسى- ترجمة حسن كمال- هيئة الكتاب المصرية- عام 1999- من ص283- 285)
الواقعة الثانية (التى تـُحدد أهمية الموقع) حدثتْ مع الملك العظيم رمسيس الثانى ، الذى سار على رأس قواته وشق طريقه صاعدًا مع الساحل ، كان الطريق الذى سلكه محل جدل ، إلا أنّ اقترابه من (قادش) التى اعتزم الاستيلاء عليها لصد الأعداء ، وبينما كان الملك رمسيس الثانى يتداول الوضع مع قادة الجيش ، احضر الحراس إليه إثنيْن من البدو، بعد أنْ عثروا عليهما يتربصان بطريقة مريبة قرب المعسكر (المصرى) وأثناء الاستجواب ادعيا أنهما هاربان من الحيثيين ، ثم أضافا أنّ القوات الحيثية لا تزال عند حلب وأنّ الحيثيين عازفون عن التحرك جنوبًا خوفـًا من رمسيس ، وهنا قرّر رمسيس الزحف بأسرع ما يستطيع على قادش حتى يحاصر المدينة قبل أنْ يصل الحيثيون . بينما كان الأمر عبارة عن خدعة كبيرة (بأسلوب استخدام الجواسيس من البدو) إذْ أنّ ملك الحيثيين (موواتالليس) كان قد زرع هذيْن البدوييْن وهما مزودان بمعلومات زائفة ، فى الوقت الذى كان يعسكر مع جيشه على الضفة الشرقية لنهر العاصى خلف المدينة. وعندما عبر رمسيس الثانى النهر وأسرع فى اتجاه الشمال كى ينصب خيمته على الضلع الشمالى الغربى ل قادش كان جيشه قد تأخر عنه بمسافة كبيرة إلاّ أنه كان يتبعه فى أربع فرق تسير الواحدة إثر الأخرى على امتداد خط الزحف ، وفجأة وقع الجيش المصرى فى كمين شاركتْ فيه كل فرق العجلات الحربية الحيثية. وكان أنْ سقط عدد كبير من إحدى الفرق المصرية وفرّتْ فلولها رأسًا نحو الموضع الذى كان الفرعون وقواته الخاصة لا يزالون ينصبون فيه معسكرهم . وبعد أنْ علم رمسيس الثانى بالكمين من أحد الرسل وبالتوزيع الحقيقى للقوات الحيثية من الجواسيس الذين وقعوا فى قبضة الحراس ، لم يجد رمسيس الثانى الوقت الكافى كى يطلب عقد اجتماع لمجلس الحرب المصرى قبل أنْ تـُطوق معسكره العجلات الحربية للعدو الذى يجد فى أثره . وإذا كان رمسيس الثانى مدانـًا فيما مضى من التراخى وعدم توخى الحذر، إلاّ أنه كشف فى هذه
اللحظات عن نوع من المعدن الذى قــُـدّ منه هذا الرجل .
حشد الفرعون ما تصادف أنْ عثر عليه من عجلات حربية فى متناول يده وأخذ يقود الهجوم إثر الهجوم فى قلب حشود العدو، قاذفـًا البعض على شاطىء نهر العاصى ، والبعض الآخر فى مياه النهر ذاته ، حتى تمكنتْ فرقة من الجيش المصرى الذى كان لا يزال فى طريق الزحف من الوصول كى
تتحمل معه وطأة القتال.
وبعد الكثير من التفاصيل كتب عالم المصريات (ريد فورد) ((... ومع حلول الغسق كان المصريون المطوقون يتماسكون بعد أنْ انضمتْ إليهم الفرق
التى تخلفتْ عنهم فى شعاب الطريق ، ومع حلول الظلام انسحبتْ عجلات الحيثيين الحربية تاركة الميدان للمصريين))
وفى المدى القصير اضطر ((رمسيس الثانى إلى الانسحاب والتسليم بخسران قادش . ولكنه عاد بإصرار إلى معمعان القتال بعد ذلك بثلاث سنوات وأبدى عزيمة وجلدًا عظيميْن فى جهوده فى سبيل استعادة فلسطين)) وبعد سرد العديد من الوقائع عن الانتصارات التى حققها الجيش المصرى بقيادة رمسيس الثانى ضد الحيثيين كتب هذا العالم الكبير((فهل يحق لنا أنْ نستنتج أنّ المقاومة الحيثية قد انهارتْ ؟)) (مصر وكنعان وإسرائيل فى العصور القديمة - تأليف دونالد ريدفورد – ترجمة بيومى قنديل- المجلس الأعلى للثقافة- عام 2003- من ص269- 272)
وفى الصراع بين الفرس واليونان وبين اليونان والرومان الخ حدث نفس الشىء بالنسبة لأهمية تحديد موقع جبهة القتال ، واحتمالات قدوم العدو من أى جهة. وفى العصر الحديث ، حدث نفس الشىء فى مصر أثناء العدوان الثلاثى عام 56، وهى المعركة التى تسبّبت فى تدمير مدن القنال الثلاث بالكامل (بور سعيد ، الإسماعيلية ، السويس) وهى لا تقل فى خسائرها عن الأرواح والمعدات والمنشآت الخ عن هزيمة/ كارثة بؤونه/ يونيو67. وما حدث عام 56 أنّ القيادة العسكرية المصرية فى تقديرها للموقف العسكرى ترى أنّ بريطانيا فى حالة استخدامها القوة العسكرية فإنها ستتقدم بقواتها نحو مصر من ناحية الإسكندرية ورشيد ، ولذا فقد بُـنيتْ الخطة الدفاعية على أساس هذا الاحتمال . ولما قام خالد محى الدين بإبلاغ عبد الناصر بالمعلومات التى حصل عليها من أحد أصدقائه بباريس وتشير إلى أنّ فرنسا تعمل متعاونة مع إسرائيل لمهاجمتنا ، لم يأخذ عبد الناصر هذه المعلومات مأخذ الجد ، بل اعتقد هو وعبد الحكيم عامر أنّ الغرض من إيصال تلك المعلومات إلينا هو لدفعنا إلى حشد قواتنا الدفاعية تجاه إسرائيل وتاركين الإسكندرية ورشيد وهى طريق تقدم القوات البريطانية (مذكرات عبد اللطيف البغدادى- المكتب المصرى الحديث – ج1- عام 77- ص327، 328) أى أنّ عبد الناصر ومشيره لم يتخذا أى إجراء ولا أية دراسة للتأكد من كلام خالد محيى الدين ، ولا التأكد من أنّ جيوش انجلترا وفرنسا ستأتى عن طريق الإسكندرية ورشيد كما توهّم عبد الناصر ومشيره ، وإنما جاء الغزو عن طريق الشرق – كما حدث بالتنسيق مع إسرائيل - وهكذا تبدو أهمية تحديد الموقع الذى تأتى منه جيوش العدو، وهذا هو الرمز الذى لجأ إليه إيسوب وهو يكتب عن الغزال الذى ركــّـز نظره ناحية اليابسة وتجاهل النظر إلى البحر.
***