القاهرة 29 اكتوبر 2014 الساعة 02:59 م
لكن ماما لم تأت إلى حجرتي بحقيبة بها أمشاط وزيت شعر، وتطلب مني هبوط الدرج، وبدلاً من ذلك قالت: "الغداء جاهز". أردتُ أن أعبِّر لها عن أسفي لقيام بابا بكسر تماثيلها، ولكنني قلت:
- أنا آسفة لكسر تماثيلك ماما
هزَّت رأسها إلى أسفل بسرعة، ثم هزتها يميناً ويساراً لتبين أن التماثيل لا تعني لها شيئاً. كانت التماثيل تعني لها الشيء الكثير بالفعل، فمنذ سنوات وقبل أن أعي شيئاً، اعتدتُ أن أتعجب من قيامها بتلميع التماثيل في كل وقت. لم أكن أسمع صوت خفها المطاطي أثناء هبوطها الدرج، وكنت عندما أعلم أنها هبطت الدرج عند سماعي صوت فتح حجرة الطعام، أهبط في أثرها فأراها جالسة بجوار الخزانة وبيدها منشفة مطبخ مغموسة في ماء صابون، وتقضي على الأقل ربع ساعة في تلميع كل تمثال من التماثيل الصغيرة وردية اللون لراقصات باليه. في ذلك الوقت لم تكن هناك دموع في وجهها. وآخر مرة قامت ماما بتنظيف التماثيل وتلميعها قبل أسبوعين عندما كانت إحدى عينيها حمراء متورمة.
- سأمشط شعرك بعد الغداء
قالت وهي تستدير لتتابع مهامها. قلت: "نعم، ماما".. وتبعتها إلى أسفل الدرج. كان بها عرج طفيف ومشية جعلتها تبدو أصغر مما هي عليه بسبب قصر إحدى قدميها عن الأخرى. وبينما أنا في منتصف انحناءة الدرج، رأيت جاجا واقفاً في مدخل الرواق، بعد أن أمضى الوقت كله في المطبخ مع ماما وسيسي، ولم يصعد كعادته إلى حجرته لكي يقرأ قبل الغداء.
سألته عن حاله، برغم أنني لم أكن في حاجة إلى السؤال، فقط كان عليّ أن أتطلع إلى وجه السبعة عشر عاماً المتوتر الممتلئ بتجاعيد متعرجة عند الجبين. اقتربت منه وصافحت يده بخفة قبل أن نذهب إلى مائدة حجرة الطعام، التي يجلس إليها بابا وماما. بعد أن أتم بابا غسل يديه في وعاء أمامه به ماء تمسك به سيسي، انتظر حتى جلست أنا وجاجا في مواجهته، وبدأ صلاة المائدة التي استمرت عشرين دقيقة، سأل فيها الرب أن يسبغ نعمته علينا ويبارك طعامنا، ثم نادى على السيدة العذراء بألقاب مختلفة، ونحن نردد خلفه "صلي من أجلنا". كان اللقب المفضل لديه "سيدة الشعب النيجيري وحاميته"، وهو اللقب الذي منحه إياها، وكان قد أخبرنا من قبل انه إذا ما لجأ إليها النيجيريون كل يوم، فإن نيجيريا لن تجد نفسها في يوم ما تسير في ضعف ووهن وكأنها على وشك السقوط، ولن تشبه إنساناً ضخماً يمشي على قدمين واهنتين لطفل صغير.
طعام الغداء الطيب المذاق الذي أعدته سيسي يتكون من معجون البطاطا الرقيق الهش وحساء سميك القوام من أوراق نبات أونجبو داكن الخضرة وبداخله قطع من لحم البقر ومجروش السمك المجفف. والصمت يخيم علينا أثناء تناولنا الطعام، كنت أشكل بأصابعي كرة صغيرة من معجون البطاطا وأغمسها في الحساء وأضيف إليها قطع لحم ومجروش سمك ثم أضعها في فمي. كنت واثقة من جودة مذاق الطعام، لكنني لم أستطع تذوقه جيداً.
- الملح من فضلك
قال بابا. همَّ كل منا بتلبية طلبه في نفس الوقت. جاجا وأنا لمسنا آنية الكريستال الصغيرة، وتلامست أصابعنا برفق، فترك الآنية لي ووضعتها أمام بابا. خيم الصمت ثانية على المائدة واستمر لوقت أطول.
