القاهرة 02 اغسطس 2014 الساعة 03:48 م
هند بنت عتبة كانت قاعدة لا بها ولا عليها مع زوجها الفاكه بن المغيرة يتسامران مضطجعان في دارهما المتسعة اتساع المضيفة التي يعرج إليها المسافر لقسط من الراحة وذو الحاجة لقضاء حاجته..
ويشاء السميع العليم أن يخرج الفاكه لبعض شأنه ويعود بعد فترة وجيزة ليفاجأ بواحد ممن كان يغشي دار الضيافة خارجا مهرولا لا يلوي علي شيء، فلم يتمهل الزوج الغيور المستريب ليسأله عن أي من وجهتيه في الدخول والخروج، وإنما اندفع تؤججه نيران غيرته ليهبط علي هند صفعا وركـلا وطردا واتهاما شائنا، ظلت فيه بلا طائل تدافع عن نفسها بين حمم ثورته بأنها لم تر أحدا ولا انتبهت لأحد كي يظن بها الظنون.. وكثر لغط القوم ليختلي بها والدها لتحري الحقيقة بلسانها مزمعا إذا ما كان الأمر له أصل فسيقتلها ويدس علي الفاكه من يقضي عليه لتخرس من بعد موته الأقاويل، أما إذا كان ادعاؤه كاذبا فلا مناص من الذهاب إلي كاهن اليمن ليكشف الستر وتبرأ صاحبة الذيل النظيف.. ويخرج عتبة مع جماعته من بني عبد مناف وفي صحبتهم ابنته هند مع بعض من نسوة تأنس لهن، وعلي الجانب الآخر يخرج الفاكه في جماعته من بني مخزوم.. وعلي مشارف اليمن يلحظ الأب اضطرابا متزايدا علي ابنته فيسألها الإفصاح، فتصارحه بتخوفها من مدي قدرة ذلك الكاهن الذي رحلوا إليه عبر الصحراء شموسا وأقمارا والذي قد يخطئ في حكمه فيدمغ اسمها بالعار إلي آخر العمر بين العرب، فطمأنها الأب اللبيب بأنه سيجري في البدء اختبارا لقدرات الكاهن قبل أن يعهد إليه بالقول الفصل في أمرها.. وقام في السر بدس حبة من القمح في موضع حساس من فرسه فذكر له الكاهن أمرها ومكانها علي الفور، وهنا دفع عتبة إليه بالنساء للنظر في أمرهن.. فجعل يدنو من الواحدة تلو الأخري ليأمرها بالانصراف حتي توقف عند هند فضرب علي كتفها قائلا: انهضي يا ابنتي طاهرة عفية نقيّة، ولتلدين ملكا يقال له معاوية.. ويهرع الفاكه إليها ليعيدها لبيته بعد أن برأت ساحتها فتعرض عنه نافرة قائلة: واللـه لأحرصن أن يكون لي ولد من غيرك.. و.. كان أن تزوجها أبوسفيان فجاء معاوية..
هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ابن كـلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، القرشية ربة الحسن والجمال والرأي والشعر، المعتدة بذاتها وقومها، قوية الخصام، رفيعة المقام، صاحبة الشخصية الطاغية، والأنوثة العارمة التي تبلغ في بعض أحوالها مبلغ الوحشية فكانت تلقب بآكلة الأكباد لأنها لاكت كبد حمزة عم النبي بعد أن قتل رجالها في موقعة بدر قائلة: «أنا أعظم من الخنساء مصيبة» وكان القتلي هم والدها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وأخوها الوليد بن عتبة، وفي يوم أُحُد كانت تضرب الدفوف لتحريض الرجال علي القتال.
