القاهرة 20 اغسطس 2024 الساعة 01:20 م
بقلم: د. هبة الهواري
يمثل المبدع الفنان محمد حامد عويس علامة بارزة في تاريخ الحركة التشكيلية المصرية، حيث يعد رائداً لتيار الواقعية الاشتراكية الذى اقتفى أثره كثير من الفنانين فيما بعد؛ فقد التزم الفنان حامد عويس بالتوجه الاجتماعي المصري الخالص، الملتزم بقضايا مرتبطة ارتباطا مباشرا بالعمال والفلاحين وأبناء الطبقات الكادحة، مما كان أبلغ تعبير عن قناعاته الفكرية التي انطلق منها، وكانت التوجهات الاشتراكية في عصر ثورة يوليو 52، وبالتحديد في عقد الستينيات من القرن العشرين وبعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرارات يوليو الاشتراكية، كانت لتلك التوجهات أثرها الواضح على التعبير الفني في مختلف المجالات الإبداعية و ليس الفن التشكيلي فحسب وقد اهتم في لوحاته بأبطال وبطلات المجتمع المصري من الفلاحين والنسوة الكادحات في العمل على ماكينة الخياطة والتريكو، والعمال في المصانع، والصيادين، وسوف نتناول بالتحليل لوحته الصرحية عن السد العالي والتي صورته رجلا قوي البنية يجري النيل، وتتدفق الناس، وتنطلق الحياة من بين رجليه وهو جالس في قوة ورسوخ يحتضن الجماهير.
والفنان محمد حامد عويس حينما عبر عن الثورة المصرية والشعب والسد العالي وتأميم قناة السويس، لم يكن مجاملا أو عازفًا في بوق الدعاية السياسية، بل كان مصريًا مخلصًا، معبرًا عن نبض الإنسان المصري البسيط، ومستجيبًا لتفاعلات تجري في المجتمع المصري ولاعتمالات الإنبات والنمو للمشروع النهضوي في ذلك الوقت.
فعندما نتطرق إلى لوحته المسماة "العمال في الصباح".63سمx 48سم
.1953.وهي ألوان زيتية على قماش. متحف الفن الحديث. القاهرة.
يطالعنا هنا عزف هادر بمفردات القوة الراسخة لتمجيد الطبقة العاملة والتغني برموز تشكيلية تستقي مكوناتها العفية المتقدمة من اكتساح كطابور الجند وانطلاقات الفيضان.. تلك المعزوفة التي ميزت اتجاه (الواقعية الاشتراكية)..في عصر الستينيات.
وحينما ننصت ونستسلم لإيقاع المنظومة الذي يهدر ودتدقه أقدام أولئك الشرفاء الذين يمجدهم محمد حامد عويس وهم يتوجهون لعملهم في الصباح الباكر لينضموا للنشيد البناء الذي كان يصنع وجه مصر الجديدة ويبني عزتها واستقلالها الجسور...
حينما ننسجم مع العزف ونبدأ في القراءة نرى هنا بوابة مصنع، والمداخن تتضح في الخلفية، والعمال يرتدون ملابس ثقيلة وأغطية رأس وأحذية غليظة صارمة راسخة على الأرض، تبدو لنا السماء كأنه الصباح الباكر في الشتاء القارس، وجوههم متغضنة فيها جدية، أيديهم ضخمة غليظة، أحدهم يدخل المصنع على دراجته، الآخر يشعل سيجارة، اثنان يتبادلان الحديث، العمال متراصون متلاحمون هم مثل الحائط القوي المتين المرسوم إلى جوارهم في مدخل المصنع منهم الراكب والمترجل، تلملم أبصارنا تلك الخــطوط غليظة قوية مترابطة مكونة تخطيطاً عاماً قوياً متماسكاً يجابه المتلقي بثقل وجسارة وعنفوان خشن يقبض على ذائقته ويتملكها ولا يفلتها أبداً.
تلك الملامح الواقعية التي ليس فيها أي ملامح تراثية أو أسطورية، تقدم لنا عمالاً أقوياء أصحاء تجللهم مداخن عالية شامخة، إيقاع الحركة المتقدمة إلى الأمام في نشاط وثقة رغم البرد حشد من العمال في مختلف الأعمار يمسك الرجل يد زميله بمودة وتراحم، هناك جو عامر بالاطمئنان والسكينة.
في بناء الكتل يشرع محمد حامد عويس في تكوين معمار متين يحتوي تلك الكيانات الرابضة القادمة نحونا في إصرار المكتسحة عتمة الليل، نرى العقد المبني الممثل لبوابة المصنع لم يكتمل وقد خرج من إطار الصورة، وخطوط الشبكية رأسية تتجه لأعلى دائماً تتصاعد مع النشيد، خطوط المداخن تتجه إلى أعلى أيضاً في تحليق وسمو ودأب حيث إطار الصورة وكأنها تخترقها لتستكمل المسيرة. المنظور يحفظ بصرنا في مستوى النظر، الفراغ عميق ممتد أفقياً.
