القاهرة 27 اغسطس 2024 الساعة 08:22 م
كتبت : د. هبة الهواري
الفنان فتحي عفيفي ذلك الفتى القادم من جوار أم المساكين، رئيسة الديوان، المغمور بالنفحات والبركات والمسك، ذلك الطفل الذي ضاع من أبيه في مولد الست، وظل في غيابة الزحام ستين يوماً بليالٍ قاسية مريرة لا يخففها إلا طيبة الناس الذين احتضنوه في مصر عتيقة حيث وجده أبوه، ذلك الطفل الذي سحرته أعلام الدراويش وانجذب في سحابات البخور حتى لفته البيارق الشاهقة في ساحة مسجد ابن طولون العجائبية، حيث المعمار الشاهق الحلمي الذي صبغه الطفل بآلاف الرؤى والأفكار والمخاوف والحواديت، لا تنمحي من ذاكرته قط تلك البوابة الحديدية والأعمدة الشاهقة والسيدة التي تفرق فؤادها في الحارات و البيوت والدكاكين بحثاً عن صغيرها الذي سحرته الأناشيد، وخلبت لبه آهات المجاذيب و الذاكرين.
حصل الفتى على شهادته الصناعية التي يحبها، ويعتز بها المجتمع الناهض في العصر الذهبي للتصنيع آنذاك، ثم انضم إلى حياة المصنع الحربي في فترة ما بعد هزيمة 1967 وأوج العمل في استعادة مصر لكرامتها و حرب الاستنزاف، الرجال هناك كلهم أكبر منه سناً و خبرةً، لكنه الوحيد الذي يحمل بذرة الإبداع في رأسه الصغير، الرجال هناك يحلمون بالأمان، يتخالسون كوب الشاي في الوقت "البطال"، و يتناولون وجبات ثلاث أمنها لهم نظام العمل في عهد عبد الناصر و يدعون له في قيلولاتهم الدافئة في ظلال الأفران والماكينات الهادرة، تلك العين المبدعة تتفحص ذلك العالم، تنفلت منه تارةً و تراوغه، وتنخرط فيه تارةً أخرى منضويةً في منظومته حد الانسحاق.
تبدو في لوحاته التي يعكف عليها آخر الليل، تلك النظرة المغتربة المفارقة، التي لا تخلو من رهبةٍ و انبهار، بذلك العالم الحديدي الموار الذي لا يعرفُ الرحمة، ذلك الإيقاع الصارم فيما بين لحظة التوقيع بالحضور لدى الموظف المتجهم، وختم البطاقة، ولحظة اختتام الوردية في صمت مرهق يخيمُ على العائدين، ترصد عين الشاب الجامح تلك الكائنات الحديدية المرعبة و تستخلص منها لغةً تشكيليةً جديدةً، تتعشق منظومة العمل وتتغزل فيه، تتفكر في العلاقات التي تحكم الأشياء في العالم الجديد، تنظر بعين الصغير الجديد في المكان، توقن بالقيم التي شكلت عقيدة جيل الستينيات من المثقفين و المبدعين في مصر، تجهض أحلامهم مع النكسة وتنهض بهم عزائمهم من جديد حتى النصر في 1973 .
في اللوحة رقم (1) البوابة : ألوان زيتية على توال 50 *70 سم (من مجموعة الفنان) 1978 .نرى فتحي عفيفي و هو يرسم البوابة من جديد و ذلك الطفل الذي تاه في المولد، وظل في غربته عن أمه و بيته شهرين كاملين حتى وجده أبوه عند أحد الأسر في مصر القديمة، يصوغ الفنان عناصره من منظور الطفل، فكل الأشياء مهولة الحجم بالنسبة إليه، والملامس خشنة بالغة القدم، والألوان شاحبة، تآكلت الجدران و بها آثارٌ من رسومات شعبية، النخيل والسمكات والعصافير،والطفل ضئيل الحجم يمد ذراعيه كالضرير في الظلام، أو يمدهما ليبلغ تلك السماوات التي يراها فوق القباب و المآذن و البيوت، ترديد المستطيلات الرأسية يدعم التأثير البصري الموحي بالارتفاع الشاهق بالنسبة للطفل في قاعدة اللوحة، التعبير الملمسي جاء موفقاً إلى درجة كبيرة، و قريب جداً من ألوان وخشونة الجدران في حاراتنا الشعبية التي تطلى فيها بالجير الملون الرخيص، الذي لا يصمد في مواجهة الرطوبة الطبيعية والأمطار وأشعة الشمس، ويبدأ في التآكل، أتقن فتحي عفيفي استخدام الألوان الزيتية شديدة السمك و الفرشاة الخشنة وربما استخدم أكثر من طبقة لونية ثم تعمد إزالتها بهذا الشكل الموفق تعبيرياً و تشكيلياً.
