القاهرة 27 اغسطس 2024 الساعة 11:06 ص
بقلم: أمل زيادة
كوكبنا ليس كوكبًا خياليًا ولا مفرط في المثالية، كوكبنا يسكنه من يشبهنا من الأجيال الراقية التي تربت على احترام الكبير وتقديس الوقت وقيمة العمل والعلم..
في كوكبنا نقدر كل صاحب موهبة وأخلاق، وعلى كل من يرغب في العثور على ذاته المشتتة أن يلحق بنا، وأن يجد مكانًا بيننا على سطح الكوكب التاني..
لذا كلما ازداد الضجيج زاد الإقبال على الإقامة في الكوكب التاني!
تابعت نتائج الثانوية العامة، والجلبة التي تحدث كل عام وما يصاحبها من عبث وفوضى أثناء أداء الامتحانات التي يترقبها الجميع بشغف..
الثانوية العامة بالنسبة لنا كانت مجرد ختام لمرحلة دراسية تأسيسية.. عتبة للوصول لأول درجات سلم الأحلام.. لم تشهد أيامنا فزعًا كالحادث الآن..
لاحظت أن التوتر يكون من نصيب المعلمين قبل الطلبة، عدم تيقنهم من أي شيء، أمر مفزع وحديث على هذا المجال، ربما لانعدام توفر نماذج أسئلة مكتوبة ومعتمدة تعد بمثابة مرجعية لهذه المرحلة المهمة والفارقة في حياة الجميع، الطلبة، والعائلات، والمعلمين!
بصفتي عاصرت هذه الخطوة المهمة من قبل، معي، ومع أخوتي، وابني.. وجدت أنه يجب توثيق الوضع الذي قد يبدو مجهولا للآخرين نوعا ما..
أؤيد الحداثة والتطور بلا شك، لكني ضد التعقيد واختلاق الأزمات، وتصدير روح الإحباط للأجيال القادمة..
للمرة الأولى في تاريخ الثانوية العامة، يتم سحب النتائج من المواقع بعد ظهورها بأسبوع، ليتم تعديل وإضافة درجات للطلبة.! فوضى غير محسوبة لا محل لها من الإعراب! من الجيد تصويب الخطأ، لكن الخطأ كله يكمن في طريقة تصحيح المسار، لا وسيلة التصحيح..
وسط كل هذه الفوضى العارمة غير المسبوقة، أعلنت الجامعات الخاصة عن التنسيق لكليات القمة! فوجئ الجميع بتدني درجات القبول لتلك الجامعات، فبعد عدة سنوات سيكون بيننا طبيب مسؤول عن صحتنا وصحة أبنائنا، من أصحاب الستين والسبعين بالمائة!
بالمقابل يعمل بالتمريض من لم يكونوا من السعداء، ممن لم يتمكنوا من الالتحاق بنفس الكلية لارتفاع درجات التنسيق ولقلة المادة!
أبطال الثانوية الحقيقيين الذين رضخوا للتنسيق الحكومي، من الحاصلين على 80 بالمائة وما يزيد!
ما لا أتقبله بالفعل هو كيف لطالب خريج جامعة خاصة أن يكون مسؤولا عن الأرواح سواء أكان طبيبًا أو مهندسًا!
في الماضي كان من يلتحق بكليات القمة مثل الطب والهندسة من حصلوا على 90 بالمائة أو يزيد، أي ممن نصفهم بمتفوقي المدارس والإدارات التعليمية، لا من يملكون الوفرة المادية!!
يبدو أن هناك توجهًا ما لتقليص عدد الطلبة الملتحقين بالجامعات الحكومية، لذا تم إنشاء ما يوازي الجامعات الحكومية من جامعات خاصة ومعاهد عليا، أقدر محاولات تصحيح مفاهيم نشأنا عليها من وهم كليات القمة وما شابه، لكن لا بد من تقنين الوضع بشكل جدي، لأننا نطمح أن نكون في الصدارة، لا مجرد مشاريع حياتية تعيش وتموت وتنسى!
لا أدري كيف يتم تدارك هذا الخطأ!
لكن ما أنا متأكدة منه أن في كوكبنا من يصل لمكانته يصلها بمجهوده واجتهاده، حيث لا مكان لسطوة رأس المال، أو لفوضى المعلومات التي يساء استخدامها..
تجربة المرور بالثانوية العامة قد تكون ثقيلة على الآخرين، لكني أراها فرصة سانحة للبقاء بقرب أبنائنا، قبل أن تأخذهم الحياة منا وينصهروا مع رحى عجلتها التي لا ترحم ولا تنتظر أحدا.
يبدؤون رحلة هي الأجمل، هي الأنقى، بل هي الأروع.. مرحلة التعليم الجامعي، حيث ينظر كل منهم للخلف، ليكتشف أن ما مر كان سهلا، وليس بالصعوبة التي كان يتخيلها.. سيدرك أن الحياة الحقيقية قد بدأت، وأنه خرج من بوتقة الأسرة، وأصبح شابًا يافعًا يعمل بجانب الدراسة، ويكتشف الوجه الحقيقي للحياة خارج نطاق الأسرة وجدارن المنزل..
أما عني بصفة خاصة، فأعتبرها من أجمل سنوات العمر على الإطلاق، بما بها من توتر، وقلق، وإحباط، وضعف، ففيها قضيت عاما كاملا برفقة أبنائي، فلا نملك رفاهية الاستمتاع بالوقت، كل شيء محسوب، حيث أجبرتهم الدراسة على المكوث بالمنزل قربي، تذكرت كيف يلتصقون بي أينما ذهبت عندما كانوا صغارا، هذه المرة أنا من التصق بهم، حيث قمنا بتبديل المقاعد بمنتهى البساطة..
قضيت هذه الفترة في المنزل معهم، أمارس هواياتي التي أحب من قراءة، وكتابة، وزراعة، ونحت، ورسم.. اكتشفت نفسي في معتزل المذاكرة الذي حولته لمعتزل قراءة وممارسة الهوايات.. إيمانا بأننا وحدنا من يمكننا أن نسخر الظروف لصالحنا..
في كوكبنا التاني، نجد الطبيب الماهر الذي وصل لمكانته بعد رحلة شاقة من التعليم، والمهندس الجاد الذي تألمت عظامه من الانكفاء على أوراقه لإتمام مشاريعه، والكاتب الموهوب الذي يكتب من أجل الكتابة ولا شيء غيرها، والموسيقي المبدع الذي تعيش ألحانه للأبد، والمطرب الحساس صاحب الموهبة الفذة والصوت القيم الذي يزداد جودة وقيمة بمرور الوقت..
في كوكبنا التاني، نكتشف أن حاضرنا ليس بالسوء الذي نتوهمه، ونوقن أننا سنظل ندور في فلك هذه الرؤية، وأن كل ما هو قديم جميل، وأن ما نعاصره سيء وملوث! وسيأتي بعدنا من يغبطوا زمننا! وهكذا دواليك!!
|