الإيقاع هادئ هادر راسخ منتظم يتولد من تكرار كتل المداخن الخمس، وتوزيع الوجوه بصورة متكررة يخلق إيقاعاً أيضاً وتلك الأحذية الغليظة ذات اللون الواحد موزعة في حركة إلى الأمام تأتينا مع الصباح وتنبت منها كل الآمال .
ذلك اللون الرمادي الذي صبغ به محمد حامد عويس ملابس العمال يتكرر من المقدمة إلى الخلفية ويخلق إيقاعاً راسخاً غير ملحوظ مناسب للجدية الشديدة التي أسبغها على الموقف مكرساً لهيبة وقدسية بليغة، والمزيج البصري هنا يطوف بالمجموعة اللونية السائدة بين الرماديات والبنيات، في تجانس مع لون المدخل والمداخن الخلفية، في إشارة لطيفة إلى توحد العامل مع مصنعه وأدوات الإنتاج - التوظيف اللوني كثيف متوافق يخلق ملمساً خشناً، كما أن تحديد المساحات باللون الأسود يزيد من قوة الأشكال وغلظتها، ويسري الضوء في الصباح الباكر ناعم حذر لكن التجسيم النحتي والتحديد الأسود الواضح يدعم الكتل الرابضة الآتية في جمع نبيل شريف، ومصدر الضوء يقع فوق العقد في مدخل المصنع ويلقى ظله على الحائط، ويتركنا في دهشة وجلال واستقبال باهر نظل فيه لموكب مكثف من الشرفاء البنائين والعمال الذين يملأ بهم صدر المدى في حفاوة .
وفي لوحته المسماة "الجندي"، 150 سم× 75 سم، منتصف الستينيات، ألوان زيتية على قماش، مصورة من مرجع (صورة رقم20 )
فلاح عملاق متطلع إلى الأمام قوي البنية يحتوي فيما بين ذراعيه نماذج مختلفة من البشر ، يمسك سلاحا معلقا في كتفه يظلل هؤلاء الناس، يرتدي ملابس تشبه ملابس الفلاحين أثناء العمل في الحقول وكذلك منديل الرأس. في الخلفية نرى شجرةً ونخيلا وبيوتًا ومآذن ومداخن مصانع في الخلفية، ثم نرى النيل يمتد إلى نهاية الأفق ويقطعه جسم صخري ضخم .الفلاح يمد كفه اليمنى بصورة توحي بالحنان وحماية مصر من غوائل النهر والفقر، ينبثق من جسد العملاق: الحب متجسداً في فتى وفتاة واعدين بالمستقبل الخصيب والتكاثر، ثم تطالعنا البهجة ومرح الأطفال، ثم الأمان والهدوء في فلاح معه حمار يأكل من الأرض التي يحميها العملاق.
خطوط اللوحة قوية صريحة ومكثفة لا تشتت الرؤية، متوافقة مع بعضها في تناغم، فيها رسوخ واستطالة توحي بالثقل والثقة والأمان، كما أن معظمها على هيئة منحنيات أكثر من الخطوط المستقيمة أو الزوايا وهو أكثر جمالا كما ذكر رسكن فالخط محيط مميز حاد وترى (نحيل – مرن – قوي) فالخطوط تمنحنا دلالات رمزية مثل الاستمرارية والإحاطة والاشتمال وامتداد النيل إلي نهاية الأفق: يوحي باللانهائية و الحرية والأمل في المستقبل، الخط يوحي بالحركة وهي هنا حركة هادئة رتيبة هادرة كسريان النهر.
معظم الخطوط مآلها إلى أعلى اللوحة وهذه الحركة إلى أعلى توحي بالمرح والطموح، كما نلحظ المبالغة في الصفات الجسمانية للبطل، ثم التخطيط العام يعطي شكل مثلث رأسه هي رأس العملاق وقاعدته هي البشر. وهو يمنح ذلك الجندي حجماً ضخماً بالمقارنة بأي عنصر آخر في هذه اللوحة مما يذكرنا بصورة البطل الفرد في كلاسيكيات الواقعية الاشتراكية.
يذكر أن الفنان محمد حامد عويس من مواليد قرية كفر منصور محافظة بني سويف. تخرج من مدرسة الفنون الجميلة عام 1945.أسس جماعة صوت الفنان، وهو من مؤسسي جماعة الفن الحديث، حصل من الدولة على أول منحة للتفرغ في عام 1957. ولقد عمل أستاذا بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1958.وكان عميدا لها 1977 - 1979.وكان أول نقيب للفنانين التشكيليين بالإسكندرية.ولقد حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون 2000.وله العديد من المشاركات في المحافل الدولية المهمة كبينالي فينيسيا وبينالي الإسكندرية.وقد اقتنيت أعماله في متاحف العالم:متحف الأرميتاج وبوشكين بروسيا، متحف دريسدن بألمانيا، متحف الفن المعاصر بإسبانيا، ومتحف الفن الحديث بالقاهرة.
|