هند التي قال عنها أبوهريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وكان معها صبي يلعب فمر راهب فنظر إليه قائلا: إني لأري غلاما إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: «ثَكلْتُه إن لم يسد العرب قاطبة».. هند كما يذكر الأصفهاني في أغانيه قد عشقها مسافر بن أبي عمرو بن عبد شمس وعشقته، وكان أكثر فتيان قريش جمالا وفصاحة وشعرا، ولما شاع خبرهما خافت عليه هند فنصحته ــ لأنه معسر لا يستطيع التقدم لزواجها ــ بالخروج إلي الممالك المجاورة ليصيب مالا لمهرها كي يرضي به أهلها، ويسافر مسافر إلي الحيرة ليقربه إليه ملكها النعمان بن المنذر، وفي تأهبه لعودة مظفرة حاملا مهرها يقدم أبو سفيان في تجارة له ليرحب به مسافر، وكيف لا وفي طيات ثوبه بعض من نسيم الأحبة، ويروي أبوسفيان أخبارا متفرقة خاتمتها خبر زواجه بهند بنت عتبة.. ويسقط مسافر في جب اليأس ليموت كمدا ويدفن في الهبالة قرب مكة في طريقه إلي موطن الحبيبة ليخلَّد في قائمة «شعراء ماتوا عشقاً».. ولا آخر لما جاء عن هند في الأدب والتاريخ وعن زوجها أبوسفيان ــ والد معاوية ــ سيد عشيرته ومحاور هرقل الروم وأمراء بيته، والذي أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، والذي قال الرسول صلي اللـه عليه وسلم عنه في فتح مكة بعدما أسر إليه علي بن أبي طالب بأن أبا سفيان يحب الفُخَرة فقال صلي اللـه عليه وسلم: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وأبوسفيان هو والد أم المؤمنين زوج رسول اللـه أم حبيبة واسمها «رملة»، وقد أتت هند الرسول صلي اللـه عليه وسلم تطلب من بعد إسلامها عفوه فقال لعمر بن الخطاب بايعهن واستغفر لهن اللـه فبايعهن عمر، وأقر النبي صلي اللـه عليه وسلم زواجها بأبي سفيان فذهبت لتضرب صنما لها في بيتها بقدوم حتي حطمته قائلة: «كنا منك في غرور».. وعادت هند تشكو زوجها للنبي عليه السلام بأنه شديد الغيرة لا يرفع عصاه عن أهله، وأنه ممسك شديد التقتير وتسأله: هل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالي؟ فأجابها النبي: لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف.
في رحاب البيت العتيق تلد هند قبل البعثة بخمس سنوات ولدها معاوية بن أبي سفيان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعرته وبراعته وسطوته، حتي صار مضرب الأمثال في الحلم والحزم، والسياسة والكياسة، وإن اختلّت في بعض الأحايين من حوله الموازين، فوضع الذم موضع الحمد، والكذب موضع الصدق، والخداع موضع الإخلاص والإيمان، ولقد ظُلم بأفعال أبنائه وكتابة الشيعة لتاريخه، فتحول إلي نموذج شرير، لدرجة أن نسي الناس فضائله وتذكروا جبروته، مع أنه لم يكن في وسع رجل أسلم علي يد النبي وصاحبه، وعمل علي أيدي صحابته الكرام، أن يغفل عن غيرة دينه، وأحكام فرائضه، وواجبات المروءة في عرف زمنه، وليس أدل علي تبتله وحبه للرسول من أنه أوصي عند وفاته أن يلبسوه ثوبا للرسول أعطاه إياه، و أن يذروا في عينيه وفمه نثارة قلامة ظفر للنبي، احتفظ به ككنز عمره في قارورة، للتبرك به عند وفاته علّ اللـه أن يقبله.. ليس بالمدقق في الصورة دون سابق تأثير أن تضللـه النيات والمزاعم عندما تخرج إليه حقيقة الأخبار والروايات سافرة بلا زيف، لا تتواري من خلفها الأسباب والبواعث بحجاب كثيف، وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة علي سنن الراشدين أبد الآبدين، فقد انتهي بهم آخر الرجال المصطفين، فذلك النسق من الخلق والتقوي في الحكم تنوء به طاقة الإنسان، ومن ثم كان قيام الدولة الأموية من بعد عصر الخلافة الرشيدة بمثابة الحادث الجلل بالغ الخطر في تاريخ الإسلام وتاريخ العالم، وكان مؤسسها معاوية هو الرجل القدير وإن لم يكن بالرجل العظيم، وفي رأي العقاد أن هناك فارقا كبيرا بين القدرة والعظمة فكل عظيم قدير ولكن ليس كل قدير بالعظيم.. و.. أبدا لم يكن معاوية زاهدا في الخلافة في عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة هي التي كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الـمُلك والـمُلك يطلبه لينال عرشه ويحافظ عليه ويحميه ويوسع جنباته بالفتح الإسلامي الذي ضعضع دولا وأقطارا منها دولة الروم الشرقية، حيث غادر هرقل أرض سورية وهو يودعها الوداع الأخير صائحا بنشيج البكاء: الوداع يا سورية الوداع الأخيرValesyria etultima tumvale.
