القاهرة 10 يوليو 2014 الساعة 12:54 م
القرارات الأخيرة بزيادة أسعار البنزين وشرائح الاستهلاك العليا للكهرباء وفرض ضريبة علي دخول الأغنياء وأرباح البورصة وتعميم تطبيق الحد الاقصي للأجور علي كل العاملين بالدولة هي أول عملية جراحية حقيقية كبري في جسد الاقتصاد المصري منذ عقود.
هي جراحة مؤلمة بدون مخدر ودواء مر شديد المرارة.. لكن لم يكن منها بد لإنقاذ مصر نفسها قبل إنقاذ اقتصادها وإذا كان البعض منا يري هذه الجراحة أكبر من احتماله الآن.. فلأنها تأخرت كثيرا ولو أجريت قبل عشر سنين أوعشرين لكانت تكلفتها أقل وألمها أخف.
وبنفس المنطق لو لم نقم بإجرائها اليوم وأجلناها كما أجلها السابقون فسوف تصبح تكلفتها بعد ذلك افدح والألم المصاحب لها أشد.. هذا إذا بقي المريض أصلا علي قيد الحياة لحين اجرائها.
ان كل دول العالم التي تعرضت لنفس وضعنا المالي والاقتصادي من تراكم المديونية الداخلية والخارجية ومن عجز يتجاوز الخطوط الحمراء في الميزانية ومن اختلالات هيكلية كبري في الاقتصاد لم يكن أمامها من طريق آخر للخروج من هذا الوضع غير إجراء مثل هذه الجراحة الكبري واتخاذ نفس الإجراءات والقرارات الصعبة.
هناك دول فعلت ذلك من تلقاء نفسها حين توافرت لديها قيادة قوية وإرادة سياسية للحسم وقدرة علي مواجهة شعوبها بالحقيقة.. ونجحت ونجت وهناك دول افتقدت هذه العناصر واضطرت في النهاية - تجنبا لاشهار افلاسها - ان تخضع لشروط صارمة يفرضها عليها المجتمع الدولي بمؤسساته المالية والنقدية الحاكمة وهي شروط افقدتها جزءا من سيادتها الوطنية وسلبتها حقها في إدارة مواردها لينتقل هذا الحق إلي الدول والمؤسسات المانحة مقابل إنقاذها.
حمدا لله أننا ادركنا انفسنا واتخذنا القرارات والإجراءات اللازمة بإرادة وطنية حرة.. مستقلة.. وخالصة بينما مثلت "اليونان" خلال السنوات الخمس الأخيرة أبرز نموذج للنوع الثاني من الدول التي مازالت تدفع ثمن تأخرها في اتخاذ القرارات اللازمة في وقتها.
***
لقد قضينا حقبة التسعينيات من القرن الماضي كلها في عملية إصلاح اقتصادي قادتها حكومة الراحل الدكتور عاطف صدقي لكنها لم تحقق النتائج المطلوبة لأنها لم تكن إصلاحا جذريا ولم تستهدف إعادة هيكلة حقيقية للاقتصاد المصري علي أسس إنتاجية وخدمية جديدة وقوية.
العكس هو ما حدث فقد انهمكت عملية الإصلاح الاقتصادي وقتها في مسار واحد هو الخصخصة أي التخلص من شركات القطاع العام بالبيع. فارتبط الإصلاح الاقتصادي في الذهن الجماعي للمجتمع بعملية سيئة السمعة تسعي للتخلص من الأصول الوطنية للصناعة المصرية وتشريد العمالة مما خلق حاجزا نفسيا ضد الإصلاح في المجتمع.
وزاد من ذلك ان عملية الإصلاح حتي لم تتوافر علي ضمانات حقيقية لوصول ثمارها المحدودة إلي الفقراء ومحدودي الدخل الذين دفعوا ثمنها وطال انتظارهم لها.. بل تركت هذه الثمار فريسة للأغنياء والفئات الطفيلية.
هذا درس لابد أن نعيه جيدا ونحن نبدأ الجراحة الكبري للاقتصاد المصري.. ولا يكفي أن تكون القيادة واعية به. بل لابد ان يكون في ذاكرة المجتمع كله وان يكون لدينا إرادة قوية لمنع تكراره لذلك أري من المهم تسجيل عدد من النقاط في هذا المجال:
1- ان الإصلاح الاقتصادي عملية متصلة وطويلة الأمد وعلينا أن ندرك ان ما صدر من قرارات وإجراءات هو خطوة أولي وانه سوف تتلوها خطوات اخري ضرورية وعلينا ان نصبر ونتحمل حتي نصل إلي الهدف.
