القاهرة 14 اكتوبر 2014 الساعة 03:27 م
تنشر مصر المحروسة فصلا من رواية الافق للكاتب والمفكر الفرنسي باتريك مودريانو ، ترجمة الكاتبة والفيلسوفة كوليت مرشليان .
منذ فترة من الزمن بدأ بو سمانز يعيد التفكير بحقبات من شبابه، مشاهد او حلقات بلا نهايات مقتطعة بشدة، كذلك وجوه بلا اسماء ولقاءات خاطفة.
كل هذا كان ينتهي الى ماض بعيد ولكن بما ان هذه اللقطات القصيرة لم تكن مربوطة ببقية حياته، استمرت معلقة في حاضر أبدي، لم يتوقف أبداً عن طرح اسئلة حولها لكنه لم يحصل على اجابات على الاطلاق.
هذه البقايا ستبقى بالنسبة له على الدوام مثل الالغاز.
وكان قد بدأ بوضع لائحة كمحاولة منه لإيجاد بعض النقاط الرئيسة: تاريخ، مكان محدد، اسم معين كان قد نسيه.
كان قد اشترى دفتراًَ صغيراً لتدوين الملاحظات وراح يحمله في جيب سترته الداخلية، ما كان يسمح له بتدوين اي ملاحظة في كل مرة تطل ذكرى منسية في رأسه وفي اي وقت من النهار.
بدأ يشعر بانه تحت وطأة لعبة تختبر طول باله.
ولكن، في كل مرة كان يعود ادراجه الى الماضي، كان يشعر بالندم: لماذا اختار هذا الطريق وليس سواه؟ لماذا تخلى عن هذا الوجه او هذا الظل لمرأة تمسك بيدها حبل كلبها ويسير هذا الاخير وراءها وهي ترتدي قبعة من الفرو على رأسها؟ تملّكه شعور بالدوران في رأسه مجرد انه
فكر بما كان يمكن ان يحصل ولم يحصل.
هذه المقتطفات من الذكريات تعود الى سنوات من الحياة التي يجد فيها دوماً الانسان انه امام مفترقات جذرية في خياراته وعدد كبير من الممرات تفتح امامه وعليه ان يختار وان يتخطى حيرته.
الكلمات التي ملأت صفحات دفتره الاولى تذكر جميعها بمقالة كتبها حول «المادة القاتمة» والتي ارسلها الى مجلة تختص بعلم الفضاء.
ووراء الاحداث المحددة والوجوه الأليفة، بدأ يشعر بكل ما اصبح مصبوغاً بهذه المادة القاتمة: اللقاءات المختصرة، المواعيد الفاشلة الرسائل الضائعة، الاسماء وارقام الهاتف التي كانت كلها في مفكرة نسيتها، وهناك ايضاً كل الذين التقيتهم من دون ان تدري.
وتماماً كما في عالم الفضاء فان هذه المادة القاتمة تغلب وتتسع اكثر من الجزء المرئى من حياتك، لتصير لا متناهية.
وهو ما كان يفعل اكثر من رصد بعض الالتماعات والاشعاعات البسيطة وسط هذه الظلمة.
اشعاعات بسيطة وضئيلة الى درجة انه كان يغمض عينيه ويحاول ان يركز اهتمامه ليبحث عن تفصيل محرض يبني على اساسه المجموعة، لكن لم يكن هناك من مجموعة بل مجرد اجزاء، او غبار نجوم.
اراد ان يغوص في هذه المادة المظلمة ليربط من جديد الحبال المقطوعة ببعضها فيعود قليلاً الى الوراء ويلتقط الظلال ليفهم اكثر عنها.
مستحيل اذا لم يعد امامه سوى البحث عن الاسماء. وحتى الاسماء الاولى كانت تفعل سحرها مثل المغناطيس فتجعل بعض الانفعالات المرتبكة تستيقظ وتشع مع انه كان يصعب جعلها واضحة. فهل كانت تنتمي الى الحلم ام الى الواقع؟
ميرويه هل هو اسم عائلة ام اسم اول؟ لا يجب التركيز بقوة على هذا التفصيل كي لا يفلت منك الاشعاع.