بعث أبوبكر بالجيوش إلي الشام وعلي رأسها معاوية مع أخيه يزيد بن بن أبي سفيان، فلما مات يزيد استخلفه علي دمشق وأقره علي ذلك عمر بن الخطاب، ثم أقره عثمان بن عفان فأقام فيها أميرًا عشرين عاما وخليفة عشرين عاما أخري، وكان معاوية فارهاً أبيض جميلا مهيباً عندما ينظر إليه عمر يقول: «هنا واللـه كسري العرب»، ويقول عليّ بن أبي طالب: «لا تكرهوا إمرة معاوية، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرءوس تندر ــ تسقط ـ عن كواهلها».. وقد بدأت مع معاوية مرحلة الحكم الإسلامي القائم علي الاستئثار بالسلطة وحصرها في أسرة واحدة تقوم علي توريث الملك للأبناء والأحفاد، وبذلك تتحقق نبوءة النبي فيما يرويه ابن كثير في البداية والنهاية: «إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم ملكا عضوضا، ثم عتوا وجبرية وفسادا في الأرض».. وقد كانت بداية مرحلة الملك العضوض المتسمة باستئثار السلطة وتوريثها علي يد معاوية الذي حصد الحكم في الأسرة الأموية من عام41 هـ حتي عام132 هـ، ثم تلقفت الحكم من بعده الأسرة العباسية التي توارثت الحكم حتي اندثرت علي يد التتار.. وقد اعترف معاوية بنفسه برغبته في الخلافة قائلا قبل أن ينالها: مازلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول اللـه: يا معاوية إن ملكت فأحسن، وقال رسول اللـه صلي اللـه عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزو مدينة قيصر ــ أي القسطنطينية ــ مغفور لهم»، وهذا يعود بالغفران لمعاوية بسبب فتوحاته، وكان عثمان يسمع الشكايات ممن يطلبون منه عزل ولاته وأولهم معاوية فكان يقدم عذره المعهود قائلا: «إنما ولي علي الشام من ارتضاه من قبل عمر بن الخطاب».. ولم يكن معاوية غير أهل للخلافة فقد ظل يحكم المسلمين عشرين عاما خليفة، بعد أن ظل مثلها أميرا علي الشام، فكان أهلا لها طوال الأربعين ــ أميرا وخليفة ــ ليشهد بنفسه علي قدرته علي الملك الدنيوي قائلا: إن أبا بكر رضي اللـه عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منه، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ألبنها ــ أشرب لبنها ــ فهي أمي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.. وقد قالها في لحظة اعتراف كما جاء في الطبري: «ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا.. فقد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم».. وقد تتابع عليه في أيامه الأولي من يقول له: السلام عليكم أيها الملك.. فكان ينكر الاسم ولا ينكر السمة. إلي أن تنازعه الخيار بين ترك السمة أو التمادي فيها، فتمادي فيها وقال مجاهرا لمن حوله: نعم أنا أول الملوك..
