القاهرة 13 اغسطس 2024 الساعة 11:07 ص
بقلم: د. هبة الهواري
الفنانة الرائدة الثائرة إنجي أفلاطون، تلك العلامة الفريدة في تاريخ التشكيل المصري التي نستدعي روحها الوثابة الخلاقة الصلبة ودورها البناء في تجسيد بديع لعلاقة الفنان بمجتمعه وتجل فذ لنهضة المرأة المصرية في مواجهة قوى الظلام والردة والتقوقع .. كانت تشرق في سماء الحركة الثقافية فتاة رقيقة رهيفة تحلق في سموها البديع وتعطي نموذجاً لصلابة وشجاعة ووعي جسور ما أحوجنا إليه الآن..
كانت تتألق فى تلك الرحلة الشهيرة لفناني مصر لزيارة السد العالي على نفقة وزارة الثقافة حين ذاك التى استضافت حشدا من أشهر الفنانين التشكيليين. وظهرت لوحاتها وقد اختفى منها البطل الفرد أو النجم ليذوب في الكيان الكلى لبقية العناصر من الآلات إلى أشكال طبيعية ويصير الكل إلى واحد والواحد هنا هو العمل المحموم العمل الجماعي هو البطل، وكانت تجوب العالم وتفضح الكيان الصهيوني وتضطلع بالدور القيادي التنويري المأمول من الفنان المصري والمرأة المصرية المثقفة في معرضها الذى أقيم بموسكو حين قالت: "هدفنا، ومهمتنا، أن نستميل جميع شعوب البلدان العربية وكل الشخصيات الثقافية إلى النضال ضد المعتدين من أجل مساعدة الوطن على تقريب يوم الانتصار. وذلك في أعقاب النكسة، كانت تنهض باحثة عن أسلوبها في رابطة وثيقة عميقة بين الفنانة التشكيلية المجربة المثقفة المجددة وبين هموم المجتمع وقضاياه وسوف نتطلع إلى سماوات من إبداعها في ثلاث مراحل مهمة من تاريخ مصر السياسي الأولى في بداية الثورة في لوحة البنائين والثانية في مطلع السبعينيات من القرن العشرين في فترة حرب الاستنزاف والثالثة في بداية الثمانينيات حيث مجتمع الانفتاح وبداية الحراك الاجتماعي في مصر . ففي لوحتها "البناؤون" والتي أنتجتها في عام 1954وهي ألوان زيتية على خشب.
ومصورة من متحف الفن الحديث بالقاهرة وأبعادها 55سم × 85سم.
تبدو لقطة صاخبة من مشهد البناء.حركة دائبة مستمرة من أسفل إلي أعلى حولها الفراغ الواسع الممتد ولنتأمل ذلك التصميم الذي صنعته وهي تعزف تشكيلاً بديعاً من الخطوط الرأسية والأفقية المتعامدة هي التي خلقت صورة البناء حيث التطور من أسفل إلى أعلى برسوخ يعضده التخطيط العام للعمل الذي يوحي بقوة الكتلة الناشئة عن البناء والخطوط المنحنية لأجسام العمال تنقل العين بسرعة إلى النقطة التالية وهي التي تولد الحركة النشطة إلى أعلى والخطوط هناك غير مكتملة توحي بالامتداد واستمرار عملية البناء والتفاؤل حيث انفتحت منابع العلامات وتعددت الدلالات، والشكل العام: هو شكل متوازي مستطيلات يعبر عن مبنى أثناء عملية الإنشاء مكون من مستطيلات واسطوانات وخطوط متعامدة ومتقاطعة تتعامد مع أشكال العمال والحجم المسيطر هو حجم كتلة المبنى الذى تتضاءل أمامه البشر، أما منظور اللوحة فيجعلها كأنها لقطة فوتوغرافية من بعيد لقطة عامة تتجاهل التفاصيل والأشخاص والنقل الدقيق بل تركز على منظومة العمل وإيقاع الإنتاج الكل في واحد في طريق العمل للوصول إلي السعادة للجميع، فالتنمية تحتاج إلى تضافر الحشود المنطلقة وتحتاج إلى كل قوى العاملين في كل التخصصات. وليس هناك نقاط مضيئة على حساب أخرى معتمة بل درجات الضوء موزعة بالتساوي لإبراز العمومية والتوحد والتساوي والموضوعية فليس لدى انجي أفلاطون أبطال بارزون أو أشخاص بعينهم ولكنها معزوفة العمل والتوحد في الهدف ومثاليات المجتمع الناهض، مع التحديد بالأسود لعروق الخشب في بناء الهيكل على إيقاع البناء اللونى الدافئ المبهج النشط المرتبط بالشمس والحياة منحته إنجي للعمال فقط، السماء بدرجات رمادية وزرقاء ضبابية وغير واضحة وكأنها سماء ملبدة بالغيوم على وشك أن تمطر حيث عملية البناء والتقدم محفوفة بالمخاطر والتربص وليست آمنة سهلة. حيث تلك الآفاق الحبلى، كما يوجد تحديد بالأسود للعناصر الرئيسية للوحة واستخدام هذا اللون يدعم الخطوط ويكثف القوة الضوئية لأي لون مجاور، ويضفى القوة والجدية على الخطوط ذات الملمس الخشن من أثر ضربات الفرشاة. حيث الاحتفاء بالمجموع ومنظومة العمل الجماعي والهدف المنشود.
