القاهرة 24 اغسطس 2014 الساعة 11:47 ص
العصفور الناري، يمرق بين الأغصان وأوراق الشجر.. حفيف جناحيه المتألقين يشيع في الغابة المظلمة جوًا يبعث على الفرح والأمل.. صرخات وأنين ونواح وأصوات غضب مكتوم، تصدر من أعماق الغابة.. أوراق الشجر من فوق الأغصان ساكنة وليس من ثمة نسمة في الهواء.. السجناء والمعذبون
في انتظار المخلص.. الشجرة المقدسة، التي تحتوي في داخلها السر، تعطي نفسها وسرها للقادم النبيل والشجاع.
على مسرح دار الأوبرا الملكية في كوفنت جاردن بلندن، قدمت فرقة الباليه الملكية "ذي رويال باليه" عرض العصفور الناري"، موسيقى "إيجورسترافنسكي" عن قصة من الفولكلور الروسي، كتبها وصمم رقصاتها "ميشيل فوكين" الراقص، ومصمم الرقصات المبدع، وأحد الرواد العظام لفن الباليه في القرن العشرين، والذي قدم باليهات عديدة منها: حلم ليلة صيف، لي سلفيد، كليوباترا، شهرزاد، بتروشكا. أضاف "ميشيل فوكين" عنصر التعبير في الرقص إلى فن الباليه، وجعل من الرقص انعكاسًا لنفسية الراقص، ولم يتدن بفن الباليه إلى مجرد حركات بهلوانية ورياضية، وأكد على أن تستوحي الموسيقى نفس الطابع التعبيري للرقصات للتعبير عن المشاعر والعواطف التي توحي بها حركات الرقص.
باليه "العصفور الناري"، قدمته فرقة "دياجيليف" للباليه لأول مرة على مسرح دار أوبرا باريس في 25 يونيه 1910. صمم الديكورات والملابس "الكسندر جولوفين". وقامت "تامارا كارسافينا" بدور "العصفور الناري"، و"ميشيل فوكين" قام بدور "إيفان تساريفيتش". وفي ذكرى مرور خمسة وعشرين عامًا على وفاة "ديا جيليف"، قدمت فرقة الباليه الملكية "العصفور الناري" على مسرح "أمباير" في ادنبره باسكتلندا في 23 أغسطس 1954، وفي هذا العرض قامت "مارجو فونتين" بدور العصفور الناري، وقام "ميشيل سومز" بدور "إيفان"، و"فريدريك آشتون" بدور الساحر "كوتسيش"، و"سفيتلافا بيريوسوفا" بدور" تساريفنا".
تبدأ الأوركسترا العزف بافتتاحية تشترك فيها مجموعة الآلات الوترية والنحاسية والإيقاعية وآلات النفخ الخشبية، ينقلنا فيها "سترافنسكي" إلى جو سحري تشيع فيه نغمات هي مزيج من أصوات بشرية.. أنين، وحشرجات، وعويل، وصيحات ألم، ووقع أقدام، ونداءات غامضة تختلط بأصوات كأنها صادرة من عالم آخر.. إلى جانب خشخشات أوراق شجر، وخرير مياه، وهزيم رعد، ورفرفات خافتة لجناحي طائر يعلو حفيفها بالتدريج وتزداد وضوحًا
وقوة.
يرتفع الستار عن غابة يلفها الظلام من كل جانب. تتوسط المسرح شجرة تفاح تتألق بالضوء والوهج ومحملة بالثمار. من بين أوراق وأغصان الشجر يظهر طائر ذو جناحين في لون البرتقال الأقرب إلى الاحمرار. الطائر الناري يرقص على نغمات المتتابعة الأولى التي تتناثر من مختلف آلات الأوركسترا، تلك النغمات القصيرة المنطلقة المتوهجة.