معاوية رجل السياسة الذي يترك الباب موارباً.. مؤسس الدبلوماسية الذي جعل الاختلاف لا يفسد للود قضية.. الداهية الذي نادي بالتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.. رأس الدولة المحنك الذي رفع شعار لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، فسأله بعضهم: كيف ذلك؟ فقال: إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.. وكان قوام حيلته في الحكم شعار فرق تسد، والذي لو استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزباً منافساً لغيره لفعل، وإذا ما اشتهر معاوية بحلمه فقد كان الحلم عنده وسيلة من وسائل التحبب إلي الناس والدعاية السياسية التي يعزز بها حجته، وحد الحكم عنده ألا يكون في العدوان والتطاول مساس بملكه وسلطانه، فالكـلاب تعوي والقافلة تسير، والحليم من يملك الغضب ولا يملكه الغضب، وكان في حلمه أشبه بالجمل الصبور، لأنه ليس بالأسد الهصور، ولقد أغلظ له رجل فأكثر فقيل له: أتحلم عن هذا أيضا؟! فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا! وكان يقول: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فواللـه لقد كنت ألقي الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه ولا زاده إلا كرما، وكان من أقواله: «إني لأرفع نفسي أن يكون هناك ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكثر من إحساني والصفح عن المسيء مع القدرة علي البطش به من أقرب الوسائل إلي كسب ولائه».. وإذا ما كان معاوية قد اشتهر بالحلم فحلمه قطرة من بحر والده أبي سفيان سليل العائلة التي قال عنها معاوية: إذا لم يكن الأموي حليما فقد فارق أصله وخالف آباءه..
وقد روي ابن حنبل في «المسند»، والطبراني في «المعجم الكبير»، والبخاري في «التاريخ الكبير» عن ابن سارقة قوله: سمعت رسول اللـه يدعونا إلي السحور في رمضان وهو يقول: اللـهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب ويضيف ابن جرير: وادخله الجنة.. وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين تحب أخاها معاوية وتطلب من الرسول أن يدعو له، فاستجاب الرسول ودعا: «اللـهم اجعله هاديا مهديا»، وروي معاوية عن النبي عليه السلام مائة وثلاثة وستين حديثا، وفي ذلك قول ابن عباس رضي اللـه عنهما: أتي جبريل عليه السلام إلي رسول اللـه فقال: «يا محمد اقرئ معاوية السلام واستوصي به خيرا فإنه أمين اللـه علي كتابه ووحيه ونعم الأمين».. وفي البخاري ومسلم وابن حنبل عن ابن عباس قوله: كنت ألعب مع الغلمان، فإذا رسول اللـه يقول: اذهب فادع لي معاوية ــ وكان يكتب الوحي فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول اللـه فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع اللـه بطنه قال: فما شبع بعدها.. وقد لصقت الدعوة بمعاوية فكان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول: واللـه ما شبعت ولكني مللت، وقد اتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري بأن رسول اللـه صلي اللـه عليه وسلم قال: اللـهم إنما أنا بشر، فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة. ولم يزل معاوية يكتب للرسول إلي أن انتقل إلي جوار ربه.
ولكل قدير أوائل، وأوليات معاوية لا حصر لها منها: أنه أول من أحدث الآذان في العيد، وأول من أحدث الخطبة قبل صلاة العيد، وأول من أوتر بعد العشاء بركعة واحدة، وأول من وضع نظام البريد في الإسلام، وأول من خطب في الناس جالسا وذلك حين كثر شحمه وعظم بطنه، وأول من اتخذ الخصيان لخدمته الخاصة، وأول من اتخذ ديوان الخاتم وكان محفورا علي فصه «لكل عمل ثواب»، وأول من اتخذ المقصورة في الجامع، وأول من أذن بتجريد الكعبة وكانت كسوتها من قبل تطرح عليها طبقات، وأول من استحلف في البيعة فقد ذكر عبداللـه بن مروان أنه استحلفهم في بيعته بالطلاق والعتاق، وأول من عني بتسجيل المواليد والوفيات ليتمكن من ضبط مرتبات الجنود، وأول من اهتم بتسجيل تاريخ الأمم والترجمة لأخبار ملوك العرب السابقين وتدوينها في الكتب ومنها كتاب «أخبار الأمم الماضية»، وكتاب «أخبار عبيد بن الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» ويدور