في اللوحة رقم (2) المطر : حبر طباعة ومواد مختلفة 41*57 سم 1995 .نجد أن فتحي عفيفي قد أعاد اكتشاف موقف المطر، فالمطر في الأحياء القديمة أو في الريف يحمل صبغةً بها الكثير من الحزن والشجن والخوف، فرحة العيال وأهازيجهم تختلط بالخوف من تعطل الحركة أو امتناعها من جراء الأوحال في الطريق، خطر البرد والانهيار حيث الأسقف الفقيرة لا تعرف العزل، و ليس لها وجاءٌ من غوائل الشتاء، استخدم فتحي عفيفي نوعاً من حبر الطباعة وأضاف إليه بعض المواد الأخرى التي ساعدت على تأكيد ملمح البلل والقطرات المتلاحقة، التي تشتد في بعض الأماكن و الطرقات الموحلة والبيوت الداكنة التي تضارعها في قامتها المرتفعة تلك البنت الطائرة في مقدمة اللوحة و هي ترفع بساطاً ما، يلوح عند هامات البيوت كبساطٍ سحري قديم،يصنعُ فتحي إيقاعاً تشكيلياً من ترديد عنصر المستطيل في عمارة البيوت الفقيرة، دون طرازٍ معماريٍ يميزها سوى رقة الحال، والنهايات والحواف كلها غير تامةٍ وغير حادة، على الرغم من أنها تنتمي لأشكال هندسية، أو كانت هندسية في يوم ما، ثم تآكلت حوافها بعد ما عصف بها الشتاء وسحقها الفقر، لا تتكئ على عمدٍ شاهقةٍ أو كتلٍ رصينة، بل تتكئ على بعضها البعض في زحام حميم، يرفرف مع شعرها الممتد خلفها في نزق، الأقواس التي تتردد بين ساقها المرفوعة كمن تتأهب للطيران ونهديها ، وثوبها المرتفع الذي يحركه الهواء و المطر، وتلك التموجات التي صنعها فتحي عفيفي للبساط السحري المخضب بالوحل، وكأنما هو غيمةٌ من صنع هذه الفتاة، التي تلعب مع المطر حافية القدمين.
والحق أننا يمكننا أن نلمح ذلك المنحى الغرائبي في أعمال فتحي عفيفي والذي يمتد في معظم مكونات المنتج التشكيلي لديه بدايةً من توزيع العناصر في فراغ اللوحة، الدراسة التشريحية لجسم الإنسان و توافقه مع طيات ما يرتديه من ملابس وتوظيف حركتها مع اتجاهاتها و ظلالها، الألوان الداكنة الدرجات الظللية واستخدامه لأحبار الطباعة و الحبر الشيني في أغلب الأحوال، بناء المسطح التصويري لديه و اعتماده لتراكيب غرائبية في التكوين، تحليله لعناصر الحركة المميزة لكل دور من أدوار الكتل المنبثقة من الفراغ لديه، قدرته على اكتشاف منظور مختلف وجديد في اختياره لزاوية رؤيته لكل مشهد على الرغم من ثبات مكان الأحداث لديه وهو المصنع و ما بداخله من عنابر وورش ومداخل وكبائن.
اللوحة رقم (3) هيا إلى العمل :110*90سم، ألوان زيتية على سيلوتيكس،مقتنيات متحف الفن الحديث بالقاهرة، 1995 .يستخدم فتحي عفيفي إمكانيات المسطح السيلوتكس التي تمنح الألوان ملمساً يقع في درجةٍ متوسطة ما بين الخشونة الحبيبية و النعومة المصقولة، يضع شخوصه الثلاثة في الصدارة ويصنع انحرافاً متعمداً في النسب الخاصة بالجسد البشري،و تؤول لديه مكونات الزي الذي يرتديه الرجال في الشتاء إلى مجموعة متنوعة من أشكال تقترب من شبه المنحرف أو الاسطوانات المشوهة، حواف السترات وأعناق القمصان والتواءاتها التي توحي بالقدم و كثرة الاستعمال و والمبالغة في أحجام الأحذية والتماثل في الوجوه، وكأن المصنع الذي ينتج نمطاً كمياً متماثلاً من المنتجات الحديدية الصماء، قد صبغ الوجوه بالوجوم والآلية والنمطية نفسها، في صباحات الشتاء المتجهمة المترقبة لصوت الآلة و هي تختم البطاقة بميعاد الحضور ثم ميعاد الانصراف، علامة بسيطة في الخلفية تشي بوجود الآلات، الجريدة الصباحية المطوية وحزمة الجرجير المصاحبة لوجبة الإفطار ساعة الراحة،هذا التكوين الإيقاعي المهيب الذي يصنعه هؤلاء العمال الثلاثة على سطح اللوحة، التقطه فتحي عفيفي من منظرٍ يتكرر آلاف المرات كل يوم.
في لوحته رقم (4) الورشة : رسم بالحبر الشيني،80*60سم، وهي من مقتنيات د. محمد حسني حيث يتجلى لنا هذا المنطق الغرائبي في تناول الموضوع ، حيث العين التي تلتقط زاوية المنظور للرسم تقبع معلقةً في منطقةٍ غير متوقعة وهي كالكاميرا التي يتم تثبيتها في أعلى نقطة للعنبر فوق الكتل الخرسانية والمواسير المعدنية والكمرات الحاملة للسقف وفوق الاسطوانات المتداخلة المتشابكة التي صنع منها فتحي عفيفي غابة متشابكة، و منحها بقلم الرسم بالحبر شيئاً من الخشونة و النمنمة في ذات الوقت، كل نقطةٍ تصنعُ أثراً مجاوراً و مغايراً، حتى تكتمل الدهشة بل والرهبة المصاحبة لتلقي ذلك المشهد المهيب من أعلى، حيث يبدو الناسُ منسحقون منحنون، أثقلت أعناقهم المسيرة الحتمية للحياة في مثل هذا المكان الآلي الذي يدعونا الفنان لتأمله والإعجاب به، أم للثورة على صيرورته الجبارة في سحق التفرد البشري، ويبرز فتحي عفيفي معنى "الغريب الموحش الذي يتمثل ويتجلى أيضاً في تلك الظلال الجمالية التي تعمل على تضبيب أو تغبيش الحدود الخاصة بمحاولاتنا لتمثيل الخبرة، ومن ثم يظل هذا الإحساس موجوداً هنا ساكناً في مناطق الحدود، حدود الخبرة والإدراك والعقل والخيال .
|