القاهرة 24 اغسطس 2014 الساعة 03:20
صدق المستشرق الفرنسى جاك بيرك فى مقولتهالشهيرة "تحت كل حجر من أحجار باريس توجد حكاية لشخص مصرى !"فكلما قلبنا فى صفحات التاريخ المرتبطة بمصر وفرنسا وجدنا الكثير من المفكرينالمصريين الذين تركوا بصماتهم بالأرض والثقافة الفرنسية ،وتركت فرنسا بصمتها واضحةعلى فكرهم وطرق حياتهم ،وليس أدل على ذلك من المفكر المصرى العملاق طه حسين ،كلنا تذكر الكاتب المصرى محمد حسين هيكل الذى كتب روايته الأدبية الرائعة "زينب"تلكالتى تنبض بالحياة المصرية الخالصة ،فى أثناء إقامته بباريس ،وهو ما دفعنى إلىالتساؤل حول "كيفية الاحتفاظ بكل التفاصيل الحياتية المصرية صغيرهاوكبيرها فى عمل فنى بينما يتواجد الكاتب بعيدا جسديا عن الوطن الأم ؟!
وفى رأيى أن ذلك يعكس شدة الانتماء ،وشدةالذوبان فى الثقافة المصرية إلى حد نقلها بحذافيرها إلى مجتمع الغربة ، والاستغراقفيها بالكتابة المشبعة بالتفاصيل !
هذه الحالة بكل ما فيها من تداخلات تنطبقانطباقا كاملا مع حالة الكاتب الروائى المصرى الأصل "ألبير قصيرى "الذىولد بالقاهرة عام 1913،وانتقل إلى عاصمة النور عام 1945،حيث عاش حتى مماته فىالعام 2008،هذا المصرى الذى كتب بالفرنسية إلا أنه كان مخلصا لثقافته العربية،فجعل أبطال رواياته جميعا مصريون أقحاح يصولون ويجولون بالأحياء المصرية بجميعالمدن المصرية ،وحاراتها المختلفة !!
يختلف "البير قصيرى "عن الكاتب الكبير"محمد حسين هيكل "فى أن الأخير لم يعش سوى بضعة أشهر بباريس ،أى أنهاكانت بالنسبة إليه مجرد مرحلة انتقالية تنتهى بحصوله على درجة الدكتوراة فى الاقتصادمن جامعة "السوربون "عام 1910،وقد استغل "هيكل"تلك الفترة الانتقاليةفى كتابة روايته الشهيرة التى تحولت إلى فيلم أكثر شهرة فيما بعد وهى رواية"زينب "التى تعد أول رواية مصرية فى العصر الحديث ،والملفت للنظر أن هذهالرواية التى كتبها صاحبها بفرنسا عكست شخصية الكاتب الغارقة حتى أذنيها فى الريفالمصرى !!فهل كتب هيكل رواية "زينب"لكى يذكر نفسه بالعادات والقيمالمصرية الأصيلة فيتشبث بها ضد طوفان القيم الغربية التى واجهها للمرة الأولى فىحياتها ؟؟!!لست أدرى ...
إن الاستغراق فى واقع الوطن الأم على الرغم منالبعد المكانى هو ما جعلنى أربط فكريا بين الكاتبين العملاقين مع الأخذ فى الاعتباراختلافهما فكريا وزمانيا : فلقد أدهشنى احتفاظ "هيكل "بذاكرته نابضة بكلمعالم الحياة الريفية المصرية فى زمنه ،وتسجيله لها بحذافيرها فى روايه"زينب"رغم البعد المكانى ،بينما أذهلتنى قدرة "البير قصيرى"على الاحتفاظ فى ذاكرته بكل ما عايشه بمصر وحاراتها وسلوكيات أهلها !!
لماذا يترك الكاتب وطنه رغم أن قلبه ينبض بحبها؟يخرج علينا البير قصيرى بأجاباته غير المتوقعة يقول :"لم أترك مصر لكىأهجرها !!لكننى تركتها لأن الأدباء الذين أحببتهم يعيشون بباريس من أمثال"ستاندرال ،مارو ،البير كامى ،جان بول سارتر ،اورانس داريل ،هنرىميلر"!!
وعلى الرغم من احتلاله لموقع متميز بالأدبالفرنسى ،وتصدر رواياته لواجهات المكتبات الفرنسية إلى الحد الذى جعل الكاتبالفرنسى "ايف سيمون "يصفه بذاكرة الأدب الفرنسى الحية !إلا أن"قصيرى "كان يصر على وصف نفسه بالكاتب المصرى الذى يكتب بالفرنسية .
عاش الرجل كفيلسوف متخفى فى ثوب شحاذ بوهيمى ، فقدجعل من الكسل فلسفة وجودية مرتبطة بالأنسان الذى يعى ما حوله تماما ،لكن هذاالأنسان يرفض كل مظهر خادع ،ووصف "قصيرى فى الصحف الفرنسية بأنه أكبر كاتبكسول فى العالم !! لذا ستجد أثناء قراءتك لأعماله أن رواياته وشخصياته المختلفةتتسق تماما مع شخصيته ،وأن هناك شبه تواؤم بينه وبين هذه الشخصيات فكلاهما يبحث عنالسعادة الحقيقية التى تتجلى بوضوح فى كلمة واحدة لطالما نادى بها "ألبيرقصيرى " وهى (الحرية ) ورفض المسيمات الفارغة وكل القوانين !! فشخصيات أبطالهقد تكون مهمشة اجتماعيا كالللصوص والمدمنون والمشردون ،لكنهم بشر يحافظون علىالكنز الوحيد الذى يملكونه وهو (آدميتهم) فهم يحرصون على عدم السقوط فى خندقالمادة ،أو التملك ،أو السلطة !!أى أنها شخصيات تعى تماما مصائرها ، وتعلم أنآدميتها هى الشىء الوحيد القادر على البقاء فى مواجهة تفاهات وسخافات العالم منقوانين ،وسلطة ،ووالتملك ...
وظل "قصيرى "فى حياته يحمد الله لأنهلم يحمل يوما بطاقة بنكية ،أو يمتلك منزلا أو سيارة !!لذا قضى عمره حتى يوموفاته بفندق "لولويزيانا "المتواضع بشارع سان جيرمان الباريسى ، نائيابنفسه عن التعامل مع الآفات التى يعتقدها أبطال رواياته ،كالتملك الذى اعتبر أنهيجعله عبدا ، فكان لا يكتب إلا عبارتين فى الأسبوع ،ولايكتب إلا رواية كل عقد منالزمن لذا كان انتاجه ضئيلا ولكن مؤثرا ومهما إلا أنه ظل حتى نهاية عمره عربىالهوى فرنسى الإقامة وهى الازدواجية التى يصعب على المرء تنفيذها .
..... انظروا إليه إنه البير قصيرى الفيلسوف المصرى ذو الملابس الرثة !وهاهو يصرخ بجملته الشهيرةالتى تحمل فلسفته : (ما أجمل أن تكون كسلانا ومزعجا ) ..