القاهرة 15 اكتوبر 2014 الساعة 03:28 م
?"?زوجته ما زالت بأخلاقها البدوية كيوم عرفها?.. ?وهذا هو مبعث سعادته معها طوال هذه المدة من حياتهما الزوجية?. ?لم يحدث من قبل أن اطّلع منها علي ما يريبه أو يجعله يشك في وفائها له?. ?رغم أنه بعيد عنها بسبب العمل،? ?إلا أن جلسة واحدة معها تجعله يعرفها جيدا ويعرف كل ما قامت به في? ?غيابه وكأنه يري ذلك بأم عينيه?.?
في كل مرة يرجع إلي البيت يشتري لها كل احتياجاتها علي عادة أهل القرية،? ?فلا يبقي لها من داع للخروج إلا حالات نادرة تبررها له عند عودته?.. ?حتي علاقاتها في القرية محدودة جدا،? ?هذا ما أمرها به قبل? ?غيابه?. ?خوفا من ثرثرة النساء التي تفتح عمل الشيطان?.. ?تبدأ بالضحك والغيبة والنميمة وقد لا تقف عند هذا الحد?.. ?من حُسن حظه أن القرية ليس فيها الكثير من العزّاب؛ فالجميع يغادر للعمل بالمدينة،? ?إلا القليل من أصحاب الحقول?. ?أولئك يمضون سحابة يومهم في العمل ولا يعودون إلا أشباحا تسبقهم البهائم في الظلام الدامس?.?
لكن شخصا واحدا يثير في نفسه الريبة ويجعله مشوش البال?.. ?يتذكره كلما هَمَّ? ?أن يرسل شيئا لزوجته،? ?لو أن في القرية ساعيا للبريد لكفاه هذه الشجون?. ?لكن لحد الآن لا يزال مُقَدّم القرية نفسه هو الذي يتكفل بإيصال ما يرسل إلي زوجته?. ?وهذا ما ينغص عليه حياته?. ?يود لو كان بإمكانه أن لا يبعث لها شيئا علي الإطلاق?. ?وليبحث المقدم حينها عمن يحملق فيها بعينيه الجاحظتين?.. ?أخبرته أنه أول مرة سلّمها رسالة،? ?شكرته كثيرا وهو واقف بالباب?.. ?ظل ينظر إليها وهو يبتسم كأنه ينتظر منها شيئا?.. ?شكرته مرة أخري دون أن يكون بإمكانها إغلاق الباب؛ إذ ظل متكئا علي حافته يطالعها? ?بعينيه?. ?قبل أن تدخل لحالها وتتركه واقفا كتمثال?.?
قبل هذا الحادث كانت الحياة عادية وجميلة وآمنة?. ?لكنه بعد ما سمع من زوجته ما سمع،? ?لعن الطريق التي أوصلته يوما إلي المدينة?. ?وتمني لو ظل يرعي نعجة أو نعجتين ولم يغادر بيته يوما?. ?كيف يمكنه أن يوقف المقدم عند حده ويعلمه حفظ حرمات الناس؟ وهو كلب حراسة للسلطة،? ?وبيده الأمر والنهي علي مثله من الضعفاء?. ?وقد يتدخل حتي لقطع رزقه?.. ?سيدخل حربا هو الخاسر الأكبر فيها?. ?فكر في زوجته الطيبة وأنه سيكون أبا بعد شهور قليلة?. ?ثم توصل بهدوء إلي أن الحل هو تهشيم رأس المقدم إن بدر منه أدني شيء مرة أخري?..?
كانت هذه بداية ريبته وشكوكه?.. ?لماذا يتدخل الشيطان دائما ليعلب لعبته المحببة ويعكر صفو العيش؟ هذا مما يعجز عن استيعابه تماما?. ?مثلا لماذا لا يوجد ساع للبريد في قريته؟ كان بإمكانه أن يشتغل هو نفسه بهذه الخدمة دون حاجة للذهاب إلي المدينة أو إرسال الرسائل؟ ولماذا يتمتع المقدمون دائما بعينين جاحظتين أكثر من الناس؟ هل هي مواصفات مطلوبة لقبولهم أم يحدث هذا بكثرة تتبعهم لعورات الناس وأسرارهم؟
الدنيا بنت الكلب?.. ?ملعونة?.. ?لا تدوم علي حال?.. ?زوجته طيبة للغاية،? ?ما زالت تغمره بالكثير من الرضا والحنان?.. ?لكن الشيطان لا يعرف طيبوبة زوجته?.. ?وإلا كيف يمكن تفسير ما وقع لها مؤخرا مع المقدم؟ كان قد حمل إليها رسالة زوجها الأخيرة?. ?لكنه وجدها فرصة سانحة لما فكر فيه من قبل?. ?دق الباب بلطف? ?غير معهود منه،? ?وتراجع إلي الوراء?.."?
أحسست بألم في ظهري من فرط انحنائي علي الورقة وأنا أكتب هذه القصة،? ?اعتدلت في جلستي والتفت إلي الشخص الذي يجلس بجانبي?.. ?أدركت أنه كان يقرأ كل ما كتبته دون أن أنتبه لذلك?. ?التقت عينانا معا?..?لم يبتسم ولم يقطب?.. ?وإنما ظل يحدق فيّ? ?بملامح محايدة وكأنه يستنكر توقفي عن الكتابة وقطع متعته في قراءة القصة?.. ?يظهر من وجهه أن بدوي مغرق في بداوته،? ?وأنه علي الرغم من أنه ركب معي من المحطة بوسط المدينة،? ?إلا أنه ما زال لم يلطّف طباعه بمجاملات المدينة الكاذبة ونفاقها المستمر?..?