كان امراً جيداً انه سجله في دفتره ميرويه احاول ان ادير اهتمامي نحو شيء آخر، انها افضل طريقة لأعود واحصل على الذكرى بسهولة وبشكل طبيعي. ميرويه.
راح يتمشى على طول شارع الاوبرا، وكانت الساعة نحو السابعة مساء.
هل هي الساعة التي احاول ان احددها هنا في هذا الشارع القريب من الجادات الطويلة ومن شارع البورصة؟
الآن يتوضح امامه وجه ميرويه انه شاب يافع يرتدي سترة وتبرز على كتفيه خصلات شعره الذهبي اللون، حتى انه يراه يرتدي بزة خاصة بالموظفين الواقفين أمام المطاعم أو أمام الفنادق الضخمة، وهو يمتلك وجه طفل شاخ باكراً.
كذلك وجه ميروفيه يبدو ذابلاً مع صغر سنه يبدو اننا ننسى الأصوات ايضا مع مرور الوقت.
ومع هذا، هو يسمع صوت ميروفيه، ويتذكر تلك النبرة الحديدية والمحددة لتتلفظ بكلمات جريئة ووقحة، تلك النبرة التي تطمح بأن تكون مثل نبرة «غافروش» أو اي «داندي» متأنق. وفجأة يتحول الى ضحكة عجوز.
كان ذلك الصوت يصل من ناحية البورصة، نحو الساعة السابعة مساء عند خروج الموظفين من مكاتبهم.
راح الموظفون يتوافدون الى الخارج مثل سيول هائجة فيصلون اليك ويأخذونك بالفيضان الهائل. هذا «ميروفيه» يخر
ج مع اثنين او ثلاثة من المجموعة، ويبدو صبياً ضخماً أبيض البشرة ملاصقاً لميروفيه ويتحدث بشكل متواصل وبلهجة متوحشة.
كذلك يرافقه شاب أشقر ضعيف الوجه ويضع نظارات ملونة على عينيه وهو يلازم الصمت. المسن فيهم كان ليصل الى الخامسة والثلاثين ويلاحظ بوسمانز انه يتذكره أكثر من وجه ميروفيه لما تميز به من وجه مليء يتوسطه أنف أفطس مثل كلب «البولدوغ» وكان شعره البني اللون متراجعاً الى الوراء.
لم يكن يبتسم على الاطلاق وكان يبدو سلطوياً الى أقصى درجة وظن بوسمانز انه فهم تلقائياً ان ذاك الرجل هو مدير المكتب.
كان يتحدث معهم بقسوة وكأنه يلقنهم درساً والآخرون كانوا يستمعون اليه جيداً مثل تلامذة مجتهدين. ربما حاول ميروفيه من وقت الى آخر تمرير ملاحظة وقحة، أما البقية فلم يذكر بوسمانز ابداً انه رأى اي محاولة ضمنها مجرد ظلال.
هذا الشعور السيء الذي كان ينتابه عندما يتذكر اسم ميروفيه عاد وأحس به تماما عندما تذكر كلمتين محددتين: "الشلة السعيدة"
ذات ليلة وكان بوسمانز كعادته ينتظر مارغريت لوكوز أمام ذاك المبنى، خرج ميروفيه برفقة مدير المكتب والشاب الاشقر الذي يضع النظارات الملونة وتوجهوا ناحيته، فسأله مدير المكتب:
هل ترغب في ان تنتمي الى «الشلة السعيدة»؟
وارتسمت على وجه ميروفيه ابتسامة العجوز تلك، لم يعرف بوسمانز بما يجيب. الشلة السعيدة؟
الآخر، بوجهه القاسي الملامح، قال: «نحن نشكل الشلة السعيدة».
واعتبر بوسمانز ان في الأمر ما يدعو الى الضحك بسبب هذه اللهجة المستفزة التي استخدمها.