2- ان نصف النجاح لأي خطوة يتمثل في اصدار القرار في وقته والحسم الكامل في تطبيقه وان يشمل جميع من يستهدفهم بلا استثناء وألا يتم السماح بالتراجع عنه أو الالتفاف عليه تحت أي ظرف وان يتم التحوط لاستيعاب كافة الآثار الجانبية السلبية له.
3- علينا ألا نتعجل النتائج.. ان المريض الذي يتعرض لإجراء عملية جراحية كبري لا يستطيع أن يخرج من تحت مشرط الجراح إلي الشارع فورا ليمارس حياته الطبيعية وينطلق إلي مستقبله.. انه يحتاج للبقاء أياما في غرفة العناية المركزة قبل أن ينتقل إلي غرفة عادية وقد يحتاج إلي علاج طبيعي أو تأهيل نفسي قبل أن يسمح له بممارسة حياته الطبيعية تدريجيا.
* * *
علي انه لكي يتحمل الناس قسوة الإجراءات والصبر علي النتائج لابد ان يروا اشارات عملية تقويهم علي ذلك وتطمئنهم علي سلامة المسار وفي هذا لابد أن يكون واضحا تماما. ان الاصلاح الاقتصادي لا ينجح وحده ما لم يصاحبه إصلاح اجتماعي وإصلاح ثقافي وإصلاح تشريعي.. انها حزمة متكاملة لا نجاح لأي عنصر فيها دون بقية العناصر.
نحن في حاجة إلي عملية شاملة لتقوية الوازع الوطني والوازع الديني والأخلاقي لدي كل افراد المجتمع بما يعزز من قيمة الوطن ومصلحته لدي الفرد ويقوي احساس كل مواطن بأننا لسنا في معرض صراع علي مغانم شخصية.. الشاطر من ينجح في اقتناصها قبل الآخرين.. بل نحن أمام تحد كبير وخطر جسيم يفرض علينا التوحد والتكاتف والتكافل من أجل احياء الأمة المصرية.
ان هذا هو التحصين الطبيعي الذي لا غني عنه لعملية الإصلاح الاقتصادي لتوفير الضمانات الأخلاقية والوطنية لنجاحها أولا ثم عدم انقضاض من لا يستحقون علي ثمارها وحرمان أصحاب الحقوق منها وذلك بالطبع إلي جانب التحصين القانوني الذي يوفره الإصلاح التشريعي.
* * *
وفي هذا المجال يأتي ذكر مبادرة الرئيس السيسي بالتبرع بنصف راتبه ونصف ممتلكاته لصالح صندوق دعم الاقتصاد المصري الذي دعا إلي انشائه وتعهد بالاشراف شخصيا علي التصرف في موارده مع رأسي المؤسستين الدينتين الكبريين في مصر.. الأزهر والكنيسة.
لقد توجهت المبادرة إلي كل المصريين.. وفي مقدمتهم القادرون في الداخل والخارج فهؤلاء هم الذين يمكن ان تكون مساهمتهم مؤثرة.. لكن نتائجها لم تكن - للأسف - بقدر الآمال المعلقة عليها.
لقد كان تأثيرها سريعا حقا. لكنه ايضا كان وقتيا يعكس حماس البدايات فقط.. كثير من المواطنين البسطاء ساهموا.. وحفنة من رجال الأعمال امثال الدكتور السيد البدوي رئيس حزب الوفد ومحمد الأمين صاحب قنوات "سي بي سي" الفضائية واحمد ابوهشيمة ملك سوق الحديد ومحمد فريد خميس ملك السجاد..وبنكان هما "الأهلي" و"مصر".
* أين مساهمات بقية البنوك كمؤسسات.. وقياداتها كأشخاص وهي التي تعلن كل يوم عن فتح حساباتها لتبرعات المواطنين؟!
* أين بقية رجال الأعمال وهم بالألوف وأحدهم - وهو ثوري كبير - اعتصم في نفس التوقيت في مكتب وزير الزراعة من أجل مصلحة شخصية له تتعلق بألف فدان من الأرض المستزرعة يملكها؟!
* أين لاعبو الكرة والرياضيون عموما.. وأين نجوم الفن الذين يتحسر الفقراء علي أنفسهم وهم يقرأون الأرقام الفلكية لأجورهم في الافلام والمسلسلات وهي لا تخضع بالطبع لأي حد أقصي؟!
وربما أحس الرئيس بذلك ورأي ان المبادرة في حاجة إلي دفعة جديدة فذهب بنفسه إلي فرع البنك الأهلي بمصر الجديدة ليقدم علنا - وعلي الهواء مباشرة - قيمة ما تبرع به في هذه المبادرة.. فربما تستيقظ الضمائر ويتحرك الوازع الوطني الموجود داخل كل منا.
إعادة بناء مصر تحتاج إلي تضحيات كل المصريين.