إلى يمين المسرح حيث يغيم الضوء، "إيفان تساريفتش" في لباس الصيد، يتسلق الجدار.. يقفز إلى منطقة الظلال، ويشد قوسه مصوبًا سهمه في اتجاه الطائر. تنقلات الطائر وحركته الراقصة السريعة الخاطفة تفشل محاولات "إيفان" لاصطياده، لكنه ينجح أخيرًا في الإمساك به. الطائر محاولاً الخلاص يقاوم إلى أن تخور قواه، ومن ثم يعرض على "إيفان" في مقابل إطلاق سراحه ريشة من جناحه، إذا هو لوح بها فسوف يخف الطائر إلى نجدته وتقديم المساعدة له. يقبل "إيفان" العرض ويطلق سراح الطائر.
تزداد الإضاءة على المسرح، فيكون في الإمكان مشاهدة سياج بين الأشجار ينتهي ببوابتين يختفي ما خلفهما في الظل. في اللحظة التي يغادر فيها "إيفان" المكان، تنبعث نغمات المتتابعة الثانية. اللحن الأساسي على آلة الأبوا حزين وهادئ، يصحبه ظهور اثنتي عشرة فتاة يهبطن على درجات السلم، يدخلن من البوابتين متجهات إلى الشجرة. تنضم إلى الفتيات فتاة أخرى تدل هيئتها على مكانتها السامية بينهن. يقف "إيفان" في الظل ليشاهدهن وهن يتراشقن فيما بينهن الثمار الذهبية لشجرة التفاح.. والموسيقى حائرة مترددة تصور حيرتهن في الأسر ورغبتهن في الانعتاق والخلاص.
يخرج "إيفان" إلى دائرة الضوء، نازعًا غطاء الرأس، وينحني تحية للفتيات، فتحذره رئيستهن "تساريفنا" من تواجده على أرض الساحر الشرير "كوتسيش"، وتطلب منه الابتعاد والنجاة بنفسه. لكن "إيفان" يكون قد تدله في حب "تساريفنا" ولا رغبة له إلا في البقاء إلى جوار من ملكت عليه قلبه. "إيفان" و"تساريفنا" يرقصان حبهما الوليد، يشاركهما الرقص الفتيات الأخريات.
نغمات المتتابعة الثالثة عالية متنافرة. الساحر الشرير وأعوانه يظهرون ويطبقون على "إيفان". الشرير "كوتسيش" يحاول أن ينفث سحره في "إيفان" ليحوله إلى حجر ضمن حجارة القصر الكبير. يتذكر "إيفان" الطائر الناري والريشة الذهبية التي يلوح بها في وجه الساحر. يجيء الطائر
الناري ويقود رقصة مجنونة، إيقاعاتها صاخبة، ينهك بها قوى الساحر وأعوانه.
على الأنغام الرتيبة الهادئة التي تتكون منها المتتابعة الرابعة، يكون الطائر الناري قد جلب النوم العميق إلى الساحر وأعوانه. الطائر الناري يدل "إيفان" على شجرة في جوفها علبة تحوي بيضة كبيرة. ولما يشاهد الساحر العلبة في يدي "إيفان" يتملكه الهلع والخوف، ويحاول يائسًا اختطاف البيضة التي تضم روحه. يقذف "إيفان" بالبيضة إلى أعلى فتنزل مرتطمة بالأرض. يموت الساحر على الفور ويختفي أعوانه. يضاء المسرح ويعود
الطائر الناري من حيث جاء.
الوتريات وآلات النفخ الخشبية تعزف المتتابعة الخامسة والأخيرة. الفتيات والشباب بعد تحررهم من الأسر وسحر الساحر، يرقصون جميعًا فرحين بالخلاص.. يتوجون "إيفان" و"تساريفنا" ملكًا وملكة عليهم.
استطاع "ميشيل فوكين" مصمم الرقصات أن يحقق تصوراته وأفكاره في باليه الطائر الناري، ويخلق الانسجام بين خطوط الديكور وألوان الملابس والتشكيلات الحركية، وبين جو القصة وطبيعة ومزاج الشخصيات. جو من السحر والغموض يلف موسيقى الباليه وديكوراته ورقصاته.
ترجع أهمية باليه "الطائر الناري" لدلالته على طبيعة الثورة في فن الباليه الروسي، ثورة ليست فقط في تصميم الرقصات والمناظر والديكورات، ولكن في كل العناصر المكونة للباليه.