- أحضروا عصير الكاجو عند الظهر وكان طيب المذاق.. أعتقد أنه سيلقى رواجاً
أخيراً تحدثت ماما. قال بابا:
- اطلبي من الفتاة أن تأتي به
ضغطتْ ماما على زر جرس يتدلى من أعلى المائدة متصل بسلك كهربائي يتجه إلى السقف، وظهرت على الفور سيسي:
- نعم، مدام؟
- أحضري زجاجتين من الشراب الذي أحضروه من المصنع
- نعم، مدام
كنت أرغب في أن تجيب سيسي متسائلة عن أية زجاجات أو عن مكانها، فقط لمجرد أن يستمرا في حديث يغطي على حركات جاجا المتوترة وهو يقوم بصنع كور من معجون البطاطا. عادت سيسي سريعاً ووضعت الزجاجتين بجانب بابا. كان على السطح الخارجي للزجاجتين العلامة التجارية حائلة اللون ذاتها الموجودة على كل منتجات مصانع بابا مثل رقائق ويفر، وبسكوت الكريم، وزجاجات العصير، ورقائق البطاطس بنكهة الموز. صب بابا العصير الأصفر لكل منا، فأمسكتُ بسرعة كوبي الزجاجي ورشفت رشفة. كان مذاقها أقرب إلى الماء. أردت أن أظهر حماساً للشراب، فربما إذا تحدثت عن مذاقه الجيد، قد ينسى بابا أنه لم يعاقب جاجا بعد.
- مذاقه جيد جداً، بابا
حرَّك وجنتيه المنتفختين يميناً ويساراً، وقال: "نعم، نعم". قالت ماما:
- مذاقه يشبه مذاق الكاجو الطازج
قل شيئاً أرجوك.. هذا ما أردت أن أقوله لجاجا الذي من المفترض أن يقول شيئاً الآن لكي يشارك في الحديث، ولكي يقول كلمة مجاملة لمنتج بابا الجديد، كما كنا نفعل دائماً في كل مرة يأتي موظف من أحد مصانعه ومعه عينة من منتج جديد.
- يشبه مذاق النبيذ الأبيض
أضافت ماما التي بدا عليها شيء من عصبية يمكنني استشعارها، ليس فقط في كون شراب الكاجو لا يمت بصلة إلى النبيذ الأبيض، وإنما أيضاً في صوتها المنخفض عن المعتاد. "نبيذ أبيض".. قالت ماما ثانية وهي تغلق عينيها من فرط المذاق الطيب.. "نبيذ أبيض بطعم الفاكهة". وكرة معجون البطاطا تنزلق من أصابعي إلى طبق الحساء، قلت: "نعم".
كان بابا يحدق النظر في جاجا..
- جاجا ألا تشاركنا الشراب؟.. أليست هناك كلمات في فمك؟
سأل بلغة الإجبو.. إنها علامة لا تبشر بخير، فهو من النادر أن يتحدث بالاجبو. برغم تحدثنا جاجا وأنا بها مع ماما في المنزل، إلا أنه لم يكن يحب أن نتحدث بها أمام أحد، وكان يقول: علينا أن نبدو متحضرين أمام الآخرين ونتحدث الإنجليزية.
العمة أفيوما شقيقة بابا، قالت عنه ذات مرة ان جزءاً كبيراً منه ينتمي إلى المستعمر الإنجليزي.. قالت عنه ذلك بطريقة لطيفة متسامحة وكأن الخطأ ليس خطأه، وكأنها تتحدث عن شخص مريض بالملاريا ويهذي بكلام غامض غير مفهوم.
- أليس لديك شيء تقوله، جاجا؟
مرة ثانية سأل بابا.
- لا توجد كلمات في فمي
أجاب جاجا.
- ماذا؟
في عيني بابا ظل سحابة قاتمة، هو نفسه ظل السحابة القاتمة في عيني جاجا.. هو الخوف إذن قد غادر عيني جاجا إلى داخل عيني بابا.
- ليس لدي شيء أقوله
قال جاجا. "العصير جيد".. بدأت ماما الكلام. دفع جاجا مقعده إلى الخلف..
- شكراً للرب.. شكراً لك بابا.. شكراً لك ماما
استدرتُ وحدقت فيه.. على أقل تقدير لقد قدم الشكر على النحو الصحيح وبنفس الطريقة التي نتبعها بعد الانتهاء من الغداء، لكنه أيضاً فعل الشيء الذي لم نفعله أبداً: لقد غادر مائدة الطعام قبل أن ينتهي بابا من شعائر صلاة ما بعد تناول الطعام.
- جاجا!
قال بابا وظل السحابة القاتمة يتزايد وينتشر في عينيه، بينما كان جاجا يتابع سيره خارج حجرة الطعام ومعه طبقه. همّ بابا بالنهوض ثم عاد ليسترخي من جديد على مقعده وقد تدلت وتراخت وجنتاه.