بأسلوب حواري إذ يسأل معاوية ويجيب عبيد مستهلا بأخبار عاد ولقمان وثمود وممالك طسم، وكتاب «التيجان» عن ملوك حمير والقرون الغابرة، وكتاب «المبتدأ في الأمم الخالية» و«الصناعتين» لأبي هلال العسكري، وترجمة رسائل ارسططاليس من اليونانية، وتاريخ السلسانيين ونظمهم السياسية عن الفارسية، وأول من خرج غازيا في البحر وكان في زمن عمر بن الخطاب قد ألّح في غزو البحر، خاصة لقرب الروم من بلدة حمص قائلا في وصف ذلك القرب: إن قرية من قري «حمص» ليسمع أهلها نباح كـلابهم وصياح دجاجهم، وكاد عمر أن يوافقه علي الغزو إلا أنه أرسل خطابا لعمرو بن العاص يطلب فيه: صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب له عمرو: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن ــ سكن ــ خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود علي عود، إن مال غرق، وإن نجا برق، فلما قرأه عمر كان رده علي ابن العاص: لا والذي بعث محمدا بالحق، لا أحمل فيه مسلما أبدا، وكتب خطابا آخر بهذا الصدد إلي معاوية يقول فيه: «إنا سمعنا أن بحر الشام يشرف علي أطول شيء علي الأرض، يستأذن اللـه في كل يوم وليلة أن يفيض علي الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستعصب، وتاللـه لمسلم أحب إلي مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي».. فطوي معاوية أمره في طيات نفسه حتي إذا وجد الفرصة في زمان عثمان كرر المحاولة فاستجاب عثمان بشرط: «لا تنتخب الناس، ولا تجري عليهم القرعة، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه»... وغزا معاوية بخمسين رجلا في أول حملة بحرية ولم يغرق أحد، وكان يركب قاربا في الطليعة، ومن بعدها في سنة ثمان وعشرين غزا قبرص، وبلغ عدد الأساطيل في عهده 1700 كاملة العدة والعدد، وقد روي البخاري عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان أنها قالت: نام النبي صلي اللـه عليه وسلم يوما ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال أناس من أمتي عرضوا علي يركبون البحر الأخضر كالملوك علي الأسرة، فقلت: فادع اللـه أن يجعلني منهم فدعا لها أن تكون من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا مع معاوية في البحر، فلما انتهت غزوتهم وقعت من فوق دابة فماتت ليقام لها في قبرص ضريح يتبرك به الأتراك للآن ويطلقون علي صاحبته لقب «الطاهرة».. ومن قبرص إلي رودس إلي بلاد الروم، والسند، وكابل، والأهواز، وما وراء النهر، وشمال أفريقيا كلها فتوحات في عهد معاوية، حتي وصلت إلي أكبر اتساع لدولة في تاريخ الإسلام..
وقد وجدتها في كامل روعتها عند معاوية.. تلك الدماثة والحنان الأبوي، وذلك الفهم الجميل لطبيعة الأنثي وذلك في تعامله مع بناته حتي إنه قد أثار عجب عمرو بن العاص عندما دخل عليه فوجده يَرقِّص مسروراً إحدي بناته، ولما قرأ معاوية علامات الدهشة علي وجه صاحبه قال له لائما: ويحك.. هذه تفاحة القلب.. وما قام به معاوية مع ابنته هند بنت ميسون لا يضاهيه حنان واحتضان أروع الأمهات، وذلك عندما زفت الابنة إلي عبداللـه بن عامر في دار الخضراء بجوار الجامع، فلما دخل عليها زوجها تمنعت عليه وأبت أشد الإباء الاستجابة له فثارت حفيظته إلي حد أن انهال عليها ضربا فصرخت تستغيث فلما سمعت الجواري صوتها الباكي صرخن وعلت أصواتهن ليسمعها معاوية فنهض يستعلم عن الخبر، فقلن لقد سمعنا صراخ سيدتنا فجاوبناها بالصراخ، فدخل معاوية علي ابنته فإذا هي تبكي من شدة الضرب، فالتفت لابن عامر زاجراً مؤنباً: «ويحك.. أمثل هذه يا رجل تضرب في مثل هذه الليلة تفضل اخرج من هنا».. فأطاع ابن عامر لساعته ليخلو معاوية بابنته مطيبا خاطرها مهدهدا لها كما كان يدللـها في طفولتها، ماسحا دمعها الغالي عليه، شارحا لها حميمية العلاقة الزوجية وقدر الزوج الذي أحله اللـه لها، وضرب لها الأمثال، وأسمعها الأشعار ولم يتركها إلا بعدما استعاد وجهها ابتسامته و.. خرج الأب القدير من عند ابنته التي أسكن روعها ليقول لزوجها: «الآن يا رجل تستطيع الدخول إليها بعد أن مهدت لك طريقها بالسلاسة والكياسة فتلك الأمور أبدا لا تؤخذ تعنتاً وقسراً»..