وحين تذكر بوسمانز هؤلاء الثلاثة تخيلهم وهم يمسكون كل واحد بعصا ويتمشون على طول الشوارع، ومن وقت الى آخر، يضربون أحد المارة بشكل فجائي.
وفي كل مرة، كان يسمع صوت ميروفيه وهو يضحك ويقول: فيما يختص بالشلة السعيدة، دعوني أفكر بالأمر..
كان الآخرون يشعرون بالخيبةفي العمق لم يكن يعرفهم بقوة وقد وجد نفسه معهم فقط نحو الخمس او الست مرات.
كانوا جميعهم يعملون مع مارغريت لوكوز وكانت هي التي عرّفته عليهم وكان الرجل الأسمر الذي يمتلك رأس «بولدوغ» يرأس مارغريت في العمل، وكان لا بد لها ان تكون لطيفة معه، وقد التقوا بها صدفة ذات يوم امام شارع «دي كابوسين» ومعه ميروفيه والاشقر الذي يضع النظارات الملونة كانوا يخرجون من أحد النوادي الرياضية.
اذا بالنسبة الى «الشلة السعيدة»، هل قررت بشأنها؟
كان ميروفيه قد طرح السؤال على بوسمانز بلهجة قاسية وكان هذا الأخير يجد طريقة للافلات منه، ومغادرة الطاولة.
فكر بأن يقول لهم بأنهم مجبر على القيام بمكالمة تلفونية سريعة لكنه كان يفكر ايضا بزميلتهم في العمل مارغريت لوكوز وتأثير ذلك عليها.
وكان يخاف ايضا لانه حتما سيلتقي بهم كلما قدم لمرافقة مارغريت عند خروجها من المكتب بعد انتهاء دوام العمل وراح ميروفيه يصر على بوسمانز بأسلوب عنيف.
كان يقف بعيداً وينتظرها على الرصيف خوفا من ان يجرفه هذا الفيض من العمال حين يخرج هؤلاء من المبنى في الساعة نفسها مع رنين الجرس الطنان الذي يؤكد انتهاء الدوام.
في اللحظات بدأ يخاف من ان يفقدها او ان تضيع منه وسط هذا الحشد وتحسباً لذلك كان قد طلب منها ان ترتدي لباساً مميزاً يمكنه من ان يميزها بين الآخرين: معطفها الأحمر.
شعر وكأنه ينتظر أحدهم أمام سكة القطار ويحاول ان يجد هذا الشخص بين المسافرين الذين يمرون أمامه.
بدأ عددهم يتضاءل هناك بعض الذين تأخروا وينزلون من المقطورة الأخيرة، وهو لم يفقد الأمل بعد بأن تخرج...
وكانت قد عملت قرابة اسبوعين في فرع «ريشوليو انتريم» وهو غير بعيد، من ناحية «نوتردام دي فيكتوار».
كان ينتظرها هناك ايضا، عند الساعة السابعة مساء، في زاوية شارع رادزيويل.
كانت وحيدة حين خرجت من المبنى الأول الى اليمين، وحين نظر اليها وهي تتقدم ناحيته، فكر بوسمانز ان مارغريت لوكوز لن تتعرض بعد الآن الى الضياع وسط الحشد، ذاك الخوف من الفكرة الذي غالبا ما راوده وبشكل متقطع، ومنذ لقائهما الاول.
كان يسير باتجاه ديافنباكستراس تساقط المطر بقوة، من ذاك المطر الصيفي وقد بدأ يهدأ بعد ان راح هو يحاول ان يختبئ تحت الأشجار.
لفترة طويلة، كان يفكر بأن مارغريت قد ماتت ربما، ولكن ما من سبب ذلك، ما من سبب لذلك.
ولا حتى السنة التي شهدت ولادتنا نحن الاثنين حين كانت المدينة تغرق في الحطام اذا ما نظرنا اليها من السماء ولكن فجأة بدأت تنبت زهور الليلك فيها بين الدمار وفي عمق الحدائق.