أمسكت بكوبي الزجاجي، وحدقت في العصير الأصفر ذي النكهة غير الطيبة وتجرعته دفعة واحدة دون أن أعلم ما الشيء الذي يتعين عليّ عمله، فهذا الذي حدث لم يحدث أبداً طوال حياتي، ولذا كنت على يقين بأن جدران المجمع السكني سوف تتداعى وتسحق أشجار الياسمين الهندي، وقد تنشق طبقة السماء، وينكمش السجاد الإيراني الذي يغطي أرضية الرخام. كنت أجزم أن شيئاً ما سيحدث لكن الشيء الوحيد الذي حدث هو أنني شرقتُ بالماء، وداهمني سعال اهتز له جسدي كله، مما دفع بابا وماما إلى الاندفاع نحوي. سارع بابا بالخبط على ظهري براحة يده أكثر من مرة، بينما ماما تدلك كتفي وتقول:
- قاومي حاجتك إلى السعال يا حبيبتي
في ذلك المساء، مكثتُ في السرير ولم أتناول العشاء مع العائلة، ورغم أنني تعافيت من نوبة السعال إلا أن وجنتي كانتا متقدتين، وداخل رأسي كانت كائنات غريبة الشكل تتلاعب بكتاب مقدس مجلد بني اللون، وكل من هذه الكائنات يلقي بالكتاب إلى الآخر. حضر بابا إلى حجرتي وهبطتْ حشية السرير على إثر جلوسه عليه، وبدأ يداعب برفق وجنتي، ثم سألني ما إذا كنت أريد شيئاً. خيم علينا الصمت وأنا وماما أيدينا متشابكة. بابا الذي يتنفس دائماً بصوت عال، هو الآن لاهث الأنفاس، حتى انني فكرت فيما يشغل تفكيره ويجعله وكأنه يركض من شيء ما داخل عقله. لم أتطلع إلى وجهه، لأنني لم أرد أن أرى الطفح الجلدي الذي انتشر في كل بوصة منه حتى بدا جلد وجهه منتفخاً.
في وقت لاحق، أحضرتْ ماما لي حساءً قوي الرائحة، لكن نكهته العطرية أصابتني بالغثيان، وبعد أن أفرغتُ ما في جوفي في الحمام، سألت ماما عن جاجا الذي لم يأت ليراني منذ وقت الغداء.
- في حجرته لم يهبط لتناول العشاء
كانت تربِّتْ بلطف على شعري بداية من منبته في فروة الرأس وحتى نهاية أطرافه، مرجئة تضفيره إلى الأسبوع المقبل. شعري الكثيف جداً الذي دائماً أحكم ربطه من الخلف بعد أن تجري فيه ماما المشط لن أستطيع تمشيطه الآن حتى لا أثير الكائنات الغريبة التي تتلاعب داخل رأسي بكتاب القداس المجلد بني اللون.
شممتُ رائحة مزيل للعرق تحت إبطيها ونظرتُ إلى وجهها البني المتصدع الخالي من أي تعبير، فلاحظتُ ندوباً خشنة في جبينها لم أرها من قبل.. سألت:
- هل ستأتين بتماثيل جديدة بدلاً من المكسورة؟
قالت: "لن آتي بغيرها". ربما أدركت ماما أنها لن تحتاج التماثيل بعد الآن.. ربما عندما ألقى بابا بكتاب القداس في اتجاه جاجا لم يكن الأمر مجرد تحطم تماثيل، بل تحطم كل شيء.. لقد أدركتُ أنا ذلك بعد أن منحت نفسي وقتاً للتفكير فيما حدث.
أرحتُ جسدي على السرير بعد ذهاب ماما، وأطلقت العنان لعقلي لكي يفتش في السنوات التي كنا فيها، جاجا وماما وأنا، نتحدث إلى أرواحنا وأنفسنا أكثر من حديث شفاهنا، حتى كانت بداية التغير في نسوكا، حيث العمة افيوما وحديقتها الصغيرة المجاورة لشرفة شقتها وكسرهما لحاجز الصمت. الآن يبدو لي تحدي جاجا الهش خفيف الصوت أشبه بتحدي زهرات الكركديه الأرجوانية ذات العبير الخافت والغامض في حديقة العمة افيوما.. ذلك النوع المختلف من التحدي الذي ينشد نوعاً مختلفاً من الحرية، ليست كتلك الحرية التي تنشدها الحشود الملوحة بأوراق الأشجار الخضراء في ساحة المباني الحكومية بعد الانقلاب.
لكن المدى الذي ذهبتْ إليه ذاكرتي لم يقف عند حد نسوكا، بل إلى ما قبلها، عندما جفلتْ وروعتْ فجأة زهرات الكركديه الأرجوانية في فناء منزلنا باللون الأحمر.