معاوية.. نتاج أبي سفيان وهند.. الأم هند التي دخل عليها ابنها قادما من الشام والياً عليها من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فلاقته قائلة: «يا بني.. قَلَما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك ذلك الرجل فاعمل بما وافقه.. أحببت ذلك أم كرهت»... ويذهب معاوية إلي أبيه أبي سفيان فيلاقيه بقوله: «يا بني هذا الرهط من المهاجرين سبقونا وتخلفنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا، فصرنا تبعا وصاروا قادة، وقد قلدوك عظيما من أمرهم فنافس عليه فإن بلغت فيه الأمد أورثته عقبك».. وكانت النصيحة بطرفيها واحدة.. معناها ساير أمورك.. وقد كان.. بلغ معاوية الأمد.. حامل أحلام هند... حكم فحلم فقهر الأعداء وأرسي قواعد دولة بني أمية وأورث الحكم للابن يزيد.. وظل للمنتهي يفاخر الناس بقوله: أنا ابن هند.!... وإنا لننحو نحو الإمام الذهبي الذي ردد قول العزيز القدير عندما ذُكر أمامه أمر الفتنة بين عليّ ومعاوية: «ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا».. وكان معاوية في لحظات احتضاره يضع خده لصق الأرض ثم يقلب وجهه للخد الآخر ويبكي قائلا: «اللـهم إنك قلت في كتابك إن اللـه لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. اللـهم اجعلني فيمن شئت أن تغفر له»..
ماتقدرشي
هناك ولابد من فارق ما بين صواريخنا الاحتفالية صناعة الصين وصواريخ حماس، فرغم الملايين المهدرة في الطرقعة اللامجدية من الجانبين، فأولادنا يطلقونها أمام عيوننا في حوش بيتنا وتحت البلكونة وفي بئر السلم وفوق السطوح وعلي الناصية في رمضان والأعياد لتحمل رسالة «العيد فرحة».. بينما الثانية رغم مداها البعيد، وحرص الإسرائيليين علي اللجوء الظاهري منها للمخابئ، وقبة الصد الفولاذية بحسابها المفتوح في الكونجرس، وكونها طفشت موسم السياحة عندهم وألغت بعض رحلات خطوط الطيران، وجعلت الوزير المراسلة الخاضع للتفتيش كيري في رحلاته المكوكية يلف من الناحية الثانية، إلا أنها أعطت الذرائع للإبادة لمستوي الحضيض، والتهجير الجماعي لأهالي غزة إلي وجهة متفق عليها في الخباثة، ودك جميع الأنفاق، وقتل جميع أطفال فلسطين الغد واللي يتعرض لهم واللي يداويهم واللي يعيط عليهم واللي يبعث لهم تموين يقولوا عليه منتهي الصلاحية، وتعاطف زيادة من دول مؤازرة الباطل... صواريخ فشنك تطلع في الغسيل برسالة عبثية تقول «شيلوه من فوقي لموته» أو كما يتعاظم القصير النحيل الصغير الذي لا حول له ولا قوة تحت وطأة قدم المتوحش المارد القبضاية في مسرحية محمد صبحي ليقول له بصوت متحشرج متقطع الأنفاس: «ماتقدرشي»!!