لايزال ينظر إلي?.. ?شعرت بالضيق من فضوله الوقح?.. ?التفتُ? ?إلي النافذة،? ?كانت الحافلة تصرع السكون بزعيقها وتقصي وراءها أشجار الطريق باستكبار عنيد?.. ?تراءي لي المكان منبسطا بمناظر ربيعية تقدح? ?غرور الشعر والقوافي?. ?أجَّلْتُ? ?إكمال القصة إلي وقت آخر،? ?وأخرجت ورقة جديدة وقد بدأت مطالع شعرية تتزاحم في ذهني?.. ?تحاشيت نظرات جليسي المستمرة خوفا من أن تضيع مني فرصة القصيدة بسبب بدوي فظ?.?
وما إن وضعت القلم علي الورقة لأكتب؛ حتي تململ في ضيق ظاهر?.. ?تنحنح مرتين بطريقة مصطنعة،? ?وفرك يديه الخشنتين وكأنه يتأهب لصراع?. ?ثم مص شفتيه وهو يلتفت إلي مباشرة ويفاجئني?:?
?-? وحكاية زوجتي لمَ? ?لم تكملها؟ ماذا عن المقدم؟
ظننته أحمق لكن لا بد من الإجابة?.. ?لذلك? ?غالبت ذهولي،? ?وقلت بشيء من اللباقة والهدوء حتي ولو لم يفهم? :?
?-? انظر?.. ?الربيع في أيامه الأولي وإن كنت تحب الشعر فبعد قليل ستكون أول من يسمع قصيدتي الجديدة?..?
ثم سكتُ?..?وبدا واجما كأنما لم يفهم ما قلت?.. ?ربما?.. ?أو لأني لم أرْوِ? ?فضوله النهم?. ?وحتي أغير طريقته البوليسية في الحديث؛ سألت?:?
?-? أنت من هذه القرية؟ طبيعتكم رائعة?..?
قاطعني? ?غير عابئ بقولي الأخير?:?
?-? خَلّ? ?عندك شعرك وبوحك?. ?أريد أن أعرف ماذا فعل المقدم?.. ?أظنك تفهم قصدي؟
الحق أني تأكدت أنه ليس أحمق فقط ولكنه قاس وعنيف أيضا?.. ?تمنيت أن أطلق فيه يدي،? ?وأنفث في وجهه سبابي القديم?. ?كانت الحافلة هادئة وبعض الركاب لوي النوم أعناقهم في وضعيات مختلفة?.. ?بذلت ذخيرة هدوئي كاملة لأبتسم له وأداريه?.. ?أمسكت بيده وأخذتها نحوي?.. ?وقبل أن أنطق كان يوجه سبابته نحوي ويقول في انفعال?:?
?-? لا تحاول المراوغة?.. ?لقد قرأت كل شيء?.. ?لن أحاسبك علي أنك تكتب عني دون إذن?.. ?ولن أسألك كيف اطّلعت علي هذا الأمر?..?كل ما أريده هو أن
أعرف الحقيقة فيما يراودني من شكوك?.. ?ذاك المقدم ذئب شرس قادر علي الإيقاع بالضعفاء?.. ?لا تحاول أن تكتم عني شيئا?.?
أُسقط في يدي،? ?كَفَرت بحمقه وآمنت بأنه في تمام وعيه?.. ?بل أنه قرأ ما كتبت وفهمه وهو يطلب المزيد?. ?كان صوته يرتفع شيئا فشيئا،? ?وبدت لي أعناق الناس تتطاول من خلف الكراسي مستفسرة عما يقع?..?
شجعته عيون الناس المسَلّطة عليه من كل جانب?.. ?وبجرأة الممثل الذي يجد نفسه فجأة في قلب الحدث،? ?ولا فرصة له للتراجع،? ?أمسك بخناقي وهو يكزّ? ?أسنانه?:?
?-? أتمم النهاية?.. ?ماذا حدث لزوجتي?..?سأحرق القرية كاملة إن كان قد أصابها مكروه?.. ?وستكون أنت فتيلها إن لم تكمل?..?قل?..?
أيقنت أن الأمر جد لا هزل فيه?. ?وأن قارئي المفترض تحول إلي خصم لدود متلهف لمعرفة نهاية قصة زوجته التي لا أعرفها ولا أعرف قصتها?.. ?لا واحد? ?غير الله عالم بالأسرار?.. ?وليس? ?غيره يصنع أقدار الناس ويعلم البداية والنهاية?.. ?اختلطت في داخلي مشاعر موءودة من الدهشة والضحك والبكاء?. ?كيف يمكن لقصة متخيلة أن تتطابق تماما مع تجربة حية؟ وحتي إن تطابقت فكيف للقاص أن يطّلع علي الغيب ويصنع نهايتها الحقيقية مثلما ينتظر مني هذا البدوي المسكين ؟ هل تحوّل القاص إلي إله صغير؟?.. ?أستغفر الله?.. ?فكرت هل يمكن أن تتاح للقصة هذه الإمكانية في المستقبل? !! ?ربما?.. ?فرحت لهذا الخاطر? ?غير المتوقع?.. ?لكنني تذكرت أنني في ورطة لا أحسد عليها?. ?فأجلت هذا التفكير إلي أن أعرف إن كنت سأخرج حيا لأكتب قصة بعد هذا اليوم?.?