أما في لوحة "الجنازة" التي أنجزتها الفنانة في عام 1981 فنراها تشكل بنيتها من وحداتها اللونية الدقيقة والتي تتضح في شبكة ضوئية تتجلى شيئاً فشيئاً مع صغر اللمسات التي تأخذها من باليتة اللون، مع سرعة جريان الخطوط في منحنيات، تتدفق معها وهي تمتطي صهوة المعاني وتأخذ بعقالها فتسبقها الفرشاة صانعة تلك التيارات التي لا تنتهي والخطوط اللينة النابضة حين تشكل موجات متسارعة وثابة من فيوضات اللون والنقش الرقيق، فهي تغزل نسيج ساحة الجنازة في مرتفعات ومنخفضات وتلال على ضفاف النيل، وتنثر اللون البرتقالي المتقافز مع حركة النادبات المتشحات بالسواد، واستخدمت الفنانة اللون الرمادي للأرضية، الذي يشيع روح الحزن والبرودة. . هي لقطة من مشهد الموت، تذكرنا بمشهد الجنازة الملكية في فيلم المومياء لشادي عبد السلام، حدث هنا تناص بين النص السينمائي والنص التشكيلي وخلقت الفنانة مشهد الجنازة التي أقامها أهل الجبل للفراعين وهم يرحلون وهم يمضون مومياوات بعد آلاف السنين، وحركت إنجي أفلاطون جسد اللوحة مع هدير التلال تقف عليها النادبات، في لقطة صورت من أعلى: كأن طائرا التقطها بسرعة قبل أن يذهب بعيدا، التقطتها الفنانة وهي تبتعد وتسمو، وتكرس الجلال الصامت. حيث الحجم المسيطر والكتلة الطاغية للأرض والتلال وذلك الجبل الرابض الذي تتضاءل أمامه البشر، هو حجم الحقيقة التي تواجه كل منا في النهاية، شاخصة بلا مفر، منظور اللوحة يجعلها كأنها لقطة فوتوغرافية من بعيد لقطة عامة تتجاهل التفاصيل والأشخاص والنقل الدقيق بل تركز على منظومة جماعية وإيقاع صاخب ناشئ عن حركة الأيدي مودعة صاحب المشهد المهيب.
فليس لدى إنجي أفلاطون أبطال بارزون أو أشخاص بعينهم، بل المجموع هو البطل، خضم الزحام يخلق قوة التأثير.
-
من سيرة الفنانة إنجي أفلاطون:
1934: ولدت بالقاهرة.
1941: وكان عمرها 15 عاماً بدأت ممارسة الرسم، ودرست على يد الفنان الرائد كامل التلمسانى.. أحد مؤسسي جماعة الفن والحرية. 1942: بدأت الاشتراك في معارض الجماعة.
درست بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة. 1952أقامت أول معرض خاص، وتجاوزت معارضها 30 معرضاً بعد ذلك.1965: حصلت على عضوية مجلس السلام العالمي. 1965: حصلت على منحة للتفرغ من وزارة الثقافة. اشتركت في العديد من المعارض والبيناليات الدولية، كما ساهمت في تنظيم معارض بمصر والخارج لخدمة السلام والاستقلال وحقوق المرأة ونصر الشعوب واختيرت قومسييرة بجناح مصر ببعض المعارض الدولية. كانت عضواً مؤسساً بنقابة الفنانين التشكيليين. كانت عضواً بمجلس إدارة أتيلييه القاهرة لمدة 12 عاماً ونائبة للرئيس حتى وفاتها. كانت عضواً مؤسساً بحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي. حصلت على وسام فارس من الحكومة الفرنسية 1988 تقديراً لفنها وكفاحها.
|